icon
التغطية الحية

اقرأ كتابين شهرياً | رواية "وصايا الغبار" لـ مازن عرفة - الحلقات 4-5-6

2024.03.06 | 21:38 دمشق

فغقف
 تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

"اقرأ كتابين شهرياً" بادرة ثقافية أطلقتها رابطة الكتاب السوريين في مطلع عام 2024، بهدف إتاحة فرصة الاطلاع على الأعمال الأدبية وتعريف القارئ بمؤلفيها ونتاجاتهم في ميادين: الرواية، القصة، الشعر... ومختلف الفنون الأدبية.

ولتحقيق ذلك، سيعمل موقع تلفزيون سوريا بالتزامن مع صفحة رابطة الكتاب السوريين، وبصورة شبه يومية، على نشر فصول متسلسلة من كلاسيكيات الأدب السوري، وتقديمها للقارئ بدون الحاجة إلى شراء كتبها أو تحميلها. الكتاب الواحد لن تستغرق قراءته أكثر من 15 يوماً؛ والمطلوب من القارئ تخصيص ربع ساعة فقط من يومه لقراءة الجزء المنشور من الكتاب. وفي نهاية كل عام سننهي سويّة قراءة 24 كتاباً مميزاً.


  • رواية "وصايا الغبار" للكاتب مازن عرفة - الحلقات 4-5-6

لميس

توطدت علاقتي مع صديقي منذ أن قرر نشر كتابي "سحر الكلمات والصور"، الذي يبدو أن موضوعه خارج إطار المشروع الثقافي لدار نشره، إلا أنه وجد فيه جانباً مثيراً جعله يُقدم على نشره "كل ما تكتبه عن الكلمات والصور هو عمل علمي أكاديمي، غير صالح الآن للقراءة والفائدة في حياتنا المليئة بالاختناقات اليومية والفوضى والاضطراب، ولكن ما تكتبه عن السحر هو الذي يثيرني، وهو ما نحتاج إليه في هذه الأوقات الصعبة، وإذا ما تابعت هذا الموضوع فسوف يقودك إلى ملامسة الجنون، سيجعلك تنتقل من العوالم الداخلية التي صنعتها أنت بنفسك، وتعيشها بخيالك، إلى العوالم الماورائية التي ستعيد هي صنعك من جديد وتسيطر عليك".

يبدو أن صديقي قد اكتشف الجانب الشاعري السحري من كتابي الذي من الممكن برأيه أن يقود إلى الجنون، وكأنه يحرضني على الاستمرار بهذا الاتجاه لأكتب فيه، ولكنني لست بشاعر مجنون مثله، وإن كان بي مسٌ من الجنون. فمن الصعب تصديق أنني رجعت إلى البلد فقط من أجل البحث عن العيون العسلية، والتي لها من الإيحاءات ما يجعل القلب يرتعش عندما يراها، والدمع يشتعل في المآقي حنيناً للضياع بها، أليس هذا جنوناً؟ ولكن هذا ما حدث، فقد رجعت، ولأجل هاتين العينين، وهارباً من العيون الرمادية في بلاد الثلوج.

 أفهم أن لي عالماً داخلياً واسعاً، انبثقت فجأة ورد من الحنين فيه، ورد تعطيني بعضاً من الطمأنينة والهدوء، فأستكين إليها، ولكنها بالمقابل تجعلني في بعض الأحيان أشعر بالاضطراب، تقول لي أنني لا أستطيع مواجهة ذاتي، ولذلك أهرب إليها. وبالرغم من تعلقي بها إلا أنني منذ أن حدثتها عن حكايتي القديمة مع شيماء أخذت تستشعر الخطر من البحث المهووس لدي عن العيون العسلية، فهددتني واتخذت موقفاً واضحاً "إما أنا، أو صاحبة العيون العسلية".

فكرت مراراً بحديث صديقي عن الجنون، وأنا أشعر أنني أغرق في الفوضى المجنونة حولي منذ رجوعي. الخراب والخواء يحاصراني هنا، حيث يتطاول المنحرفون، والمهووسون، والممسوسون، والشاذون، والقاصرون، والاستعراضيون، والقمعيون، والساديون، والانفصاميون، ليصبحوا عمالقة مثيرون للاشمئزاز، يتحكمون بحياة الناس البسطاء، يدمرون الصفاء في حياتهم، وينظرون إليهم كحشرات صغيرة تدب على الأرض، يزعجهم وجودها فيسحقونها، ويستمرون في تضخمهم، عمالقة أكبر في شبكة تعاضدهم ضد البسطاء وأحلامهم..... عالم مجنون منفلت بالكامل، لا يمكن مقاومته إلا بجنون أكبر وبلا حدود. وأنا لا أريد هذا العالم، ولا أرغب بمواجهته، أعمل كي أبقى بعيداً عنه، ولكنه لا يتركني، يترصدني، ويحاصرني بعبثيته، وقد قرر أن يسحقني مع البسطاء. ألهذا يدفعني صديقي لأقاومه بالجنون؟ وأنا سأصل إلى الجنون دون أن يدفعني أحد نحوه، ما دمت سأبقى هكذا ضائعاً ومحاصراً في هذا العالم المليء بالفوضى، سأصبح مجنوناً بغض النظر إن كنت سأتفهم معنى العوالم الماورائية أم لا، حسب رأي صديقي، فهذا الواقع الفاسد المنحل هو الذي يجعل الإنسان مختل العقل، وليس الهروب منه إلى العوالم الماورائية.

منذ أن رجعت من السفر وأنا لا أنسجم مع ما يدور حولي، لا أحب عملي الإداري في المركز، أجد صعوبة في التواصل مع الناس الذين أعمل معهم، أشعر بغربة هنا وكأنني أنتمي إلى لامكان، فهل تعلقي بأمل اللقاء مع ذات العيون العسلية وبحثي الدؤوب العابث عنها هو جزء من هذا الجنون، لأجل أن أعيش وأتنفس، وبالتالي للشعور بالانتماء إلى مكان ما!

ورد جاءت من الحنين الذي انبثق من عالمي الداخلي، من صفاء الطفولة، ورائحة المطر، وأغاني الحقول، وسهر الليالي، أما ذات العيون العسلية فهي الحلم المشتعل في القلب، الذي استشعر بحدس داخلي قوي أنه قادم، وسيعيد الانسجام والتناغم إلى حياتي. وورد استشعرت بحدسها الأنثوي أيضاً أنني أعيش في انتظار هذا الحلم، لا بل أخذت تعرقل بحثي عنه، لأنه سيجعلها تذهب. وبما أن الحنين المنبثق من الماضي سيصطدم في النهاية مع الحلم الذاهب في المستقبل، فماذا سيحدث عندئذٍ في داخلي، هل أستقر وأهدأ وأكسر حصار الجنون، أم بالعكس أنهار وأندفع إلى حافة هاوية الانتحار.

أعيش في عالم خارجي أخرق وحقير، وأهرب إلى عالم داخلي ناعم ومريح، أما هذه العوالم الماورائية التي يحدثني عنها صديقي فهي غريبة عني. أنا مقتنع أنها وهم صنعه البشر بخيالهم، يخلقون كائنات خيالية ويعطونها قوى سحرية غرائبية، يجلسونها في مملكة تقع في أعالي الجبال أو ما وراء البحار، أو بالأحرى هناك عالياً بعيداً جداً في السماء، حتى لا يستطيع أحد أن يتلصص على ما فعله الخيال. تأكل، وتسكر، وتعيش ليالي ماجنة بعد أن تثمل بالخمرة المقدسة، فتضج لياليها بجنس شبق، تولد منه البحار والجبال والأنهار والغابات.

وقد يعشق إله عابث مجنون من السماء فتاة ناعمة ممشوقة القوام من الأرض، يلتقطها وهي تستحم وتداعب جسدها في بحيرة مسحورة، أو تعشق إلهة مشبوبة بالنزوات الجنسية أحد الرجال ممشوقي القامة، يغريها بعريه وهو يتجول في الغابات بحثاً عن طرائده، فيقع هو طريدة لها. فيقضون ليالي حب يملؤها شبق مجنون عابث على سرير من الغيوم الواسعة، فيسقط مع المطر من اتحادهما السماوي أبطال أنصاف آلهة، يعشبون الحقول وذاكرة البشر بحكايات لا تنتهي، يتسامرون بها أيام البرد وهم يتحلقون حول نيران مشتعلة، ينشدون الدفء حولها، ويقتلون بها الخوف من المجهول.

وحتى تكتمل الحكايات حول النار، فلابد من آلهة طيبة تريد الخير للبشر وآلهة سيئة تعلن الشر لهما، فتمتلك الأولى جيشاً عرمرماً من الكائنات النورانية المقاتلة، وتمتلك الثانية عصابات من الكائنات النارية الحارقة، لا تقل قوة عن هذا الجيش. وحتى تضاهي العصابات بأس وشدة وعظمة الكائنات النورانية فإنها تنوع كائناتها المقاتلة، فتشكل كتائب نارية مخيفة من الشياطين والعفاريت والمردة والجن والغيلان والسعالي والتنانين.

وفيما الآلهة التي صنعها البشر تعيش مسرورة في الأعالي بلياليها الماجنة، يقوم هؤلاء البشر المساكين بصنع تماثيل لها، تجلس حزينة في معابد حجرية، ويقومون بالتذلل لها ليل نهار، عساها ترد عنهم طوفانات الأنهار، وحرائق الصواعق، وأوبئة الموت. يأتي البشر المساكين إلى هذه التماثيل ويبكون، يطلبون منها صيداً وفيراً، ولكنها لا ترد عليهم، وتبقى حزينة. يتمرغون أمامها على التراب، ويعفرون ملابسهم، ويلطمون خدودهم، لا ترد عليهم أيضاً، وتبقى حزينة. يشربون خمراً لينسوا، وعندما ينهضون سكارى يعجبهم الاهتزاز والانحناء والتمايل أمامها، فتأخذهم النشوة، وتنتظم الحركات في طقوس راقصة ترافقها ترانيم سحرية ويدورون حولها، ولكن التماثيل لا تبتسم.

يتساءل البشر لماذا الآلهة حزينة؟ فيتوقعون السبب، إنها جائعة مثلهم، فيقررون أن يقدموا لها أضاحي مقدسة لتشبع وتبتسم، يقدمون فتيات عذراوات وأولاداً بكراً، يليقون بمقامها القدسي. وعندما يشاهد البشر دم الأضاحي يُثارون وينتشون بلونه ورائحته، فيبلغ بهم الهياج أشده، ويفقدون الحس بالواقع، ويشعرون عندئذ بأنهم قد تواصلوا أخيراً مع هذه التماثيل، وجعلوها مسرورة، تبتسم في ممالكها السماوية. ومن وقتها يذبح البشر بعضهم على مرِّ التاريخ، ويقدمون الأجساد المضرجة بالدماء أضاحي إلى الآلهة كي لا تبقى حزينة، وكلما ازدادت الذبائح البشرية بدماء تغطي الأرض كلها، شعرت الآلهة بالرضى، وبقيت مسرورة. وإذا ما توانى البشر عن تقديم الأضاحي للتماثيل في الأرض أو في السماء، وانقطع تدفق الدماء، تغضبُ الآلهة، فترسل لهم جيوش الشر من الشياطين والعفاريت والمردة والجن والغيلان والسعالي والتنانين لتطاردهم، وتجعل حياتهم جحيماً على الأرض. فالدم هو حياة الآلهة على الأرض!

