الأثر المدمر للحرب على البيئة السورية

2023.06.18 | 11:54 دمشق

الأثر المدمر للحرب على البيئة السورية
+A
حجم الخط
-A

كثيرة هي الويلات التي حاقت بالمجتمع والأرض السورية نتيجة الحرب الدائرة من عام 2011 إلى يومنا هذا، بعضها تكرر الحديث عنه ولم يكن كافيا، فالاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والمجازر المتكررة والتهجير القسري والهجرة فرارا من الحرب والموت الجاثم على الصدور، والأزمات الصحية المتعاقبة وندرة الدواء، وفقد العملة السورية قيمتها، والتضخم المستمر في الصعود وفي خنق السوريين، الأمر الذي جعل البلاد تحت خط الفقر بمسافات، وتشرد العائلات وتفرقها في مدن داخل وخارج سوريا، وتفشي تجارة المخدرات التي تتصدرها وتصدرها دولة العصابات والمافيات الأسدية، الرعب والخوف الذي غدا مكوناً أصيلا ومتمكنا من النفوس التي أصبحت رهينته اليومية في الصحو والمنام، تسلط الأجهزة الأمنية وشبيحتها الذين يسيطرون على كل مسامات الحياة اليومية للسوريين كافة، حتى الموالون للنظام لم يكونوا بمأمن من ويلاتهم وابتزازهم، تمزق البنية الاجتماعية السورية بل وتمزق الأسرة الواحدة بين مؤيد للثورة ومؤيد لنظام القتل في سوريا، وصامت أو حائر لا يستطيع حسم أمره مع أي الاتجاهات يقف، حتى التضييق على المعونات القليلة التي تتدفق من الأبناء في الخارج لمعونة أهليهم الرازحون في تلك الأرض المحروقة. 

مشكلة أخرى ربما تكون من أشدهم خطراً على الشعب السوري وأرضه، هي أزمة التدهور البيئي الذي لم ينل حظه الوافي من التنبيه لمدى خطورته وتأثيره المديد على الحاضر والمستقبل، والذي قد يتجاوز في خطره خطر المقتلة السورية الدائرة، إنه التدمير الممنهج للبيئة الطبيعية السورية والذي بدأ قبل الحرب، بسنوات طويلة حين بدأت الشركات العالمية تفرض استبدال بذارنا الطبيعية والمتكيفة بشكل مقاوم لمعظم الآفات المحلية، ببذار مهجنة ومخصصة للإنتاج مرة واحدة، ليبقى مزارعونا أسرى تلك الشركات فإن شاءوا منحونا البذار بأسعار يحددونها وفق قواعد الاحتكار وإن شاءوا منعونا وألزمونا استيراد الغذاء الذي يشكل عصى الإذلال للدول والشعوب.

أورد تقرير اليونيسيف عام "2023" أن ما يزيد عن نصف سكان سوريا كانوا يعانون من نقص المياه الصالحة للشرب

يمكن للمتتبع أن يلاحظ طفرةً في الحالة البيئية المتردية التي وصلت إليها سوريا بين عامي "2011-2023" وطغيان حالة التلوث البيئية بشتى أنواعها، والتي ستستمر عقابيلها لأجيال متعددة، ويمكن أن نميز بين محاور ثلاث كان لها التأثير الأكبر في هذا الباب

