الامتثال للجماعة في الحالة السورية

2020.04.19 | 00:00 دمشق

gettyimages-877354050.jpg
+A
حجم الخط
-A

وعلى الرغم من أنني كنت يومها تلميذا في الصف الخامس الابتدائي، فإنني لا أزال أتذكر تلك الحادثة بدقة.

 يومها كان مدرس صفنا قد طلب من أحد الطلاب غير المجتهدين الوقوف، ثم سأله:

  • أيهما أثقل، كيلو الحديد أم كيلو الخشب؟

تلجلج نظر التلميذ فوق وجوهنا التي تنتظر جوابه، وعندما لم يستطع أن يستنتج من تعابيرها جواباً، تمتم بصوت منخفض:

  • كيلو الحديد أستاذ.

ابتسم المدرس، وطلب منا أن نصفق له، ثم توجه إلى تلميذ آخر من غير المجتهدين أيضاً، وسأله السؤال نفسه، فسارع التلميذ إلى تكرار الجواب الذي قاله زميله السابق، ومرة أخرى طلب المدرس منا أن نصفق له.

وراح كل التلاميذ يرفعون أصابعهم للإجابة عن السؤال بالغ السهولة، وللمشاركة في وليمة التصفيق المفاجئة، وعندما يأتي دور أحدهم، كان يسارع إلى تكرار الإجابة نفسها، وبدورنا كنا نكرر الصفقة ذاتها.

وعندما حان دوري، وكنت- يومها- من عداد التلاميذ المتفوقين، أعدت الإجابة الخاطئة عينها، وحصلت على نصيبي من التصفيق ذاته، لكن السلسلة توقفت عند تلميذة ما كانت حينها في عداد المتفوقين، تلك التلميذة التي نادراً ما كانت ترفع أصبعها للمشاركة، والتي عندما وقفت، نظرت إلينا كما لو أنها تخافنا، ثم قالت:

  • متل بعضن أستاذ.

صمت المدرس، وضحكنا نحن من سذاجة الجواب، نحن الذين حظينا بمكافأة التصفيق، وتمتعنا به، لكن المدرس أنهى صمته، قائلاً:

  • كل التصفيق السابق كان كذباً، الآن صفقوا فعلاً لها؛ لأن جوابها هو وحده الجواب الصحيح.

إن السوريين اليوم يشبهون في انقساماتهم ما جرى في بنية القصة وتداعياتها؛ إذ لكل جهة جوابها الخاطئ الذي يستند إلى جواب سابق خاطئ، ولكل جهة مروجيها ومصفقيها وشبيحتها، غير أن الفرق الوحيد، هو: أن أحداً لا يقف لكي يوقف سلسلة الأخطاء المتتالية، بل على العكس من ذلك فإن التصفيق يزداد ضراوة مع كل إجابة خاطئة. هذه الحال التي تدفع إلى الظن: أن أحداً إذا غامر وقال الجواب الصحيح، فقد يُرجم، ويُصلب، وتُقطّع أطرافه، وتُنثر في الجهات الأربع.

وهي حال قد نتفق جميعاً على تسميتها بالقطيعية، أو بظاهرة القطيع، بينما يطلق عليها علم النفس الاجتماعي "الامتثال للجماعة "، وهي التي تتشكل حين يكون من الصعب جداً على فرد واحد أن يخالف الجماعة، وحين أيضاً يقوم أفراد الجماعة بتغيير اتجاهاتهم وآرائهم وحتى طريقة تفكيرهم استجابة لإغراء الجماعة وضغطها، وفي أحسن الحالات قد يغيرون طريقة التعبير عنها فقط، تدليساً وإيحاء بالانسجام مع التيار الغالب وتأكيداً لانتمائهم إلى الجماعة.

إن الصفة الأهم من بين صفات الجماعات التي نعيش في كنفها- نحن السوريين- كل يوم، هي: أن معايير جماعاتنا تطغى عليها الاعتبارات النفسية والعصبية والتي ربما لا تكون حاضرة في معايير جميع الأفراد المنخرطين فيها، فيما لو أخذنا كل فرد بمفرده؛ فالكثير منا يصمت عن آراء يؤمن بها، لأننا لا نجرؤ على تأييدها علناً، ولا نجرؤ حتى على مناصرة من يقولها إذا تعرض لهجوم من الجماعة، لأننا نرتعد خوفاً من الجماعة، ومن أن نكون خارجها.