هذه هي العوالم الماورائية التي أعرفها، ولا أدري كيف تشكلت لدي هذه الرؤية عنها. فقد تمثل جانبها السماوي بشاعرية أسطورية لها كثير من الإيحاءات المبدعة في حياتي اليومية، ولكن بالتأكيد فإن جانبها الأرضي شكَّل منذ طفولتي عالماً مرعباً، ينمو ويكبر ويتضخم كثيراً في داخلي، وقد احتجت إلى وقت طويل حتى استطعت أن أتخلص من تأثيره المدمر. وبمجرد أن يذكر أحد أمامي العوالم الماورائية، فإن أفكاري تتداعى وتتجه إما إلى جانبها الأسطوري الشاعري أو إلى جانبها الأرضي الواقعي المرعب، حسب الموقف الذي أتعامل معه، فهل هذا ما يتحدث عنه صديقي؟

صديقي في الصباح عقلاني وواقعي وحاد الذهن، وعلى الأغلب يتفهم بعضاً من رؤيتي عن العوالم الماورائية بين فناجين القهوة وأكواب الشاي، ولكنه سيسخر في الوقت نفسه من عوالمي الداخلية، ومن حكاية ورد وحلمي بذات العيون العسلية. وفي المساء فإنه على النقيض من ذلك يتحول إلى شخص انفعالي نزق به جنون محبب، بالتأكيد تحت تأثير الشعر والنبيذ، وسيتهكم عندئذٍ من أفكاري عن العوالم الماورائية، ولاسيما الجانب الضارب بالتشاؤم منها، ولكنه سيرغب بالتعرف إلى ورد، ويحاول أن يدعوها للسهر معنا إلى جانب لميس، وسيتفاعل أيضاً مع جنوني وولهي بالعيون العسلية. هنا يكمن سر جاذبيته في هذا التضاد، ولكنني سأحتال عليه وأفكر باختيار وقت مناسب، وقت انتقالي بين الحالتين، حالته العقلانية وحالته الانفعالية، فأجعله يقبل فكرة كتابي الجديد عن سحر العوالم الداخلية، دون أن يفرض عليَّ عوالمه الماورائية، وفي الوقت نفسه أجعله يتقبل وجود ورد الحنين وذات العيون العسلية الحلم.

أفاجئ صديقي ذات يوم بالقدوم إلى مكتبه قبل انتهاء العمل لديه بساعة تقريباً، طلبت منه أن نقوم بنزهة، نتناول بعدها نبيذاً في زاوية مطعم قديم، وبما أن فترة توقيت عقلانيته لم ينتهِ فقد أبدى تذمراً "ولكن هناك أعمال يجب أن أنجزها في الوقت المحدد، دعني أعمل".

أصر على دعوتي "الأجواء ربيعية، هطل مطر غسل الأشجار والطرقات، القلوب منتعشة، فلنكسر حدة النظام وعقلانيته قليلاً في هذا اليوم".

يعرف صديقي أسرار الشعر والنبيذ كلها، التي بدأ يجعلني أعيشها معه بممارسة طقوسها في كل ليلة تقريباً، أما أسرار الموسيقى والمطر عندي فما زالت مغلقة عليه، لا أنفتح بالكثير منها أمامه، ربما بسبب خوفي على ورد وعلى حُلمي بالعيون العسلية. وبما أن الزمن اليومي لحالته العقلانية قد أخذ بالأفول، فقد تراخى وانتهى تردده ووافق على الخروج، ولكن مع بعض الاضطراب في تصرفاته. قال "أنت وأمطارك التي تبلل ملابسنا، تجعلنا نركض مثل العصافير المذعورة، لنلتجئ تحت مظلة أول محل تجاري نصادفه، ننتظر سدى ولا تنقطع".

ولكن ما إن سرنا قليلاً في شارع تحف به أشجار باسقة على جانبيه حتى فوجئ بتساقط رذاذ مطر ربيعي على وجهه، فأغمض عينيه ورفع رأسه إلى السماء "معك حق، ينتعش القلب تحت مثل هذا المطر الناعم، يغريني أكثر بالشعر والنبيذ، ويجعلني أشتاق أكثر إلى لميس".

سررت وقد بدأت أجد تقاطعاً بين عالمينا، فقررت أن أستغل لحظة التواصل والتناغم لديه مع المطر فأبادره بالحديث "هل ترى كم هي رائعة العوالم الداخلية التي يثيرها المطر، وسوف تكتشف جمالها أكثر إذا توصلت إلى إدراك سر تناغم موسيقى سقوط المطر مع هديل الحمام وزقزقة العصافير".

أصمت قليلاً، أجده يسمعني وهو مسرور ومنتشٍ، فأقرر الانتقال إلى موقف أكثر تحدياً بعد ما شعرت بقوة ما طرحته "أما عوالمك الماورائية هذه فأنا رجل عقلاني لا أؤمن بوجودها، ولا أدري لماذا تحرضني وتدعوني إليها؟".

يفاجئ صديقي بمبادرتي الهجومية فيقرر الخروج من حالة الانتشاء والتحول للدفاع عن وجهة نظره، فيبادرني بالسؤال "أليست هذه العوالم الماورائية هي نتاج المخيلة، كما تقول؟".

أجيب "نعم، نحن نصنعها بالمخيلة، نضع فيها خبراتنا الحياتية، ونضيف إليها آمالنا وأحلامنا بعالم أفضل، بدلاً من هذا العالم المقهور الذي نعيش فيه".

يؤكد صديقي عندئذٍ بثقة "إذن، هي موجودة".

أجيب من جديد "نعم موجودة، ولكن من خلال انعكاسها من المخيلة على شكل نصوص وصور، أساطير وحكايات وصلوات يرتلها البشر، أيقونات وتماثيل يقبلونها ويسجدون لها، وقد تتحول هذه التخيلات من تجسداتها الملموسة على الأرض إلى رموز تجريدية نرفعها إلى السماء، نخاطبها بلغة البشر".

يرد "لكنها موجودة في العقول والمخيلات باستمرار، تتحرك وتتطور".

أقاطعه "صحيح هي موجودة فيها، لكن المشكلة تبرز عندما تنفصل عن واقع تخيلها وتتحول إلى وهم، وهم كبير سيطر سيطرة كبيرة على حياة معظم البشر وجعلهم عبيداً لها".

يعترض من جديد "لا ليس بوهم، تصبح حقيقة بالرغم من أنها نتاج المخيلة، ولذلك يذهب الناس إليها بالأحلام والرؤى، ويتسامون للاتحاد بها، ثم ينتقلون إليها بالكامل بعد الموت".

" يُخيل إليهم أنهم يذهبون وينتقلون "أقول ذلك بكل الإصرار.

ينفعل صديقي "لا، يذهبون وينتقلون حقيقة إليها، لا يهم ما تفكر به أنت، بل ما يفكرون ويقتنعون به، هم يتعاملون بحب مع عوالم الملائكة والحوريات، ويكرهون عوالم الجن والشياطين والعفاريت، وهم يختارون الذهاب إلى عوالم النور والنعيم والفردوس والجنة، ويخافون الوقوع في العوالم السفلية وعوالم الجحيم وجهنم".

أجيب بهدوء، وكأنني بدأت أصل إلى رؤى أولية لتشكيل أفكار كتابي عن العوالم الماورائية ـ أقصد العوالم الداخلية ـ "ليذهبوا يا صديقي، ليس لي اعتراض على ذلك، ولكن هناك كهنة موتورون يستغلون ويتعيشون من ذهابهم إلى العوالم الماورائية، يجعلونهم ينسون أحلامهم على الأرض، وينسون الأزمنة والأمكنة التي التصقوا بها منذ طفولتهم. هؤلاء الكهنة، الذين يقمعون البشر روحياً باسم السلطة في السماء، يتكامل دورهم مع من يقمعهم أيضاً باسم السلطة على الأرض".

يقاطع صديقي حماسي واندفاعي "وكأنك تفكر فقط بالتشبث بالأرض، وتمنع البشر من التحليق إلى السماء!".

استجمع كل قدرات الإقناع لدي لأنهي الموضوع لصالحي "بالتأكيد لا أفكر بهذا، على العكس يمكن للبشر أن يحلقوا عالياً، ولكن في سماوات عوالمهم الداخلية، وعندها سيتعرفون على قواهم الخفية المجهولة، وسيختبرون عندئذٍ قدراتهم على كشف المبهم والغامض من خلال الشاعرية وتأمل الأشياء، من خلال الحدس والتخاطر والتنبؤ واختراق الأزمنة والأمكنة، بعيداً عن كائنات تملؤهم رعباً وتهددهم بعذابات سادية في صحوهم ونومهم".

أتوقف قليلاً أمام صمت صديقي وكأنّي وجدت تقاطعاً جديداً مشتركاً معه، أقرر أن أستفيد من هذه اللحظة بالتوجه إلى عوالمه "ألا تحلم أنت بعالم جميل عندما تبوح ما بقلبك شعراً أمام عيني لميس، وتكتشف فيهما كروم عنب تمتد حتى الأفق، وعندما تمتص طعم النبيذ من شفتيها وأنت تقبلها، فتتنشق ذاكرة الأرض وعشقها لكلمات شعرك؟ أنا أرى عوالمك الداخلية متسعة بشعرك ونبيذك اتساع الكون المليء بالأسرار".

يبتسم صديقي وكأنّي لمست شغاف قلبه، يقول بهدوء شديد وكأنه يستسلم "المطر يثير فيك الرؤى المختزنة بالحنين، ويطلقها صدى لنداءات قادمة من الأعماق".

أبادله الود قائلاً "تماماً كما يثير النبيذ فيك الكلمات كصدى للنداءات ذاتها".

أصبحت أعرف كيف أنهي الحديث لمصلحتي مع صديقي، يكفي أن أذكره بالشعر والنبيذ وعشقه للميس، وكيف يكتشف الأشياء والأمكنة والأزمنة والكلمات حوله من خلالهما، حتى يستسلم أمامي، فابتسم وأنتشي. كان هذا في البداية، لكن مع الزمن عندما عرفني أكثر، وعرف عشقي للموسيقى والمطر، وحنيني لورد، حتى أصبح هو يستشعر جانباً من مكمن ضعفي وأسباب قلقي الدائم، أستسلم أمامه، فيبتسم وينتشي. ازداد الصراع بين الشعر والنبيذ من جهة والموسيقى والمطر من جهة أخرى، وبشكل غير معلن بين لميس الجسد الواقعي وورد الحنين القادمة من أعماق الذات. أما سري الخاص عن العيون العسلية، نبع أحلامي الخفي، فلم أبح به لأحد، ولم تكتشفه إلا ورد، وربما استشعر صديقي شيئاً منه، فهو يردد دائماً بطريقة ملغزة "ومع ذلك سترى كيف ستقودك عوالمك الداخلية إلى عوالم ماورائية، أشعر أن أحلامك ليست أرضية، وإنما ماورائية!".

أصبحنا نلتقي أنا وصديقي بشكل شبه يومي، يرافقني في نزهاتي تحت المطر الناعم الخفيف، وأنا أشرب معه نبيذاً، يُسمعني أشعاره العفوية وهو يقتحم بها المجهول والمحرمات، وأنا أسمعه هديل الحمام وزقزقة العصافير وهي تحلم تحت المطر. ثم نظم أشعاراً بطريقة جديدة أكثر عفوية عن موسيقى المطر المتساقط على أوراق الأشجار، وعلى بلاط الأزقة، وعلى الوجوه المبتسمة والوجوه الحزينة في الشوارع، وعلى القلوب المختنقة وراء النوافذ ذات الستائر المنسدلة. لميس تأتي، تشاركنا النبيذ أينما كنا، وورد لا تأتي، تكتفي بالشاي مع شرائح الليمون وأوراق النعناع الأخضر في منزلي.