  • ندرة المياه وتلوثها والعبث الغير منضبط بمواردها، فقد أدى التدمير الطويل والمتعمد في الكثير من الحالات إلى تلف البنية التحتية وغياب الصيانة الدورية اللازمة لأنظمة الري ونقل المياه، والغياب الكامل لترشيد الاستهلاك، والحماية من تلوثها ومعالجتها لتكون صالحة للاستخدام البشري، وقد أورد تقرير اليونيسيف عام "2023" أن ما يزيد عن نصف سكان سوريا كانوا يعانون من نقص المياه الصالحة للشرب، وقد كشفت عشرات التقارير قبيل عام 2011 عن انتشار مجموعة من الأمراض الخطيرة وفي مقدمتها السرطانات بسبب المياه الملوثة التي كانت تصل للسكان على أنها صالحة للشرب، وقد شهدنا بين عامي 2000 و2011 حملات أمنية شرسة تنال من كل مختص طبي يتحدث عن هذه الكوارث، حين انتشرت السرطانات بشتى أنواعها وبأعداد غير مسبوقة في قرى طرطوس واللاذقية وغيرها من البلدات السورية، بسبب تسرب مياه الصرف الصحي "المياه السوداء" إلى أقنية مياه الشرب بفعل اهمال صيانتها اللازم دورياً.
  • تآكل التربة وتلوثها وتدهورها: بحسب تقارير الأمم المتحدة، يمكن الجزم أنه بحلول عام "2023" فإن 75% من الأراضي الزراعية السورية تعاني من انخفاض حاد في إنتاجيتها بسبب سوء الإدارة والاستغلال المفرط وبسب العوامل الكثيرة الناتجة عن الحرب، من قصف مستمر بالبراميل والصواريخ، وسيطرة القوى المسلحة، ناهيك عن حرب الأرض المحروقة التي ينتهجها النظام السوري، أسوة بما فعله الاستعمار الفرنسي في الجزائر ذات يوم، وبما يفعله الاحتلال الإسرائيلي إلى اليوم في فلسطين، وقد أظهرت الأبحاث من منظمة PAX" وهي أكبر منظمة عاملة في مجال السلام في هولندا. تعمل على حماية المدنيين من أعمال الحرب وإنهاء العنف المسلح وبناء السلام الشامل" في عام 2023 أن تركيز المعادن الثقيلة في التربة السورية اليوم باتت أعلى بنسبة 1000-2000 ٪ من مستويات ما قبل الحرب، وهو إرث دائم سيضعف إنتاجية التربة لعقود.
  • إزالة الغابات: سبق أن أصدرت منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" تقريرها القديم والذي يتحدث عن انخفاض قدره "37%" من مساحة الغابات السورية بسبب الحرب، بين عامي 2011 و2013 فقط، وذلك نتيجة للقطع الجائر والمستمر للأشجار، بهدف الحصول على الوقود اللازم للتدفئة والطهي، إضافة للدمار الناتج عن القصف، والذي أفضى بحلول عام "2023" إلى إزالة الغابات من نطاق واسع، فقد أكدت صور الأقمار الصناعية فقدان ما يقرب من 60 ٪ من الغطاء الشجري في سوريا.

ليس هذا وحسب، فالكوارث البيئية التي انفجرت بشكل هائل عقب اشتعال الحرب في سوريا، لا يمكن الإحاطة بها في صفحات قليلة، لكن يمكن الإشارة إليها لقرع نواقيس الخطر، فهذه الكوارث ليست محصورة في الأرض السورية وحدها، بل سرعان ما ستكون نتائجها معدية ومؤثرة في المحيط القريب والبعيد تالياً، فالتلوث سريع العدوى والانتشار سواء تلوث التربة أو الهواء أو المياه.

بحلول عام 2023، أفادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن واحداً من كل ثلاثة نازحين سوريين أشار إلى التدهور البيئي، إلى جانب الصراع، كسبب لنزوحهم

وقدر معهد دراسة الحرب (ISW) زيادة بنسبة 150٪ في الجسيمات (PM2.5) في الغلاف الجوي لسوريا بين "2011-2023" وذلك نتيجة سحب الدخان الكثيف الناتج عن احتراق آبار النفط، ومحطات التكرير المحلية التي تديرها الميليشيات المسلحة بأدوات بدائية، والتي تنتج غازات مدمرة للعاملين فيها والمجاورين لها، الأمر الذي نتج عنه آلاف الضحايا والمصابين بأمراض لا شفاء منها.

يضاف إلى كل ما سبق تأثير هذا التدهور على التنوع البيولوجي الذي أصبح ضحية صامتة. أشار تقرير صدر عام 2023 عن الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة (IUCN) إلى أن 35٪ من أنواع الحيوانات والنباتات في سوريا معرضة لخطر شديد بسبب فقدان الموائل بسبب أنشطة الحرب وزيادة الصيد والصيد الجائر.

كل هذه الأسباب شكل عاملاً فاعلاً في عمليات النزوح، فبحلول عام 2023، أفادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن واحداً من كل ثلاثة نازحين سوريين أشار إلى التدهور البيئي، إلى جانب الصراع، كسبب لنزوحهم.

كل ما سبق ذكره جزء صغير من الكوارث المستمرة التي تجعل من إيقاف الحرب أولاً، والعمل برعاية دولية على معالجة الندوب البيئية التي ستستمر معالجتها عقود برمتها، من الملح جداً إدماجها في استراتيجيات الانتعاش المستقبلي وإعادة التأهيل البيئي، من تنظيف التربة المشبعة بالتلوث، إلى إعادة التحريج بشكل واسع ليستعيد الغطاء الأخضر دوره في مقاومة التلوث وإعادة التوازن الطبيعي لهذه الأرض.