الأسرة بين (الاغتراب والعَوَز)

2023.08.01 | 19:22 دمشق

الأسرة بين (الاغتراب والعَوَز)
+A
حجم الخط
-A

لم يكن ببال الرحّالة ابن بطوطة خلال رحلته الاستكشافية، أنه سيكون من بعده رُحّل آخرون، فهو حين انطلق من مدينة طنجة المغربية عبر القارات الثلاث للعالم القديم، قاطعاً خلال رحلاته أكثر من 120 ألف كيلومتر، كان حينها مستمتعا غاية المتعة، لأنه كان ذاهبا وفي مخيلته رؤية ما وراء بلاده من مخلوقات وجغرافيا لم يرها من قبل.

وبالتأكيد لم تك رحلاته للبحث عن وطن، فقد كان يعلم جيداً أنه مهما زار من بلدانٍ ودار، فإن وطنه ينتظره، بينما نرى رحلات الاغتراب اليوم تتسم بسمات مختلفة تماماً، فترى الرجل يترك أهله وولده ليهاجر إلى بلاد لا يعرفها؛ مولّياً ظهره لوطنه الذي خانه وأفقر جيبه وأعدم أمله، يهاجر ليجد لقمة عيشه على حساب عائلته، تجده مضطراً مغلوباً يسعى في مناكبها؛ علّه يسد أفواه من يعول، ويا ليته يفعل!

ففي كثير من الأحيان يضيع الأمل في أوطان زائفة ووعود كاذبة، ويتيه بين دروب المهربين وتجار البشر، ليترك أسرته تحت نِيْر العَوَز والفَقْد.

والسؤال:

إلى متى ستظل دول العالم تلعب لعبتها الديموغرافية، وتعيد تشكيل المجتمعات وفق ما تراه مربحاً ومحققاً لمصالحها الخاصة؟

لست هنا بمعرض لوم الأفراد بأي حال، فلكل أسرة قصة ووجع عميق وجرح غائر يستنزفها، ولكني أستنهض القارئ العزيز ليمسك معي بطرف الخيط، لنحلل مشكلة الاغتراب بشكل موضوعي، لعلنا نجد لها ولو حلاً واحداً منطقياً.

وإنه من المعلوم أن أهم أسباب الهجرة هي الحروب والاضطرابات الأمنية والفقر، وانعدام حقوق الإنسان الأساسية وكبت الحريات، ومنذ انطلاقة أول شرارة من الربيع العربي، وجموع الناس في غالب الدول العربية؛ تغلي وتفور في مرجل الغضب، ومنهم من اعتقل ومنهم من قتل؛ واختار البعض الهجرة لينجو بنفسه وأسرته، ولكن تحدياً جديداً ظهر أمامهم؛ بل قل تحديات منها اختلاف اللغة والعادات والقوانين الخ..

فهم حين اضطروا للبحث عن بلد مستضيف؛ حاولوا بناء حياة جديدة وتخطي العقبات الكبيرة ليعيشوا بأمان.

أمام هذه المعوقات الصعبة يقف الإنسان العربي في حالة من الذعر الشديد؛ ومحاولات للإفلات من عقال الإحباط والكآبة، أضف إلى ذلك تحدي الملاحقات الأمنية له بحال مخالفته لأي قانون من قوانين البلد الذي يعيش فيه، إما لأميّته اللغوية، أو لجهله بقوانين البلد.

حلول ممكنة!

وإني أرى أن أول احتياجات المغترب، هو حاجته للاندماج مع البلد المضيف إلى أن يتحدد مصير إقامته، وإلى ذلك الوقت يقع عليه أولاً محاولة تعلم اللغة كحل أولي ليفهم ما يجري حوله، ومن ثم البحث عن سبل عيش تلائمه، فإن الكثير من المغتربين عملوا أعمالاً مؤقتة؛ لا تشبه اختصاصهم ولا شغفهم؛ فعلقوا بنفس الدائرة سنوات عديدة وما زالوا يراوحون، فلا هم استطاعوا أن ينشئوا مشروعهم الخاص، ولا تمكنوا من الانسجام مع العمل الذي ينهكهم ويسلب إبداعهم، وهذا برأيي أهم عامل من عوامل التوتر العام الحاصل في كافة بقاع العالم التي تفيض بالمهاجرين.

وكذلك فإن المطلوب من المهاجر أيضاً بالمقام الأول، أن يقدم الصورة الحسنة عن وطنه الذي قدم منه قدر الإمكان، فإن هذا يعتبر ضرورة من الضرورات، لا سيما مع صعوبة ظروف العودة نحو الوطن الأصلي.

أضف إلى ذلك ضرورة الانتباه إلى الرسائل التربوية التي يبثها أولياء الأمور لأبنائهم، وقد سمعت شخصياً الكثير من العبارات التي تنضح بالعنصرية من الطرفين، فإن لم ننظف أسماع الأبناء من أمثال هذه العبارات؛ فإن أكواماً من المشاكل ستتراكم يوميا؛ وستفرز المزيد من الإحباط والانزعاج وربما العنف.