أنظر إلى لميس في سهراتنا، أقارنها بورد، عالمان مختلفان تماماً. ورد عالم يشتعل بحنين الماضي، ولميس عالم حقيقي لا يقتصر على السرير، وإنما ينبثق ويعيش في تفاصيل الحياة اليومية، في البيت، وفي الشارع، وفي العمل.

تسحرني ورد، بابتسامتها التي تثير بي الحنين إلى شيء مبهم قديم، محبب ولكنه مفتقد، تسحرني بجسدها المثير الذي ما إن ألمسه حتى تجتاحني الرغبة بالالتحام به، فأعانقها وأتوحد بها ألقاً مجنوناً، سرعان ما يرمي بي بعيداً في الماضي الممطر عشقاً. ولكن بعد ما أعتدت على ورد، على طريقة تسللها من النافذة مع المطر، وعلى أنفاسها وهمساتها ولهاثها وغفوتها بين ذراعي، بدأت أفكر بأسرارها المغرية المختزنة في ذاكرتها وحديثها وجسدها وتصرفاتها، التي تجعلني مشلولاً أمام سحرها وفتنتها. فأنا أصبحت أعرف جسدها الأبيض الذي يغريني بتفاصيله المكتنزة الحليبية، جسدٌ أبيض وكأن الشمس لا تراه، إلا أنني ذات مرة انفصلت لثوانٍ من حصار عناقها ولهاثها، لأتأمل ارتعاشات جسدها بشاعرية، فوجئت بتغير غريب فيه، فقد أصبح مائلاً إلى السمرة الشبقة رغم معرفتي الأكيدة ببياضه. وأعرف ثدييها وهي تعلوني وتلهث في لحظات نشوتها، يتدليان ويهتزان متأرجحين، ويكادان يلامسان وجهي كحمامتين صغيرتين تتطاولان إليه بأجنحة مرفرفة، إلا أنه ذات مرة أيضاً أخذتني الغفوة على صدرها بعد نشوة عنيفة، فوجدت نفسي أضيع بين تلال ثديين ضخمين، بحيث شعرت أن رأسي وصدري وجسدي كله يسقط ويغرق في بحر متماوج من النعومة. وهكذا في غفلة من لحظات النشوة بدأت ألاحظ أن أعضاء جسدها وتفاصيله تتغير من وقت لآخر، ملامح وجهها، اكتناز شفتيها، خصرها الرشيق، مؤخرتها الممتلئة، فخذاها الناعمان، لا بل أن تسريحتها تتغير أيضاً، وملابسها التي تخلعها في الفراش بإغراء شديد تتبدل وتتنوع، لتتشارك كلها في عملية استلابي، تجعل النار تشتعل في الجسد، ولا تنطفئ إلا وقد تحولتُ إلى حطام مبعثر على شاطئ بعيد لجزيرة منعزلة غير مأهولة.

أنظر بذهول إلى التبدلات الغريبة في ورد، وخاصة في جسدها، أتأملها طويلاً، وأفكر كيف تستطيع أن تتلون هكذا باستمرار، ومنذ أن عرفت بحكايتي مع شيماء أصبح كل شيء فيها يتغير بتجدد مذهل، حتى رائحتها وهمساتها وملمس جلدها واكتناز جسدها، أخذت الوضعيات التي نمارس بها الجنس تتغير بطرق لا تنتهي، بمقدار ما يستطيع الخيال الذهاب بعيداً في البحث عن أقصى درجات المتعة، واكتشاف وسائل جديدة وغريبة وعجائبية لتكثيفها وإطالتها، فالمهم ألا أشعر بالملل والضجر. تبتسم ورد، تفهم دائماً ما يدور بذهني، أشعر بحدة ذكائها، ولكنها في الوقت نفسه أستشعرها مليئة بالخبث، تتلون بكل الرغبات التي تعيش في خيالي لحظة الاشتياق لها، جسدٌ متلون يعشش في الرغبات، ولكنها تستغل أيضاً ضعفي أمام المطر، تستغل حالات الوجد أمام الحنين لذكريات الماضي، تستغلني جسدياً وعاطفياً، المهم أن لا أتركها، ولا أغادرها، لا إلى شيماء ولا إلى أية فتاة تمتلك عيوناً عسلية.

وفيما أتذكر ورد أتأمل لميس طويلاً، شبه غافية على صدر صديقي، وقد جلسنا في المطبخ هذه المرة نتناول عشاءنا ونشرب نبيذنا، في المطبخ بالذات هرباً من المصباح المعطل في السقف، الذي اكتشفت أنه غير معطل، وأن هناك من يترصد الناس من وراءه، يستمع إلى ما يتحدثون به، ويراقب كيف يحلمون، ومن يزورهم في الحلم مع قدوم المطر.

لميس امرأة عادية، لكنها حقيقية بدرجة لامعقولة، ومن هنا سلطتها القوية على صديقي الذي لا يحب الارتباط بأحد، جعلته يتعلق بها دون أن يعترف بذلك. ومع أن في وجهها مسحة من جمال غابر نادر، نما من رائحة الأرض هنا، فإن جسدها لا يمتلك الكثير من إغراء النسوة اللواتي يعشن من إطراء الرجال، فهي سمراء نحيلة، ليس فيها شيء مكتنز ممتلئ، يهتز مع سيرها وتمايلها وانحنائها، حتى إن ثدييها الصغيرين اللذان يطلان من وراء بلوزتها شبه المفتوحة دائماً يبدوان كعصفورين، ما أن تنظر إليهما حتى ترغب بأن تتركهما راقدين غافيين دون أن تزعجهما حتى بهمسة شوق. وعندما يعانقها صديقي، أشعر بها تختفي بجسدها الصغير الناعم النحيل بين ساعديه القويين، حتى أخاف على أضلاعها أن تنسحق في لحظة انتشاء مليئة بالانفعال. أما ملابسها فهي أكثر من عادية، بنطال أسود عتيق واسع، لا يُظهر أياً من تقاطيع جسدها، وفوقه بلوزة، على الأغلب بيضاء، وجاكيت رقيق رمادي، في حين تترك شعرها الكستنائي الناعم ينسدل وحده على وجهها دون أن تعتني بتسريحه. هذا هو المميز فيها ولا شيء غيره.

وبالرغم من بساطة لميس فأنا أفهم كيف يُسحَرُ بها صديقي، فهو في جنونه يستطيع أن يستشف جمالاً داخلياً، يتفاعل مع كل كلمة تقولها، أو حركة تقوم بها، أو إيماءة تبدر منها، فلميس تعيش وتتنفس في التفاصيل اليومية العابثة. تدخل بيت صديقي بعد أن تقرع الجرس طويلاً بطريقة إيقاعية مزعجة، هكذا لمتعة خاصة بها ولتعلن عن قدومها، معتبرة أن هذا ليس إزعاجاً، بل إعلان فقط، نوع من النشيد الوطني الخاص بها. لا تأبه لمن يكون موجوداً من الأصدقاء في المنزل، فترمي بقدمها اليمنى إلى الأعلى، فتنخلع فردة حذائها وتطير لتستقر في مكان ما في المدخل، ولتلحقها الفردة الثانية إلى مكان آخر بعيد عنها، وكأنهما يكرهان الاجتماع، وعلى الجميع الاحتماء من سقوط إحدى قذائف حذائها، وهذا يعني "انتبهوا أنا أتيت ودخلت". وفي طريقها إلى الداخل تقلب لوحة ما معلقة على الجدار لتجعل أسفلها عالياً، وهذا معناه "أنا مررت من هنا"، وعندما يسألها صديقي عن هدف فعلها بقلب الأشياء، تجيبه "هكذا، هذه نظرة سريالية إلى العالم، العالم مقلوب بالأصل، وأنا أعيده إلى طبيعته حتى تفهمه بمعناه الحقيقي، وعندئذٍ ستكتب شعراً أجمل".

وما إن تشاهدني لميس جالساً أتصفح كتاباً حتى تحييني قائلة "ما أحوال عوالمك الداخلية وعوالمك الماورائية، هل بدأت تكتب عن السحر والجنون، أم ما زلت عقلانياً مليئاً بعُقد المفكرين؟".

 ثم ما يلبث أن يضج البيت، بصوتها وحركاتها، تفتح الثلاجة فتستنكر "دائماً معلبات لعينة غير صحية، وزجاجات نبيذ شبه فارغة، وخبز يابس، ولا شيء غيره".

تمسك ورقة وقلماً وتكتب لائحة "بيض بلدي بصفارين، لحم غنم محلي غير مجمد، جبنة فرنسية، مرتديلا إيطالية، بطاطا متوسطة الحجم من حقول الجنوب، خيار وبندورة وبقدونس وفليفلة ونعناع من البساتين، وليس من مزارع المسؤولين، ليمون وبرتقال وتفاح مقطوفين في صباح اليوم ذاته، وزيتون أخضر وأحمر وأسود ومحشي بالفليفلة الحمراء ومحشي بالزعتر الأخضر، خبز غير يابس، خمس زجاجات نبيذ ملآنة وليست فارغة، وزجاجة عطر برائحة البنفسج لي، وفردة حذاء بدل تلك التي سقطت من النافذة".

 ترمي اللائحة بوجه صديقي "اذهب إلى السوق واحضرها بسرعة، أيها الرأس الممتلئ بقصائد الشعر التي لا تطعم بطناً يتلوى من الجوع، ولا تتلصص في طريقك على الفتيات الصغيرات والكبيرات، القصيرات والطويلات، العاريات والمحجبات، بحجة الإيحاءات الشعرية".

 يدمدم صديقي معترضاً ومتأففاً من الضجيج والشغب الذي أججته منذ وصولها ومن طلباتها المستمرة، تسكته بقبلة صغيرة على فمه، وتمسك بيده وتدفع به إلى الباب "اذهب واشترِ كل شيء ووفق المواصفات الأنثوية في اللائحة".

ينفذ صديقي طلباتها مبتسماً، فهو لا يقوى على الاعتراض أمام ابتسامتها الساحرة، وهو يُمَني النفس بعشاء يتناسب مع حضور نشوة النبيذ وجنون الشعر، يعرف أنها ستحضّر عشاءً بأطباق بسيطة من الطعام، ولكن بطريقة أنيقة، وبحس متعة التلذذ بمنظرها، فتزينها شرائح البندورة، والخيار، والليمون، والنعناع، والبقدونس المفروم، وحبات الزيتون الملونة. وفي أثناء تحضير العشاء لا تهدأ، تستنكر وتؤنبه على الفوضى في حياته، التي لن تستطيع حتى زوجة تقليدية غبية أن تعيد الترتيب إليها، كتبٌ مرمية هنا وهناك، ملابس متروكة على الكرسي، صحون وسخة، سكين ضائعة، كأس مكسورة، ثلاجة فارغة. وكلما يطلب منها الهدوء أو الصمت قليلاً، تزعل، تنزوي في زاوية لدقائق، ثم تعود فتضحك لوحدها، وتقبله، أو تعض أذنه، وقد ترتمي عليه وتعاركه قليلاً بعد أن تقلبه على السرير أو الأريكة.

وما أن يصبح العشاء جاهزاً حتى يكون صديقي الذي قد أنهك وليست لميس، مع أنها هي التي تضج طوال الوقت بالحركة، فيتنفس الجميع الصعداء، إذ تتحول من فتاة عملية إلى أنثى مغرية، تأكل وتُطعم، تُقبل وتدلل، وتحكي حكايات ساخرة لا تنتهي، فتضحك بصخب حتى ولو لم يجارها أحد. تسأل صديقي "ألن تتغزل اليوم بشفتي المغريتين؟".

يرد عليها "واليوم أيضاً؟ البارحة تغزلت بأنفك، وقبل البارحة بأذنك، وقبلها بعينيك.....".

"على هذه الحال يبدو أن الطريق طويل حتى تصل كلماتك إلى ما بين فخذي الناعمين، مروراً بتلال نهدي الصغيرين".

