"الإرهاب" في سوريا.. حين تذبح الضحايا بعضها

2022.01.06 | 06:02 دمشق

ttty.png
+A
حجم الخط
-A

لم يعد خافياً أن مصطلح "الإرهاب" صار "ماركة مسجلة" بيد المصنِّف؛ سواء بين الدول أو الأفراد؛ فأي دولة فيها ما يُسيل لُعاب الدول الكبرى تُفتعل فيها حوادث "إرهابية" لتكون فريسة لها، وأي نظام يشذّ عن عصا الطاعة يُحارب لأنه "يدعم الإرهاب".

ولما كانت الثورة السورية خرج علينا بشار الأسد ليختم على كل السوريين الأحرار الذين طالبوا بالحرية والكرامة بأنهم "إرهابيون"، ثم جاءتنا إيران بميليشياتها ومرتزقتها لتحارب فينا "الإرهاب" الذي يهدّد مشروعها، وبعدها دكّتنا طائرات الروس لأننا نحمل مع جينات الحرية جراثيم "إرهاب"، ثم جاءتنا عصائب سود يفاخرون بأنهم بقتلنا "يُرهبون" أعداء الله، فتسلّط علينا بهم مَن يقصف ويقتل بحجة أنه يُحارب "الإرهاب".

فسكّينٌ أسديةٌ تروح على رقابنا وأخرى روسيةٌ أو إيرانيةٌ أو داعشيةٌ تجيء؛ والمذبوح هو صاحب دعوة "حرية .. حرية".

وحيث إننا – الشعبَ السوريَّ – ضحيةُ إرهابٍ تكالبت فيه علينا مع نظام الأسد دولٌ وفواعلُ كثيرةٌ مما دون الدول؛ فالمأمول افتراضاً أن تكون لدينا حساسية عالية تجاه كل ما يتصل بـ "الإرهاب"، وأن نكون – فيما بيننا على الأقل – أبعد ما يمكن عن كل ما يتصل بذاك الجذر المشؤوم "إرهاب" حتى نضمن أن يختفي من قواميسنا؛ ولكنّ ما ينطق به واقع الحال خلاف ذلك مع شديد الأسى والأسف، حتى لَيكاد بقايا العقلاء يجزمون بضرورة خضوعنا جماعياً لعلاج نفسي وروحي مديد.

ولعل القارئ الكريم هنا انصرف ذهنه إلى فلانٍ وفلانٍ – في قائمةٍ طويلةٍ – من أبناء الثورة قضَوا في سجون النصرة، أو فلانة وفلانة ممن يُتهم بها فصيل إسلاميّ، أو ما يُتداول عن تصرفات قادة ميدانيين من فصائل الجيش الحرّ مع مُخالفيهم؛ في تمثيل ٍطويلٍ للاعتداءات والتجاوزات التي تدخل في "الإرهاب" على العسكريين والفصائل المسلّحة.

ولست هنا في صدد مناقشة تلك الأمور لإثباتها أو تبريرها؛ فمنها ما قامت شمس النهار تشهد به، ومنها ما راج واشتهر دون تثبّت؛ ولكنّ الذي أريده هنا "الإرهاب" الذي بدأ يقتل السوريين بغير بندقية فصيل أو عسكري، حتى اختلطت علينا الخطوط وتداخلت، فلا تسمع في رؤوسنا أحياناً إلا تشويش شاشة التلفزيون بعد منتصف الليل في الزمن الجميل.

فمِن طبيبٍ أكاديمي شهاداته بعدة لغات في مستشفى هو بغنىً عنه يقول شيئاً؛ فيُرمى ويُحرم من ممارسة المهنة لأنه اختلف مع موظف يُفترض أنه أصغر منه علمياً ووظيفياً. وإن سُلط عليه الضوء لوجود طرف خارجي فما حصل مع غيره من العاملين في القطاع الطبي يجعلنا نميل إلى تعميم غير حميد فيه؛ سواء بسبب اختلافات شخصية أو إيديولوجية أو مناطقية.

إلى معلّمين في المدارس لا تقلّ عظمة رباطهم وثباتهم في ساحة التعليم عن المرابطين على الثغور، يخرجون يطالبون بجملة حقوق يقرّ لهم بها الجاهل قبل العالم والصغير قبل الكبير؛ ليكون – فيما كان من مقابلة مطالبهم المحقّة – رسالةُ تهديدٍ من واحدٍ محسوبٍ على سلك التربية والتعليم بكلام سُوقي مقذع بحقّ أولئك المعلّمين. ومن الطريف هنا أن عدداً من الوساطات لاستيعاب تحرُّك المعلّمين كانت من "الثوّار العسكريين" المتهمين عند كثيرين بأنهم أهل "الإرهاب".

وليس بعيداً عن مثل هذه التصرفات "الإرهابية" في سلك التعليم مثلاً ما كان يحدث خلال سنوات وجود المدارس السورية المؤقتة في تركيا؛ فكثيراً ما كان المشرفون الأتراك يتندّرون علينا بكثرة ما تصلهم من "تقارير كَيدية" من السوريين أنفسهم ضد بعض لمجرد اختلاف في التوجُّه الفكري أو الخلفية المناطقية أو التنافس على الدعم.

وعلى ذكر التقارير الكيدية التي كنّا نظنّ واهمين أنها اختصاص شرذمة قليلين من المُخبرين لفروع الأمن السوري، حتى تبيّن أنها فيروس يستشري بيننا – نحن السوريين – فمِن أتعس ما قيل عنّا في ذلك رغم كثرة أدوائنا كلامٌ لضابط أمن تركي قاله لصديقٍ لي بعد توقيفه بشبهة خاطئة: الـمُخبرون عندنا يكتبون تقريراً من أسطر أو صفحة؛ لكنّ السوريين - يقصد في تركيا - يكتبون ببعضهم صفحات ودفاتر.