علاوة على ذلك فإن مشكلة الاندماج والانسجام مع البلد المستضيف تتفاقم بحال إهمال المهاجرين، فالمسؤولية إذن مشتركة بين المهاجر وبلد المهجر.

 فالسويد مثلاً حازت المرتبة الأولى بعملية الاندماج مع المهاجرين؛ نظراً للاهتمام الذي توليه تجاه اللاجئين وتسهيل القوانين والضوابط التي تسرّع عملية الاندماج.

إذن على هذا المهاجر الذي تقطعت به السبل في بلد المهجر، أن يعمل على جبهتين، الأولى: إعطاء صورة جيدة عن مفهوم الأجنبي أو اللاجئ، من حيث احترام قوانين البلد، ومعاملة الآخرين بلباقة واحترام، والابتعاد عن أي مخالفة أمنية أو اصطدام مع الآخرين.

والثانية: أن يخطط لعملية الاستقرار الحقيقي إن كان فعلًا قد نوى الاستيطان في هذا البلد، وهنا يكمن دور أهمية اللغة، والإحاطة بثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، وتأمين عمل يستطيع من خلاله مقاومة ظروف الغربة، لا أن يركز فقط على مساعدات الدولة، أيضاً عليه خلق خيوط تعارف سليمة بين أصدقائه في العمل مثلاً وإظهار مرونته وقابليته على أن يكون واحداً منهم في مستقبل الأيام.

وقد أجرى كلّ من "المجلس البريطاني"، و"مجموعة سياسة الهجرة في الدول الأوروبية" دراسة اجتماعية شملت 25 دولة أوروبية إضافة إلى كندا؛ توصلت إلى أنّ اندماج الأجانب لا يمكن أن يتوقف عليهم فحسب، بل لا بد للدولة أن تقدّم الدعم لهذا الغرض، ومن أهم العوامل التي تسهل عملية الاندماج حسب الدراسة هي: تسهيل دخول الأجانب نحو سوق العمل، تسهيل عملية التجنيس، بل وحتى منحهم حق الانتخاب. التحلي بالجرأة عند مقارنة القوانين والتشريعات القانونية المتعلقة بسياسة الاندماج التي تقوم على أسس مشتركة.

وما حالات الاصطدام المنتشرة في بلاد المهجر إلا حصيلة التقصير في هذه القوانين، مما يسبب حالة من التوتر العام بين المهاجر وابن البلد الأصلي يصعب السيطرة عليها.

فالأمان هو ذاك الحلم الذي يمضي بصاحبه إلى أصعب الدروب ويهون عليه السقوط في أي هاوية رغبة في الطمأنينة والسكينة.

كما أن الشعور بالأمان يعتبر ثاني حاجة أساسية للعيش البشري، إلا أن قلة من الناس من تتوفر له هذه الرفاهية، ويعتبر نفسه غير مستحق لها، فقط لأن وطنه لفظه يوماً ما.

إنها عبودية العصر، فإنك ترى أن أغلب الناس يفكرون بالهجرة إلى بلدٍ آخر، فمن يعيش في الشمال يظن الجنة في الجنوب، ومن يعاني شظف العيش في الجنوب يحسب أن بلاد الغرب ستفرش له الورد وتمنحه القيمة التي حرمه إياها وطنه.

وبين هذا وذاك تتشرذم الأُسر، ويجلد اليُتْم كبد الأبناء وآباءهم وهم على قيد الحياة.

وإني أرى أن ثمة عوامل تبرر قرار الهجرة والاغتراب، إلا أن الأمر لا يؤخذ على علّاته، فلا بد من دراسة حقيقية لكل خطوة يخطوها رب الأسرة على الخصوص، كي لا يعرّض أفراد أسرته للمهالك ويحرمهم نعمة الأمان، أقول هذا وأنا أدرك مدى حرص الآباء على سعادة أبنائهم وبذلهم أرواحهم لأجلهم، لكن التسرع في اتخاذ القرارات دون رويّة قد يعرضهم وأسرهم للكثير من المغامرات غير محمودة العواقب.

لم يتردد (س، ق) في التفكير بالهجرة يوماً، لكن خوفه على أولاده من الغرب؛ كان يحجمه عن الإقدام على هذه الخطوة الخطيرة دوماً، إلا أن قلة ذات اليد وتراكم الديون جعله يتخذ قراره بالهجرة أولاً؛ لتلحق به أسرته بعد تثبيت قدمه بإحدى الدول، وقد مضت خمس سنوات؛ وما زال يترحّل من بلد إلى آخر، ولم يجد لنفسه وطناً حقيقياً يمنحه الأمان.

وغيره كثير ممن اضطرته الحرب أو الفقر للهجرة إلى بلاد لا يعرفها، بل سلك دروباً معتمة وسط الغابات معرضاً روحه للموت، آملاً أن يحظى بوطن آمن يعيش فيه بأمان.

والسؤال برسم البحث؛ متى تدرك البشرية أننا إخوة في الإنسانية، وأن هذه الأرض كلها موطننا جميعاً، بغض النظر عن المصالح السياسية والاقتصادية التي التهمت القيم وسلبت العقول الحكمة والرحمة؟