ينفتح القلب عند صديقي، تشتعل الكلمات في قصائده، وتتساقط مطراً في فضاء الغرفة، تتسلل إلى عيني لميس فتجعلهما جميلتين أكثر، وعميقتين أكثر، وحالكتي السواد أكثر. وعندما تصل لميس أخيراً إلى لحظة الإنهاك، ولا تعود بقادرة لا على الضحك ولا على البكاء، وتكاد أن تغفو، أنسحب عندئذٍ من الجلسة، أتسلل من الغرفة، أغلق الباب ورائي بهدوء، أنزل إلى الشارع، وأتمشى إلى البيت. وبقدر ما يكون الجو ماطراً ومنعشاً فإنني أمني النفس بلقاء ورد في البيت، في حين حيوية لميس تحتل حيزاً كبيراً من ذهني.

الفوضى الرائعة المحببة التي تشعلها لميس عندما تزور صديقي تدفعني كي أفكر كثيراً بورد وبطريقة حياتي معها، بل وجعلتني أتغير شيئاً فشيئاً بعواطفي تجاهها. أصبحت أخرج من عند صديقي بعد العشاء وأتمشى في نزهة طويلة، أجعل الطريق يطول أكثر كي لا أعود إلى البيت إلا متأخراً، حتى ولو كانت السماء تهطل مطراً ناعماً محبباً للقلب، مما كان يعني أن ورد تنتظر التسلل من النافذة. بدأت استشعر هذا التغير في داخلي دون أن تفهم ورد ما بي، وعلى الأغلب أنا الذي لا أفهم ما يحدث لي. ورد لا تصرخ، ولا تعبث، لا ترمي بحذائها ليطير في السماء، ولا تقلب اللوحات لأرى العالم على حقيقته، ورد لا تطلب مني شراء الطعام والنبيذ، لا تُحضّر العشاء، ولا تبحث عن السكين الضائعة، بل إنها لا تطلب طعاماً أو شراباً إذا لم أشعر أنا بالرغبة بذلك، لا تطلب الخروج معي من المنزل إلى نزهة، أو إلى السوق، أو إلى السينما. ورد لا تعيش إلا في السرير، ورد جسد يشتعل ويلبي الرغبات، بينما لميس جسد وقلب وحياة نابضة..... لميس حياة تضج بالحياة مع أن عينيها ليستا عسليتين، فكيف لو كانتا عسليتين!

كلما أشاهد لميس استشعر في داخلي أكثر قدوم ذات العيون العسلية، والتي ستملأ حياتي بالفوضى الرائعة المحببة، وستعيد قلب العالم الذي أعيشه لتجعله مفهوماً، كما تقلب لميس اللوحات في منزل صديقي، لميس تدفعني لكي أكثف بحثي عنها، فتاة الحياة اليومية والحلم، متجاوزاً خيبتي مع شيماء. ألهذا يشتد الصراع في داخلي بين الحنين والحلم، بين ورد وذات العيون العسلية؟

في سهرتنا الأولى في المطبخ، أخذنا نخطط أنا وصديقي لتجاوز مشروع النبيذ، والانطلاق إلى جباله كي أمر بتجربة "مشروبه السحري". يقول لي "سأجعلك تبتعد عن عوالمك الداخلية، وتتسلل إلى عوالم ماورائية لم تسمع بها من قبل، بعيداً عن عقلانيتك القاسية".

تتساءل لميس وهي تنظر إليَّ "لماذا؟ هل بدأت تخطو نحو العوالم الماورائية؟! هذا ممتاز، ولكنك ستصبح في القريب العاجل مجنوناً إذا ما اتصلت بها".

ثم تتوجه إلى صديقي وتقول له "يتراءى لي أن أولى بوادر الجنون بدأت تظهر على وجهه وتصرفاته، وهو مازال يخطو الخطوات الأولى في البحث عن العوالم الماورائية، فهو ينظر إلى السقف دائماً، أصبح عنده خوفٌ مرضيٌ من المصابيح المعطلة، يتوهم أن أحداً ما يراقبنا من خلفها، بحيث جعلنا ننتقل إلى المطبخ، ولكنه لم يحدد هل هم من الأرض أم من كوكب آخر؟ برأيي إذا استمر بهذه الحالة العابثة فمن الأفضل أن ننقله إلى مستشفى للأمراض النفسية المصباحّية".

يستمر صديقي بالهجوم عليَّ مكملاً ما بدأته لميس "بالإضافة إلى ذلك فمنذ أن رجع من السفر أصبح تائهاً في عوالمه الداخلية، عوالم تنبثق منها الورود بكثافة وتخنقه بالحنين، تبلبل أفكاره وتشوش رؤيته، بحيث أخذ يشاهد ما هو غير موجود، أشباح وخيالات تتراءى وتختفي، لا يعرف أين يتوجه، هل يتعلق بالماضي أم يرنو نحو المستقبل، ولن ينجوا من هذا الاختناق إلا إذا قفز نحو المجهول بعيداً عن الحنين، وسيرى عندئذٍ ما لا يُرى".

أنظر إليه نظرة عتب، ورد الحنين هي سرنا الخاص الذي حاول السيد لؤي استغلاله لبث النزاع بيننا دون نجاح، وإذا ما أمسكت لميس هذه الحكاية فلن ننتهي من تعليقاتها الساخرة. من الجيد أنها لم تفهم ما يقصد صديقي، ومع ذلك لن تترك شيئاً يمر دون تعليق، فتقول "مجنون في حقل من الورود! إذاً سيصبح عاشقاً لفتاة مثلي، فتاة نحيلة ومسكينة، لكنها خبيثة، والدليل أنها استطاعت أن تقنع شاعراً منفلتاً من كل شيء أن يدفئها بكلماته".

أرد "أقبلُ أن أكون عاشقاً لفتاة مثلك، ولكن بشرط أن تكون لها عينان....."، أتماسك في اللحظة الأخيرة، وأصمت حتى لا أفضح حلمي.

تسألني عندئذٍ "ولكن لماذا أنت حزين هكذا دائماً، صديقك قال لي أن لديك عشيقة مخبولة بالكامل اسمها سهام! لم أشاهد في حياتي امرأة مخبولة، وأنا أتمنى ذلك، لماذا لا تحضرها معك إلى سهراتنا، فإذا كانت في الحقيقة مخبولة فسنضحك أكثر، وستكون جلساتنا مليئة بالمجون والجنون أكثر، أريد مثلاً..... أن أرى كيف ترقص المخبولة إذا ما شربت زجاجة نبيذ كاملة، هل سترقص وتبدأ بخلع ملابسها، أم سترقص وترتدي فوق ملابسها ما تجده مرمياً على الكرسي من فوضى صديقك؟!".

أجيب "لا أريد أن أحضرها، دعيني أكتفي بمتعة النظر إلى عاشقين رائعين مثلكما، ألا يكفي هذا؟".

تستغل لميس الفرصة وتتوجه إلى صديقي "أنظر كم هو ذكي، يراقب جيداً ويفهم ما يدور حوله بعبقرية".

يقاطعها صديقي "أشك أنه يستطيع أن يفهم ما بداخله حتى يفهم ما يدور حوله، وأحياناً كثيرة يتوهم ما يحدث أمامه".

تنتفض لميس وتقفز عليه وتكاد أن تخنقه "سأقتلك عندما أجد السكينة الضائعة، هل يتوهم ما يحدث أمامه، ألسنا نحن بعاشقين".

يجيب وهو يضحك "بلى، نحن عاشقان، ولكن لم نصبح بعد رائعين، فهو يرى كل شيء مقلوباً".

تهدأ "أحب رؤيته للوقائع، أنا وإياه نفهم العالم جيداً، أنتَ تحتاج لقلب العالم مثلنا حتى تفهمه وتعرف كم نحن رائعان، ولكن لنعد ونسأله لماذا لا يُحضر حبيبته المخبولة معه إلى سهرتنا؟".

أجيب "سهام ليست حبيبتي، هي سيدة محترمة، لا تتناول مشروبات روحية، ولا تجلس مع أناس سكارى عابثين مثلنا".

يضحك صديقي بصوت مرتفع "محترمة جداً؟! أشرح لنا أكثر كيف هي محترمة".

" أقصد محترمة في الشارع، فهي من أسرة تقليدية، هجرها زوجها بعد عشرة أعوام من الحياة معها، عشق جارتها وتزوجها. وهي تعيش وحيدة وتخاف على سمعتها، تسير في الشارع بملابس محتشمة، لا تلبس البنطال، وتضع معطفاً يخفي كل شيء، وغطاءً على الرأس، لا تلتفت لا إلى اليمين أو إلى اليسار، ولا تسمح لأحد بالسير معها، حتى أنا أيضاً".

تقفز لميس هذه المرة عليًّّ مستنكرة وكأنها تود تمزيقي "امرأتك المخبولة محترمة؟ أما أنا فلست محترمة يا مهووس بالنساء الغبيات، أليس كذلك؟".

أجيب وقد شعرت بأظافرها الرقيقة تطبق على رقبتي "أنا آسف يا ذكية، قلتُ لك نصف الحقيقة، أقصد أن سهام محترمة في الشارع، وتصبح غير محترمة في البيت".

يتدخل صديقي بلهجة ساخرة "غير محترمة في البيت! هذا يعني أنها تعرف جميع فنون الجنس غير المحترمة بكافة الأشكال والوضعيات، ويعني هذا أيضاً أن لديها سلسلة من العشاق يتسللون إليها في الليل بعد هجران زوجها لها، مما صقل تجربتها الجسدية فأصبحت خبيرة، غير محترمة يعني أنك تقضي ليالي ماجنة وحمراء رائعة معها".

أصمت طويلاً، أفكر كم هي مسكينة سهام، ينادونها بسهام المخبولة للسخرية منها، ولكن لا أحد يعرف أن الواقع حولها مخبول أكثر، فتعيش مختنقة. وأنا لا أدري لماذا لازلت أذهب إليها أحياناً، فليس لديها لا حنين ولا عيون عسلية، بل لا جسد لديها، دمية لتفريغ التوترات الجنسية، أذهب إليها في لحظات الضيق الشديد دون أن أدري لماذا، وما إن أدخل إليها حتى أفكر بالهروب بسرعة بعد أن أفرغ طاقتي، وأقول لنفسي بأنني لن أرجع، ولكنني أرجع..... أفكر بكل هذا للحظات، وأصمت.

ومن جديد تلتقط لميس ما قاله صديقي وتتوجه بالحديث إليَّ بلهفة "أين ذهبت بخيالك، أخبرني فقط كيف تكون غير محترمة معك في بيتها، وبالتفصيل رجاءً، حتى أطبق ذلك مع صديقك، فيتعلق بي أكثر".

لكن صديقي ينتفض معترضاً "لا، أرجوك هي بالطرق المحترمة تكاد أن تلتهمني، فكيف مع الطرق غير المحترمة، لا تشرح لها شيئاً جديداً، فانا لم أعد أحتمل حيويتها أكثر".

ورغم ذلك أجيب "صديقي يقصد بالطرق غير المحترمة هو ما تمارسه النساء مع عشاقهن بشبق لا حدود له، مما لا يسمحن لأنفسهن بممارسته مع أزواجهن، مع العشاق ينفلتن من كل القيود والمحرمات والعُقد، وبمقدار ما يكثر العشاق وتزداد الليالي الجنسية تتطور خبرة المرأة بالطرق غير المحترمة".

لأول مرة يكتسب وجه لميس حيرة غريبة وهي تسمع مثل هذا الحديث، فهي لم تتزوج ولا تعرف مثل هذه الحكايات عن نسوة ينفلتن من القيود، فهي تعيش حياة صريحة دون أية تعقيدات، فتسأل "أين توجد مثل هؤلاء النسوة؟".