تميل الجماعة - غالباً- إلى المعايير الوسطية، هذا ما يخبرنا به علم النفس الاجتماعي، وهذا ينسجم مع فكرة وجود الجماعة التي تفترض التقاطع الأعظم بين أفرادها، وتطلبه، لكن هذا المعيار قد يسود فيما لو كانت الظروف المحيطة طبيعية، أو على الأقل ليست متطرفة في وقائعها، أما عندما يصبح الظرف بالغ القسوة، أو بعيداً عن أي شرط من شروط الحياة الطبيعية؛ وعندما يصبح حضور الدم طاغيا، فإن الجماعات- أيضاً- تميل إلى تبني المعايير المتطرفة؛ فيصبح حينئذ الخروج عن هذه المعايير المتطرفة أشد صعوبة، ويجابه باستنكار وقمع أشد.

 لا تغير كثيرا طبيعة الأهداف والأفكار التي تحملها الجماعات وتوصيفها الأخلاقي في مجتمعنا من تطلبات الجماعة من الفرد الذي ينتمي إليها، ولا من تأثيرها عليه؛ فالتعصب الذي يبديه المنتمي إلى تنظيم الإخوان المسلمين- مثلاً- لا يقل عن عصبية الشيوعيين المنتمين إلى أحزاب شيوعية، ولا عن عصبية القوميين الذين ينتمون إلى أحزاب قومية، وكذلك لا يختلف في هذا المعارضون المنتمون إلى جماعاتهم عمن ينتمون إلى جماعات الضفة الأخرى الموالية.

 وقد يكون تجسيد فكرة الامتثال التام للجماعة وخضوع الفرد لها، هو ما يمكن رؤيته بوضوح شديد عند الاقتراب من التصنيفات العميقة في سوريا: الطائفية، أو القومية، وربما العشائرية. هنا يغدو المعيار متطرفاً، ويصبح الرأي الرافض لمعيار الجماعة ملعوناً، وخائناً، ومرفوضاً.

 من هنا تأتي أهمية الدور الذي يلعبه المثقفون والمفكرون المستقلون الذين تحميهم استقلاليتهم من الخضوع لتأثير الجماعات

إن بنية الجماعات وسلوكها ليس حكراً على المجتمعات التي تشبه مجتمعنا السوري، إنها سمات عامة تنطبق عموما على كل الجماعات في كل المجتمعات، لكن الاختلاف الجوهري يكمن في معايير وأهداف هذه الجماعات، وفي قدرة الأفراد على الخروج من "دوامة الصمت" التي تفرضها سطوة الجماعة، ويكمن أيضا في التباينات الرئيسية بين مجتمع وآخر. أما من يحاول الوقوف خارج هذه المعايير ونقدها، فهم المستقلون، إذ على عكس الفرد الممتثل للجماعة، يكون تصرف الفرد المستقل غالباً أكثر فعالية من الناحية العقلية، وأكثر نضجاً وثقة، وأقل جموداً وتسلطاً.

 من هنا تأتي أهمية الدور الذي يلعبه المثقفون والمفكرون المستقلون الذين تحميهم استقلاليتهم من الخضوع لتأثير الجماعات، لكن عندما يتخلى المثقفون والمفكرون عن استقلاليتهم، وينخرطون في جماعات؛ فحينها يصبح الخروج من دائرة الجماعة إلى دائرة المجتمع أكثر صعوبة، وحينها تنغلق آفاق الحوار، ويصبح الصراع مفتوحاً على احتمالاته المتطرفة.

وإذا كان ممكناً أن يكون وجود الجماعات حلاً لمجتمع ينهار، فإن هذا يشترط تفهم هذه الجماعات لوجود الجماعات الأخرى، ومساحات التقارب والاختلاف واحترام المشتركات، لكي يكون الحل ممكناً، لا أن تضيق وتتعدد وتنغلق فتصبح الطريق الأسرع إلى موت محتم لهذا المجتمع.

والنتيجة التي لابد منها مهما تكن الجماعة، ومهما تكن تصلباتها وعصبياتها وإيماناتها، هي: أن الحقيقة ستظل هي الحقيقة؛ فلن يغيرها حماس ولا تصفيق، وأنها ستظل أبداً، كما كانت أزلاً، وكما ستكون دائماً، وهي أن كيلو غرام الحديد ليس أثقل مطلقاً من كيلو غرام الخشب حتى وإن اختلفت كثافة المادتين.