ثم إلى رجلٍ لا يعجبه أن يكون مشروعٌ مدنيٌّ في منطقة نفوذه – يعني قطّاعه وإمارته الموهومة – خارج وصايته ومنهجه، فيحاول تشويه سُمعة القائمين عليه وتنفير الراغبين والراغبات عنه، لكنه يفشل لحرص الناس على تحسين ما هم فيه؛ وحينما يُفلس ذلكم "الرجل" يغيّر موجة الإرسال ويهدّد بتفجير المشروع كله بما فيه ومَن فيه؛ فإن لم يكن هذا هو "الإرهاب" فما الإرهاب؟

إلى "منظمة إنسانية" تُدرج عند التصنيف تحت مسمى "منظمة مجتمع مدني" تكون وفيّةً لمذهب داعميها الفكري وإيدولوجيتهم أكثر بكثير من وفائها للقضية السورية وللسوريين، تنصب على بابها ميزان أولئك الداعمين تزنُ به مَن يعمل فيها؛ فإنْ شذّ برأي أو منشور أو علاقة عن "منهج" الداعمين جعلوه نكالاً وطردوه، ولو أن الأمة اجتمعت بعد تصنيفه تشفع له ما أفلحت، حتى وإنْ حقّق أضعاف ما يكتبونه زوراً من شروط التوظيف والعمل؛ فأي "إرهاب" هذا؟

ولا أجد فيما أعلم وأخبر فرقاً بين مختلف المنظمات السورية في ذلك؛ ما كانت منها ذات خلفية دينية أو ذات خلفية علمانية؛ حتى لَتجد الرجل أو المرأة على مذهب منظمته أو جمعيته أكثر التزاماً ووفاءً مما يكون عليه من الالتزام والوفاء للمذهب الذي وُلد عليه. ومَن يشهد جلسات المصارحات الخلفية للعاملين في المنظمات عرف صدق ما أقول؛ وما أقلّ المنظمات التي تبرأ من ذلك "الإرهاب".

ولا أرى بعيداً عن ذلك الحرب الشاملة التي شُنت على رئيس المجلس الإسلامي السوري حين تعرّض لطَيفٍ من المنظمات يرى سماحته فيها خطراً على الناس، وهو خطيب جمعة يخاطب الناس في مسجد جامع، ولستُ هنا لتقييم ما قاله الشيخ مضموناً وزماناً وتعميماً؛ فما أريده في سياق "إرهاب" السوريين بعضهم هنا أن ما وقع عليه من الهجوم والبيانات ممن شعروا أنه يعنيهم، واستنفارهم وحربهم على مقامه أكّد لبعض الناس صدق ما قاله عنهم؛ فإن كان قد قال وردّ عليه مَن يقصدهم، فما حال من سارعوا إلى البراءة من كلام الشيخ وتخطئته من بعض القريبين من خطّه ومَن كانوا يودّون تقبيل يده عند باب الجامع لو استطاعوا؛ فهل يخرج هذا عن "الإرهاب" الذي نذبح به بعضنا؟ ومنذ متى وعندنا جهات أو أفراد أو قضايا هي خطوط حمراء لا تخرج عن صنم "محاربة السامية" التي نصبته "إسرائيل" تُوجب الركوع عنده لكل مَن يريد الرفعة وتذبح عنده كل مَن يأبى ويُعاند؟

لستُ في معرض البحث والاستقصاء فذلك يطول كثيراً جداً، ولم أقصد إلا التمثيل من حياتنا – نحن السوريين – على ما نمارسه ضد بعضنا من "الإرهاب"، ونذبح به من غير سلاح.

فإن قيل: ضربتَ أمثلة عديدة؛ لكنها كانت في بعضها مبتورة أو جاءت إشارات لم تنهض بها العبارات. قلتُ: إنما ورّيتُ في بعض تلك الأمثلة – بكل صراحة وأسى وأسف – خوفاً من سَوط بل سياط "الإرهاب"، ولو شئتُ التسمية لَمَا تركتُ جملة مبهمة أو مثالاً دون أسماء كاملة؛ وآمل ألا أحتاج يوماً أن أملأ الفراغات الناقصة لأنها عوارض يجب أن تزول وتنمحي من حياتنا حتى نحقق ما نأمل ونجاهد من أجله.

ولو أنّ العُمرَ امتدّ بطَرَفة وأدرك "الإرهاب" لَجعل بيته القديم في المعلَّقة (وظلم ذوي القربى...):

"إرهابُ" ذِي القُربى أشدُّ مَضَاضةً           عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الحُسامِ المهنَّدِ

ما أجمل تلك الهتافات التي انطلقت يوماً "حرية .. حرية"، وما أقسى أن نُخالف معناها وحقيقتها.

سنواتٌ ونظام الأسد وحلفاؤه يمارسون علينا أشد ضروب "الإرهاب"؛ فهذا يكفي السوريين ليكون أبعد الناس عن "الإرهاب"، ولا أعني إرهاب غيرهم دولاً وأفراداً فحسب؛ إنما أعني أن نكفّ عن إرهاب بعضنا بما تحت أيدينا من نفوذ أو إعلام أو علاقات، لنعيش – على الحقيقة لا المجاز – أجواء "الحرية" التي خرجنا منذ عشر سنوات نهتف لها.