أجيب "في الحارات العتيقة الغارقة في الظلام، المسورة بالعتمة الحالكة السواد، هناك نسوة يعرفن كيف يتسللن من كوات نور صغيرة والناس نائمون، ثم يفعلون ما يفعلون..... أما سهام، فهي بعكس ما حكى عنها صديقي، مسكينة تماماً، لأنه لا يتوقع أن أقع أنا مع امرأة بسيطة".

"ماذا تعني بمسكينة؟".

"مسكينة ليس فقط لوحدتها، ولكن أيضاً لبساطتها الشديدة، فهي بالكاد حصلت على الشهادة الابتدائية، لا تعرف شيئاً من الحياة سوى العمل الممل، والتسوق في المجمع التجاري الضخم قرب بيتها، ومشاهدة التلفزيون.....".

يقاطعني صديقي "أي إنها لا تحب لا الشعر ولا الموسيقى!".

وأردف أنا "ولا النبيذ ولا المطر".

تمتعض لميس "لا تحب الشعر والموسيقى، ولا النبيذ والمطر، هذه مخبولة بالكامل، لا أريد أن أتعلم منها شيئاً من الطرق المحترمة وغير المحترمة وهي بهذا الغباء الشديد. لا تحضرها إلى هنا، أذهب معها إلى أية مقبرة، واستمتعا بسهرتكما هناك بين الأموات. وإذا أردت المجيء لعندنا، اذهب وابحث عن امرأة أخرى بدلاً منها، امرأة حقيقية، نحيلة وسكيرة وعابثة، غير محترمة لا في الشارع ولا في السرير، مثلي تماماً، والآن اتركنا ودعنا ننم بعد هذه الحكاية الحزينة، واذهب أنت إلى مقبرتك".

****

سهام

أصمت أمام صديقي ولميس طويلاً كلما ذكرا سهام، صمتي علامة على تبرمي بالحديث عنها ومحاولتي الهروب منه. أتذكر ما حدث لي..... مع سهام، ومع السيدة سهام، ومع..... لا أعرف ما اسميها سوى "الجنية سهام "! لا أجرؤ على البوح بذلك لأحد، شيءٌ ما أقوى مني يحاول أن يخفي ما حدث ليلتها، حتى ورد لا تعرف ما حدث في تلك الليلة البعيدة عنها، بالرغم من قدرتها على التسلل إلى مسارب الذاكرة. يبدو أن ورد نفسها بكل الحنين المختزن فيها من الماضي لا يمكنها الدخول إلى منطقة خاصة، مُغلقة عليها في الذاكرة، منطقة لا زمنية غافية طوال الوقت.

 ثم أتى أمرٌ غرائبي، وكأنه قادم من كون ثانٍ مغاير لعالمنا، ليوقظ هذه المنطقة ويحرضها في زمن لا أرضي غير مدرك إلا حدسياً، فحدث معي ما حدث. وربما ورد هي أيضا قادمة من كون ثالث مغاير، تسللت من بوابات لازمنية إلى كوننا، انفتحت على ذاكرتي ودخلت حياتي مع المطر. وبعكس التجربة الكابوسية مع الجنية سهام، يمكن أن تكون ورد قد استطاعت التأقلم مع إمكانية الحضور والغياب ضمن شروط معينة لا أفهمها، وإن كان بعضاً منها يتعلق بالحنين الذي اختزنه في داخلي للمطر.

 على كل الأحوال كانت تجربة كابوسية قاسية مع السيدة سهام، أو مع الجنية سهام، تجربة سريعة استمرت أربعة أيام فقط، حدثت قبل أن أتعرف إلى ورد واستقر معها على وضع مريح شبه مستمر.

كانت عوالمي الداخلية منذ الصغر غنية وحيوية، لم أفكر وقتها كيف تستطيع الانفلات بسهولة من القوانين التي تحكم توضع الأشياء وحركتها في المكان، وتحديداً بالارتباط مع عالمنا حيث يعيش البشر. أليست العوالم الداخلية جزءاً من عالم البشر هذا، وهو ما نسميه بالعالم الخارجي مقارنة بها؟ ومع ذلك لم يتبادر إلى ذهني التفكير كيف تنفلت، ولماذا؟

 منذ الصغر كان المعلمون يشرحون لنا في المدرسة أن أي جسم له ثلاثة أبعاد في المكان، الطول والعرض والارتفاع، ومع تقدمنا في التعلم أضافوا أن له أيضاً بعداً رابعاً هو الزمن، وجميعها تخضع لقوانين محددة. إلا أنه مع ازدياد الوعي المترافق مع اشتعال عوالمي الداخلية بقوة منذ المراهقة، أخذت اكتشف إمكانية التحرر من قوانين العالم الخارجي، سواء في أحلام اليقظة التي أتحكم بها جيداً، أو في المنامات الليلية التي تتحكم بي في أثناء نومي. كنت أستطيع مثلاً الطيران في أحلام اليقظة، بغض النظر عن قانون الجاذبية، وأصل إلى شرفة بنت الجيران، وأقبلها طويلاً، وكنت أستطيع أن أتعارك مع عناصر جهاز الاستقرار وأهزمهم كلهم، واحدٌ مقابل عشرة، وكنت أتسلق السموات السبع لأرى ما وراءها، ساخراً من تحريمات أستاذ الديانة، وهو يقول إن الأسئلة ممنوعة هنا لأنها تحولت إلى تجديف، ولكنني أصر أنه ربما هناك أيضاً سماء ثامنة وتاسعة وعاشرة، فلماذا لا أحاول اختراقها ورؤية من يتحكم بها.

 ومع أن بنت الجيران تزوجت وذهبت بعيداً، إلا أنني بقيت أطير في أحلام اليقظة وأقفز إلى الشرفات، ولكن مع التحول إلى بنت الجيران الثانية، التي ما إن تتزوج أيضاً حتى أطير إلى التالية. أما حلم العراك مع عناصر جهاز الاستقرار وهزيمتهم فقد اختفى نهائياً من أحلام اليقظة بعد إرسال العنصر "أبو أحمد" ليستقر في داخلي ويراقب أفكاري وأحلامي الداخلية، بل وأخذ يرسل تقاريره المنتظمة عنها إلى رؤسائه في الجهاز. ومثله أيضاً اختفاء حلم يقظة شتيمة السماء بعد إرسال أستاذ الديانة أيضاً إلى داخلي، فأبعد له "أبو أحمد" مكاناً إلى جانبه، وتعاونا معاً على تسجيل أفكاري وأحلامي، ولكن أستاذ الديانة كان يرفع تقاريره إلى الآلهة الجالسة على عرشها في السماء، ولا أدري إن كان يُسرب منها شيئاً إلى جهاز الاستقرار إضافة إلى ذلك..... هكذا كان وضع أحلامي الداخلية عندما كنت في البلد قبل أن أسافر.

 وبما أن صلاحيات "أبو أحمد" وأستاذ الديانة كانت تنتهي على الحدود الدولية، فقد تخلصت منهما عندما سافرت إلى "سلومانيا"، تخلصت منهما نهائياً، ولم أسمح لهما بالتسلل إلى داخلي بعد ذلك أبداً. ولكن لسوء الحظ انسل بدلاً منهما إلى داخلي مراقب جديد، يستغل أحدث تقنيات الاتصالات السمعية ـ البصرية المعاصرة في إرسال تقاريره إلى رؤسائه عن أفكاري وأحلامي، وكان هذا هو المنقذ الأمريكي العالمي، الذي قرر أن ينقذنا من أنفسنا، بالسلاح الأمريكي أو الحلم الأمريكي، لا يهم! وبالرغم من إمكانيات القوة والسيطرة لديه فقد تحولت المواجهة معه إلى عراك مستمر، سواء على مستوى العوالم الداخلية أو على مستوى العالم الخارجي.

وهكذا انتظمت عوالمي الداخلية منذ طفولتي في إطار حرية نسبية من الخيال، لكنها لم تتعدَ عناصر تركيباتها ما هو موجود في العالم الخارجي، ولم تتعدَ حكايات بنات الجيران، أو حساباتي مع "أبو أحمد" أو أستاذ الديانة أو المنقذ الأمريكي العالمي الذكي.

ثم بدأت أتعرف على مكتشفات حديثة لعلوم الفيزياء الفلكية بسبب حبي للقراءة والمعرفة العلمية، ولاحقني شغف شديد بها لغرابتها وحاجتي إلى أجوبة عن التساؤلات الوجودية الإنسانية القلقة التي استمرت دون نهايات حاسمة، وخاصة بعد ما عرفت أن البحار والجبال والأنهار والغابات والسهول لم تأتِ من تزاوج الآلهة، وإنما من انفجار كوني عظيم بدأ من بيضة كونية. وبما أن للبيض تأثير مهم في حياة بلدتنا من حيث إمكانية كتابة طلاسم السحر عليه، فقد اختلطت وتصارعت في ذهني نتائج الاكتشافات العلمية مع شطحات الخيال العلمي، وعوالم الأساطير، وحكايات العجائز في البلدة. فالكون قبل الانفجار الأعظمي جاء من حالة العدم الموجية الساكنة المستقرة بتناظراتها المطلقة، وهناك أيضاً سلسلة من الانفجارات الأعظمية لبيضات كونية متتالية، شكلت كوناً نواسياً في تمدداته وتقلصاته المتناوبة، في حين اقتصرت قوانين نيوتن على مجالات الكرة الأرضية، فقد حلت مكانها قوانين النسبية والكوانتية، التي تتحكم بالكون كله في لانهاياته الكبرى والصغرى. وفي ازدحام كوني من ملايين المجرات، التي تحوي كل واحدة منها بلايين النجوم، لم يبقَ مكان لكائنات أستاذ الديانة الماورائية، من الجن والشياطين، التي لم يتعرف عليها أحد من العلماء، وبقيت حبيسة الحكايات. كانت هذه المعارف العلمية قفزة لخيالي من أحلام اليقظة بالرغم من كل غناها إلى عالم جديد مفتوح بتوقعات لا نهائية، ومن أساطير صغيرة مرتبطة ببنت الجيران إلى عوالم جديدة بأساطير كبيرة مفتوحة عن البدايات والنهايات الكبرى.

 وبطفرة من المكتشفات الجديدة التي تم التأكد منها على مستوى الرياضيات فقط، بدأت أسمع فجأة عن وجود أكوان أخرى غير كوننا المعروف والمدرك لنا، أكوان متوازية أو أكوان منطلقة من جذر واحد، لها أبعاد شبيهة بأبعاد عالمنا، ولكن لا يمكن الاتصال فيما بينها لاختلاف البنى المكانية والزمانية. ومن وقتها أصبحت مهووساً بملاحقة كل الأخبار العلمية وغير العلمية عنها، فربما سكنت الآلهة القديمة في إحداها بعد أن ملأت حياتنا بالفوضى ورغبات القتل وحب الدم المسفوك، ومن ثم تخلت عنا لسبب غير مفهوم، بالرغم من أننا مازلنا نقدم لها آلاف الأضاحي البشرية في حروبنا اليومية.

 وازداد اندفاع التعرف على العوالم المغايرة عندما أخذت أقرأ عن عوالم بأبعاد غير رباعية مما نعرفه في عالمنا، بدءاً من عالم البعد الواحد بتدرجاته المتصاعدة نحو الأبعاد اللانهائية. من هنا بدأ الجنون يضرب عقول مؤلفي الخيال العلمي، فأخذوا يصنعون حكاياتهم وأساطيرهم الجديدة، التي بدت أساطير الآلهة القديمة أمامها متخلفة جداً. فمنهم من قال إننا نستطيع الانتقال إلى الأكوان الأخرى عن طريق الأحلام الليلية، ثم نعود إلى عالمنا عندما نستيقظ. ومنهم من قال إن هناك بوابات لازمنية للانتقال بين هذه العوالم، ولكنها تحتاج إلى سرعات تتجاوز سرعة الضوء للمرور منها، بل إن بعضهم قال إننا نستطيع العودة إلى الماضي دون تحطيم قانون السببية أساس الأحداث في كوننا، من خلال القفز إلى كون آخر موازٍ. فانفتح خيالي بحدود مجنونة، فربما هناك عوالم مليئة ببنات الجيران اللواتي لا يتزوجن، ويبقين جالسات على الشرفات، عوالم بدون قمع "أبو أحمد" وأستاذ الديانة والمنقذ الأمريكي العالمي.

 ومع الحديث المتزايد عن وجود كائنات عاقلة في الكون غيرنا، بدأت الحكايات تتالى عن زيارات لها إلى كوكبنا، بل ورأى البعض أن المنجزات في الحضارات القديمة إنما تعود إلى هذه الكائنات الزائرة، التي يمكن أن تكون قد خلقت البشر في أنابيب اختبار، أو تزاوجت مع كائنات حيوانية دنيا فظهرت طفرة البشر. وبلغ الهوس ببعضهم أن سمى هذه الكائنات الزائرة بالآلهة، التي أخذ الناس بعبادتها بعد مغادرتها المفاجئة لنا دون سبب مفهوم، ولازالوا يعبدونها..... ولا أدري ما هي الحكايات التي سنستمر ببنائها في المستقبل، شيء يصيبني بالدوار عندما أفكر بذلك، جنون في جنون، يتجاوز الجنون الصغير في عالمنا الأرضي، وتصبح أحلام يقظتنا الحالية أمامها حلم نملة صغيرة تتحرك في مجرة كبيرة.

ما حدث مع الجنية سهام في تلك الليلة يتجاوز الكوابيس، شيء عشته وأدركته بكل حواسي، وكأن أحد عوالمي الداخلية اصطدم وتشابك مع بعد زمني لعالم آخر، يقع خارج كوننا الذي نعرفه بحواسنا المباشرة، عالم في كون آخر تقاطع وتفاعل زمنه بطريقة لا أفهمها مع عالمي الداخلي، فحدث ما حدث، وتم اختزان ذلك في الذاكرة اللازمنية الغافية المغلقة حتى على ورد، وإن كانت ورد على الأرجح قد ارتبطت بذاكرة لازمنية أخرى، ولكنها أكثر مرونة وانفتاحاً واستمرارية مع عالمنا.

لو حدثت صديقي بما حدث ليلتها، لقال منتصراً "هل ترى كيف أن العوالم الماورائية موجودة، وها أنت تتصل بها، ولكن كبرياءك العقلاني لا يتنازل عن حتمياته".

ولو حدثت لميس بها، لظلت تضحك طويلاً في كل مرة تراني فيها، وتعلق ساخرة "مهووس أنت بعوالمك الداخلية حتى الجنون المرضي، فإذا لم تكن قادراً على إيجاد امرأة طبيعية اذهب إلى العجوز التي تقرع أبواب البيوت بحثاً عن عروس، فتنحل عندئذٍ عقدك الجنسية والنفسية مع فتاة تقليدية محترمة".

حدث ما حدث بعد عودتي من السفر بفترة قصيرة، فقد انتقلت من عالم منظم مريح وعقلاني في "سلومانيا"، إلى عالم تضرب فيه الفوضى هنا في كل مكان وبكل لحظة. وكان علي التأقلم مع هذا العالم الجديد ـ القديم، الذي انقطعت عنه أكثر من خمس سنوات، فوجدته قد تغير جذرياً نحو الجنون. وكان هذا ضرورياً ما دمت قد عدت برغبتي الخاصة ودون أي ضغط من أحد، هرباً من بلاد العيون الرمادية، وأملاً في إيجاد ذات العيون العسلية، حلمي الخاص الذي قررت أن أعيش في محاولة جادة لإيجاده هنا. ولكن الانقطاع المفاجئ عن الليالي الماجنة مع ذوات العيون الرمادية تركني في حالة قاسية من الحرمان..... بدأت أعي أكثر أنه في بلادنا لا يمكن ممارسة الجنس بشكل طبيعي واعتيادي إلا مع زوجة بعقد قانوني وشرعي، أو في بيت دعارة تغطيه حماية أمنية رسمية، لكن بشكل سري، أما العشيقة والصديقة وسيدة الأعمال ورفيقة النضال فلا يمكن الحياة معهن حياة جنسية طبيعية إلا إذ كان المرء من دوائر السلطة العليا ورجال المال المتحكمين، الذين يبنون نفوذهم من اختناقات الناس البسطاء..... وجميع هذه النوعيات لا تدخل في حسابي.

في ظل الأجواء النفسية والجسدية التي عشتها عند عودتي، أصابت البلد موجة حر شديدة لم يسبق لها مثيل، لم ينجُ منها إلا أصحاب الشقق المكيفة، الذين كانوا يختزنون كمية كبيرة من البرودة في أجسادهم، بحيث يستطيعون السير في الشوارع بملابسهم السميكة والأنيقة، مع ربطات العنق والمعاطف. أما أنا فقد كنت أشعر بالحر الشديد يلفحني أينما تحركت، في الشارع أو في البيت، يتصبب العرق الغزير مني باستمرار، ولاسيما من جبيني، ليسيل ويغطي عيني بغلالة رقيقة، تجعلني دائماً أرى كل ما حولي وكأن غمامة من البخار القطني المائل إلى الشفافية تغلفه، فأضيع بين الواقع والسراب. ومع أنني كنت أمسح العرق المتصبب مني بغزارة بطرف قميصي إلا أنه كان يستمر في الهطول، ولهذا كان التوتر والقلق يرافقني بشكل دائم. وفي صدمة هذه الضغوط النفسية والجسدية وفي هذه الأجواء الحارة لم أكن قد وضعت خططاً للبحث عن ذات العيون العسلية، ولم تتسلل بعد ورد من مطر النافذة، فكل ما حولي يصدمني بشدة، يوترني ولا يدعني أفكر بشكل طبيعي.

تعرفت على سهام في "مؤسسة الأعلاف للحيوانات الداجنة"، حيث تعمل هناك، وكان قد تم الطلب مني إقامة سلسلة محاضرات عن كيفية توثيق أطنان من الأوراق الرسمية، المرمية والمكدسة في القبو منذ الاحتلال الإفرنجي لبلدنا. وافقت على مضض، رغبة مني في إثبات وجودي العلمي بسرعة، فأنا قادم جديد ولا أحد يعرفني. ذهبت إلى المؤسسة في يوم شديد الحرارة حسب الموعد، وانتقلت بشكل مفاجئ من الجو الحار الملتهب في الخارج إلى صالة مكيفة شديدة البرودة، مما أدى إلى إصابتي بصدمة التحول النفسي من جو سرابي إلى جو رفاهية استعراضي. شعرت وكأن انفصاماً قد أصابني نتيجة هذا الانتقال من جو الناس البسطاء إلى أجواء الناس المُرفهين، رافقه صداع شديد واهتزاز في الرؤية. ووجدت نفسي أدخل إلى قاعة اجتماعات، توضعت في منتصفها طاولة مستطيلة كبيرة، جلس حولها خمسة عشر شاباً وفتاة بوجوه غريبة، مشوهة بتطاولها غير الطبيعي، وقد تركوا كرسيين متجاورين عند رأسها، جلست على واحد منهما وبقي الثاني فارغاً.

وما إن حاولت الشروع بإلقاء محاضرتي الأولى حتى قاطعني الجميع بأصوات غريبة، وكأنها صادرة من شريط تسجيل تم إبطاء سرعته "من فضلك، لا نستطيع أن نبدأ ما لم تحضر السيدة سهام"، فتوقفت مستغرباً.

جاء مستخدم يحمل صينية توضعت عليها زجاجات شاي مفلطحة وأوعية قهوة متطاولة، استنكر الجميع "كيف تحضر المشروبات الساخنة والسيدة سهام لم تحضر بعد؟ أعدها بسرعة".

نهض شاب ليغلق نافذة مفتوحة بسبب الضجيج القادم من كوكب آخر ـ كما قال ـ ، تنادى الجميع "كيف تغلق النافذة ولم نأخذ رأي السيدة سهام؟! ربما لها اتصالات تخاطرية من خلالها، اتركها مفتوحة حتى تحضر".

سألت إحدى الفتيات بصوت هامس، إذ يبدو أنها جديدة في العمل من طريقة ارتباكها بالكلام "هل أستطيع أن أعطس قبل أن تأتي السيدة سهام؟".

اختلف الحضور بين موافق ومعترض، فهذه واقعة جديدة لم تنجز دراستها من قبل على المستوى الديني والوطني، وتحديد قوانينها الناظمة. وفي أثناء نقاشهم الحامي كانت الفتاة قد عطست، غير قادرة على التحكم بنفسها وقبل أن يصلوا إلى نتيجة، فتطايرت الوثائق الرسمية من على الطاولة، وانتصبت أطراف شوارب الرجال إلى الأعلى من شدة العطسة البريئة، فصمت الجميع وجلين من تداعيات الحادثة.

مِلتُ إلى الرجل الجالس بقربي، الذي تبدوا عليه مظاهر الوقار والهدوء ولم يتدخل في النقاش العبثي حول العطاس، وهمست قائلاً له "أرجوك، ما الحكاية؟ من هي سهام، من أي كوكب ـ عفواً أقصد من أية مديرية في مؤسستكم؟".

أجاب بمظهر جدي، ولكن بصوت مرتفع مستنكر حتى يبعد عنه الشبهات "السيدة سهام من فضلكم! ثم ألا تعرفون السيدة سهام؟! هي رئيسة الديوان في المؤسسة".

تنادت الأصوات بعدئذٍ:

"هي التي تقرر ما يجب عرضه على المدير العام من البريد الرسمي، وتحدد من يستطيع مقابلته من المراجعين وفق المصالح الوطنية العليا".

"تقرر من يشرب الشاي أو القهوة في المؤسسة، حسب أيام الأسبوع، وضمن سياسات الادخار الوطني".

"تأخذ القرار النهائي بالاستراتيجيات العامة والخطط التنفيذية ضمن سياسات الدولة الاقتصادية والثقافية والحيوانية".

"تمثل المدير العام في الاجتماعات الأمنية السرية خارج المؤسسة".

"يزورها خصيصاً الرفيق "أبو رعد" ليأخذ رأيها بالأوضاع الأمنية في المنطقة، وتقدم له تقريراً استراتيجياً سرياً كل أسبوع".

"صحيح أنها تحمل الشهادة الابتدائية، إلا أن خبرتها العملية تعادل شهادتك النظرية التي تحملها من الغرب".

"يقولون إن لها اتصالات مع إخواننا الجن الصالحين، الذين يساعدونها على تنفيذ كافة أعمالها وإعانتها على أعداء الوطن وعملائهم في الداخل".

بعد نصف ساعة من الانتظار تم الإعلان عن قدوم السيدة سهام بعد انتهاء لقائها مع المدير العام، فانبعثت من مكان ما موسيقى رسمية وطنية صاخبة. تهيب الجميع من دخولها، رفعوا ظهورهم وشدوا أكتافهم، ووضعوا أيديهم على الطاولات، وتحولت وجوههم من متطاولة إلى مستديرة. دخل من الباب ثديان ضخمان ممتلئان في قميص أحمر قرمزي، تقدما وهما يهتزان إلى الأعلى والأسفل على إيقاع موسيقى الفصول الأربعة لفيفالدي، وجلسا على الكرسي الفارغ بجانبي، فهدأت الموسيقى. ترتفع من جديد بعد عشر دقائق موسيقى السيمفونية الأربعين لموزارت، فقد لحق بهما رأس وجسد بلباس أحمر خمري، ليجلسا مع الثديين. إلا إنه بعد عشر دقائق جديدة تضج بشكل قوي موسيقى السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، فقد اقتحمت القاعة وراءهما مؤخرة عريضة وعالية وسمينة وثقيلة، بسروال أحمر، انحشرت في الباب ودخلت منه بصعوبة بالرغم من اتساعه وهي ترج من ثقلها، فتذهب يميناً وشمالاً من طرف الغرفة إلى طرفها الآخر على إيقاع الموسيقى، لتلتحق ببقية الأعضاء. اكتملت أخيراً السيدة سهام، سكنت الموسيقى، أستطيع إذاً أن أبدأ المحاضرة.

قالت السيدة سهام، وهي تنظر إلي بطرف عينها مبتسمة "على الجميع أن ينتبهوا إلى ما سيقوله المحاضر المحترم، وعليكم تسجيل جميع المعلومات على دفاتركم".

وما أن بدأتُ بالكلام حتى شعرت بساق السيدة سهام تلتصق بساقي، واستمر هذا طوال المحاضرة، فقلت في نفسي "بسيطة هذه حركة عفوية إنسانية".

اليوم الثاني، التصقت ساقها وفخذها وطرف مؤخرتها بي بالكامل من تحت الطاولة طوال المحاضرة، وبالرغم من سريان حرارتها إليَّ فقد قلت في نفسي "مسكينة الكرسي ضيق لا يتسع لجسدها الضخم، فأخَذتْ قسماً من الكرسي الذي أجلس عليه، وعلى كل الأحوال هذا تعبير من المودة والحميمية".

اليوم الثالث، انحشر ساقها وفخذها تحت جسدي بضراوة ناعمة، حتى كدت أجلس في حضنها، وقالت "انتبهوا جيداً للمحاضرة، سأشاهد ما تسجلونه في دفاتركم". ومع حركتها هذه داخلني الشك، وتساءلت فيما إذا كانت ترغب بشيء محدد! إلا أنني أبعدت هذه الفكرة السيئة من رأسي، فالسيدة سهام محترمة جداً في المؤسسة، وهي تمثل أخلاقيات الإدارة العامة.

اليوم الرابع والأخير، أجلستني في حضنها بالكامل فغرقت به، واستندت بظهري إلى ثدييها الضخمين المريحين، قالت "لا يرفع أحد رأسه عن دفتره، من يكتب بشكل جيد سيحصل على مكافأة مالية عالية، ومن يهمل واجبه الوطني سأسلمه إلى "أبو رعد" ليأخذه إلى القبو". وفي أثناء ذلك قامت بفتح سحاب بنطالي، وأوغلت يدها عميقاً بضراوة وحشية، فهمت عندئذٍ ما تريده، وتابعت المحاضرة وقدمت فكرة عن الكتب والمقالات الجنسية كمثال نموذجي للتوثيق.

انتهت المحاضرة الأخيرة، همست لي السيدة سهام "سنجد طريقة لتكملة المحاضرات معاً، أريد أن أرفع مستواي العلمي بشكل مستمر".

وقبل أن أخرج من المؤسسة قالت لي "سيقيم المشاركون في المحاضرات احتفالاً صغيراً بمناسبة انتهائها، وبما أن المطاعم أصبحت غالية الأسعار، فسيحضر الجميع إلى شقتي غداً الساعة العاشرة ليلاً ونحتفل هناك معاً، سننتظرك".

يبدوا بعد غيابي الطويل للدراسة في "سلومانيا" أن الأوضاع الاجتماعية قد تطورت في البلد، بحيث أصبح الشباب والفتيات يستطيعون الاجتماع بسهرات لطيفة وبريئة في منزل أحدهم، بدلاً من المواعيد الغبية في زوايا الحدائق المستورة بالشجيرات الصغيرة، أو في الكافيتريات المرتفعة الأسعار والمليئة بدخان السجائر المزعج.

ذهبتُ في الموعد المحدد إلى شقة السيدة سهام، قرعت الجرس، فتحت الباب امرأة غريبة الوجه والشكل. وقبل أن أتبين ملامحها، هاجمتني أمواج من عطر كثيف وثقيل وعتيق، سبب لي حساسية شديدة في أنفي، فسالت الدموع من عيني بكثافة وغطتهما بغلالة رقيقة، فأصبحت أرى ما حولي من وراء ستار شفاف، وضاع كل شيء حولي في غمامة بألوان تتدرج ما بين البنفسجي والنهدي، وكأنني دخلت أجواء سحرية.

 سألت "هل هذا منزل السيدة سهام، أم أنني أخطأت العنوان؟".

ضحكت المرأة بصوت عالٍ بحيث سمعه كل من في البناء، وأجابت "أنا سهام، ادخل قبل أن يرانا أحد".

فكرت لماذا الخوف من أن يرانا أحد، أليست هذه سهرة بريئة عند سيدة محترمة! دخلت وسألت "أين الصبايا والشباب؟".

" اعتذروا كلهم عن المجيء، لأن توقيت السهرة متأخر جداً وبيوتهم بعيدة، قالوا إنهم يخافون أن يتحدث عنهم أحد بالسوء، ولذلك سنحتفل لوحدنا".

نظرت إلى السيدة سهام، لم تعد سيدة كما في المؤسسة، عندما كانت ترتدي ملابس محتشمة. أتأملها الآن من خلف غلالة الدموع، فأراها شبه عارية، إذ لم ترتدي سوى ثوباً قصيراً، يكشف عن كامل فخذيها الضخمين والممتلئين، وظهر منه صدرها الواسع حتى منبت الثديين. وسرعان ما اشتكت من الثوب الضيق الذي قالت أنه يكاد يخنقها، ففكت زرين علويين فاندلق ثدياها العملاقان، وهبطا نحو الأسفل، وكادا أن يلامسا أرضية الغرفة. وأرخت سحاباً من الخلف، فتحررت المؤخرة واندلقت إلى الخلف مع هبوط إلى الأسفل، وسقطت حرة لتملأ خلفية الغرفة.

 تطلعتُ إلى وجه سهام، فلاحظت طبقات من مساحيق الزينة قد تكدست فوقه، حمرة خمرية كثيفة على الشفتين المكتنزتين، وحمرة وردية ثقيلة على الخدين المنتفخين كبالونين، وحمرة نهدية على الجفنين اللذين سقطا بتثاقل فوق العينين، وخطّان من الحمرة القرمزية انسحبا من طرفي عينيها نحو أذنيها، في حين انتصبت رموشها الطويلة بحمرة كستنائية ثقيلة كأشواك حادة. أما شعرها فقد كان غريباً، يتدلى بجدائل متلوية فبدا مثل أفاعي مرمية على الكتفين، وقد تثاقلت أذناها بقرطين ثقيلين من الزمرد، كان يُفضل حملهما باليد بالمقارنة مع حجمهما. ولاحظت أيضاً أنها كلما كانت تفتح فمها لتتحدث ألمح شعلة نارية حمراء داخله تتراقص ممتدة إلى الخارج، أما أظافرها المطلية بالأحمر الناري فقد كانت طويلة جداً، تكاد تنفصل وتسقط عن رؤوس أصابعها.

شعرت بالرعب من هذا الكائن الماورائي، هذه جنية الحكايات التي كان يتحدث عنها فلاحو البلدة المُسماة "المُذرَة"، تغوي الرجال بغنائها العذب ليلاً قرب السواقي في الغياض، وما أن ينسحر أحدهم بصوتها ويقترب منها حتى كانت تصيبه بالشلل، أو تجعله معتوهاً، أو تحوله إلى تيس، وقد تفترسه. وتذكرت ما قاله أحدهم في المؤسسة أنها تتصل بالجن الذين يعينوها على أعمالها، فقررت التراجع والهروب من المنزل، وقد هاجمتني أفكار سوداء عما يمكن أن يفعله الجن ببني الإنسان. إلا أن الجنية سهام أمسكت يدي بلطف، فسرى في داخلي سكون وهدوء وطمأنينة، وقادتني إلى الصالون، فمشيت معها مشلولاً ومسحوراً.

 انفتح الباب بلمسة من أصبعها، فهاجمتني هذه المرة روائح جديدة مغايرة، روائح طعام شهي، جعلني أتذكر جوعاً عتيقاً يرافقني منذ أن رجعت من السفر. طاولة كبيرة، أكبر من طاولة قاعة الاجتماعات، مليئة بكل ما لذ وطاب من المأكولات الشهية، تتصاعد منها الأبخرة لتصل إلى أنفي وتجعلني أشعر بعدم التوازن، ويغللها غمام بين النهدي والسماوي، في حين كانت شعلات نار صفراء برؤوس زرقاء تتوزع على الجوانب وفوق صحاف الطعام، من أجل إعطاء أجواء سحرية جنية .

 قلت لنفسي "وليمة ملكية تليق بقدرات جنية عاشقة!".

 استغرب من نفسي إذ بدأت التحدث بلغة الجنية، فقد انتقلت أفكارها إلي عن طريق التخاطر على ما يبدو، بحيث لم أعد أعرف هل هذه هي كلماتي أم كلماتها.

تَربّعَ في منتصف الطاولة فخذ غزال يسيل منه الدهن مشتعلاً، وضلع خاروف مشوي فوق طبقات من شرائح البصل والبندورة، وإلى جانبهما ديك رومي محشي بالرز والمكسرات، وانتظمت حولهما أربع بطات، وستة دجاجات مشوية بلون أشقر محمر فوق أكوام من البطاطا المقلية في نطاق أول، وأزواج حمام وعصافير، وشرائح من لحم البقر، مقلية بزيت الزيتون ومغطاة بطبقات من الثوم المهروس بحمض الليمون في نطاق ثاني، وكباب بالصنوبر والفليفلة الحادة مشوي مع البقدونس والبصل والبندورة في نطاق ثالث. وتوضع على طرف الطاولة طبق عملاق مليء بالمحاشي، كوسا وباذنجان وورق عنب وفليفلة، محشية كلها بالرز واللحم، ومرمية على شرائح من دهن الخاروف الذائب. وعلى الطرف الآخر انتصب طبق كبير من الرز مغطى بطبقات من اللحم الناعم المفروم مع مكسرات، جوز، ولوز، وفستق، وصنوبر، وكستناء، وإلى جانبه أوعية مليئة بالفاصولياء، والبازلاء، والبامية، المطبوخة بعصير البندورة. وتوزعت في كل مكان فارغ صحاف الكبب المقلية المشقرة والمشوية التي يتساقط منها الدهن الذائب، والمقليات من البطاطا، والفطر، والباذنجان، وتناوبت إلى جانبها أوعية الحساء، بعظم الخروف، وبالدجاج والشعيرية، وبالخضار، وبالعدس، وبالفطر، وتداخلت بينهما أطباق المعكرونة بالجبن، وبعصير البندورة، وبالخضار. ثم تزينت الطاولة بصحون السلطات الخضراء والصفراء والحمراء والخمرية المغطاة بطبقات المايونيز.

وعلى طاولة أصغر حجماً توزعت أطباق عملاقة من الفواكه، بعضها ليس في أوانها، برتقال أحمر، وتفاح زهري، وأجاص قرمزي، وتوت فريز أصفر، وموز نهدي بخطوط زرقاء، وبطيخ حليبي، ومشمش كحلي. وانتصبت في منتصف الطاولة شجرة تمر وشجرة جوز هند، متثاقلتين بثمارهما. وانتصبت بين الأطباق أباريق العصير الطبيعي..... وفجأة لمحت بينها مذهولاً زجاجات كوكاكولا، إلى هنا وصلوا أيضاً؟!

تحرك الجوع الشديد في داخلي، الجوع القديم الضارب بجذوره في عمق الزمان، فأنا لم أعد أذكر متى تناولت طعاماً طبيعياً، منذ شهر أو شهرين، أو ربما منذ عودتي من السفر، لا ألتهم في هذه الأيام سوى الهامبرغر والبيتزا والتشيكن هاوس والكوردون بلو، الملفوفة بعلب كرتونية، والتي أزدردها في الطريق بدقائق. أما الآن فسألتهم كل شيء بهدوء، لن أترك طبقاً واحداً، سآكل على دفعات وأرتاح بين الفينة والأخرى، لأعاود الهجوم مرة ثانية وثالثة ودون نهاية، وسأطلب من الجنية أن تُجدد بقواها السحرية بعض الأطباق التي لم أقرأ عنها سوى في كتب التراث، مثل الغزال والديك الرومي.

أسأل الجنية سهام "ألا يوجد نبيذ فرنسي مع هذه الوليمة الملكية الجنية الفاخرة؟".

ترد باستغراب "لا هذا حرام، الخمرة منكر لا يجوز الاقتراب منه، مثله مثل لحم الخنزير، حتى في عالم الجن لدينا! ثم كيف تطلب مشروباً أجنبياً يتعارض مع مشروباتنا المحلية الوطنية، فنحن جن ملتزمين".

"والكوكاكولا؟!".

"لا هذا مشروب عالمي، لا يقتصر فقط على معشر الجن والإنس، بل وتشربه الكائنات اللطيفة على كوكب بلوتو".

استغرب أنني بدأت أتحدث مع الجنية سهام بشكل طبيعي، وكأنني أصبحت ممسوساً بها، ولكنني لم أكن أفكر بالحقيقة بها، بل بالوليمة الرائعة، إذ سرعان ما هممت بالجلوس لأبدأ بفخذ الغزال، مع أنني لاحظت خيبة أمل كبيرة على وجهها، إذ يبدو أنها كانت تأمل أن الوليمة ستكون طريقاً يقود إلى القلب، فأتجاوب مع انفعالاتها المشبوبة وأعشقها، في حين كانت انفعالاتي المشبوبة متوجهة إلى الوليمة لا إليها. يبدوا أن كل شيء يصلها عن طريق التخاطر، تفهم توجه انفعالاتي، إذ داهمني شعور بأنها ستبدأ معي بمحاولة أخرى جديدة.

أمسكت الجنية سهام بيدي وسحبتني إلى أريكة مجاورة، وعيوني، وعقلي، وقلبي، وحواسي، كلها مع الوليمة، لم تستطع أن تنتزع تأثيرها مني بالرغم من قواها السحرية، ولكنني فوجئت بالكامل بعد أن وَضَعتْ يدي على صدرها الدافئ وهي تقول لي "دعني أسر لك قبل الطعام ما بقلبي من أحزان قديمة وخيبات أمل، أريد أن أكون معشوقة لك بالكامل، ولن أعطي نفسي لأحد غيرك".

ثم أخذت تبكي وتبكي، تبكي دون انقطاع وبدون نهاية، حتى أحسست أنها ستبكي حتى نهاية العالم، بكى معها الغزال، والخروف، والديك الرومي، والبطات، والدجاجات، والحمامات، والعصافير، والبقرات، الموجودة على طاولة الطعام. تبكي وقد أخذت الدموع الذهبية الحارة تسيل من عينيها، اللتين اتسعتا بحيث لم يبقَ من وجهها سوى عينين كبيرتين محمرتين من شدة البكاء، وهي تقول "زوجي الغدار".

لم أعرف أن لدى الجن هذا الضعف، ثم قالت أنها ستعشقني أنا، فمن أين أتى زوجها هذا... على الأغلب هذه ليست الجنية سهام، نسيت السيدة سهام... هذه السيدة سهام. يبدو أن هناك تلاعب بالأدوار بينهما، أو أنهن وجهان لكائن واحد.

أحضرتُ علبة محارم ورقية وحاولت بكل جهدي مسح دموعها، انتهت العلبة، وجدت ثانية وثالثة ورابعة، مسحت ومسحت، ولكن سيل الدموع الذهبية لم ينقطع. سالت على خديها، ثم إلى ما بين ثدييها، وتسللت من تحت الثوب لتخرج ساقية من بين فخذيها، لتسيل على الأرض متلألئة.

 ومع استمرارها بالبكاء تبلل ثوبها، فقمت بعصر أطرافه بصعوبة بسبب قصره، ولكن دون فائدة، فنهضَتْ وخلعته وحدها، فظهرت كل أكوام اللحم المكدسة تحته، لا شيء سوى اللحم. انتهت المحارم الورقية، أشارت السيدة سهام إلى خزانة في طرف الصالون لأحضر منها مناشف لمسح الدموع. فتحت الخزانة، مفاجأة جديدة، فهي مليئة بقمصان النوم من جميع الألوان والتفصيلات، عددتها، سبعون قميص نوم! ماذا تفعل بها كلها؟ سخرت لفكرة مماثلتها لعدد عشاقها من الإنس والجن! فتحت الدرج السفلي، أخذت منه مناشف بيضاء، وزرقاء، وبرتقالية، وخضراء، وأخذت أمسح بها الأرض من الدموع التي أصبحت وردية شفافة. لا فائدة، امتلأت أرضية الغرفة بساقية الدموع بارتفاع عدة سنتيمترات. رفعنا رجلينا إلى الأريكة حتى لا تبتل بها، فانفرج فخذيها، وشاهدت مغارة واسعة وعميقة، شبيهة بمغارة علي بابا، باب أسود خارجي، في حين يتلألأ الداخل بأنوار وردية، وخمرية، وقرمزية.

نظرت إلى الطاولة، والروائح الشهية تتلاعب بي، وسألتها "ألا نستطيع أن نأكل قليلاً، لقد عرفت مدى الحزن المختزن في قلبك.....".

اعترضت بنشيجها وقالت "دعني أحدثك أولاً كيف هجرني زوجي، وبعدها سنأكل".

توقفت عن البكاء، وانقطع سيلان الدموع، ولكن ليس بالكامل، فالتنهدات مع طفرات صغيرة منها كانت تأتي من وقت لآخر، وأخذت تروي لي الحكاية :

" كان زوجي الحاج شبقبق رجلاً محترماً، مولعاً بالنوم معي باستمرار، وأنا كنت حيوية ومنفتحة جنسياً دون عقد، أستطيع تلبية كافة رغباته ونزواته. لديه مخزن لبيع الأقمشة النسائية، يستبقي به شاباً يعتمد عليه في عند غيابه. ولذلك كان لديه كل الوقت ليقفز علي كالديك، يقفز بحيوية في الصباح، والظهر، والمساء، هذا دون الحديث عما يحدث في الليل، يمتصني ويلتهمني قبل الطعام وفي أثنائه وبعده، يأخذني بمتعة في غرفة النوم على السرير وتحت السرير، وفي المطبخ وأنا أحَضر الطعام، أو أخبز الخبز، أو أغلي القهوة، وأمام النافذة وهي مفتوحة، أنا أنظر إلى الشارع وهو يلهث ورائي، ومرة أخذني على السقيفة بالرغم من سقفها المنخفض. وإذا كان لديه زبونات في المحل يعتذر منهن لعشر دقائق لتنفيذ عمل ضروري، خمس دقائق للطريق وخمس أخرى ليأخذني بملابسي، ويعود مسرعاً إليهن. وعندما تزورني جارتاي سميرة وبهيرة ويراهنَّ تأتيه الرغبة دائماً، فأعتذر منهن لدقائق من أجل تحضير الضيافة، وأذهب لغرفة النوم ليمتطيني بشوق عجيب، وعندما أرجع إليهن مشعثة الشعر ممزقة الثياب متصببة من العرق، يستغربن "ألا زال هناك رجال يضربون زوجاتهم؟!".

وكل يوم في الصباح أترك زوجي نائماً محطماً بعد ليلة طويلة ماجنة، أنهض وأفتح باب المنزل، وتفتح جارتنا سميرة باب شقتها المقابلة، ونتحدث. أنت تعرف أن النساء تحب الثرثرة، نتحدث طويلاً عن نساء الحارة وعشاقهن، أمضي الوقت بالحديث ريثما يستيقظ الحاج شبقبق وأعد له الفطور. سميرة امرأة جميلة، ولكنها مطلقة، ولذلك تخاف كثيراً على سمعتها، تلبس باحتشام وهي واقفة على الباب خوفاً من مرور رجل من الجيران، تشد الروب دو شامبر بزنار متين على خصرها، فلا يبدوا شيئاً من تحته. إلا أنني بدأت ألاحظ أن الزنار أخذ ينحل أكثر فأكثر مع هذه المحادثات الصباحية، وبدأ ينكشف من تحت الروب دو شامبر قميص النوم ونحن نتحدث. ثم ظهرت بملابسها الداخلية من تحته، متعللة بأنها استيقظت من النوم قبل قليل. وبعد ذلك ظهرت تحته عارية بالكامل، قائلة بأنها خرجت قبل قليل من الحمام، إلا أنها مضطرة لتروي لي على عجل أخباراً مهمة عن جارتنا بهيرة التي تسكن في الشقة تحتنا، فقد سمعت أنها تذهب إلى الشيخ الساحر محمود، ولكن لا تعرف لماذا. وفجأة داهمني إحساس بأن أحداً يقف ورائي، ألتفت فجأة، فوجدت الحاج زوجي يقف ورائي مستيقظاً، ولكن بعضوٍ شديد الانتصاب، فأغلقت سميرة الباب بسرعة. تساءلتُ، هل كان يتلصص عليها من ورائي هكذا كل يوم؟ ألهذا تنتابه رغبة شبقة عارمة بأن يمتطيني بشوق شديد في اللحظة التي أغلق فيها الباب؟ أبعد الشك عن نفسي، فالحاج شبقبق يحبني، وهو رجل محترم في السوق لا يمكن أن يلوث سمعته! ولكنني منذ ذلك الوقت أنهيت المحادثة الصباحية مع سميرة، إذ شككت بسوء نيتها هي، وليس بنية زوجي.

ومنذ أن أغلقت الباب وانقطعت عن الحديث مع سميرة، لم يعد الحاج يقترب مني، رغم أنني أصبحت كل يوم أشتري قميص نوم جديد له، ولكن عضوه كان مرتخياً بشكل دائم، لا ينتصب أبداً. ولم يعد الحاج يرجع إلى البيت إلا متأخراً، وينطرح نائماً على الفراش حتى دون عشاء، مع أن الشاب الذي يعمل معه في المحل أسر لي ذات مرة أن الحاج لازال يغيب عن المحل كل ساعة لمدة عشر دقائق، وأضاف الشاب أنه جاهز لأي خدمات شخصية، إذ سمع أن الحاج يغيب كثيراً عن البيت.

توقفت السيدة سهام عن الحديث قليلاً، وتنهدت، فسألتها "ألا نستطيع أن نأكل الآن، فلقد بدأت أشعر بجوع شديد؟".

تجيبني "انتظر لن يهرب الطعام وسيبقى ساخناً، ولكن ألا تريد أن أخبرك بما حدث بعد ذلك، كيف هجرني الحاج وتركني وحيدة وحزينة؟".

" بلى، أرغب بذلك، ولكن سنأكل بعدها، أليس كذلك؟".

استمرت السيدة سهام بالحديث "كرهت الجارة سميرة لغدرها، ونزلت لعند الجارة بهيرة أشكو لها مصابي، وما ألم بي من نوائب الزمن، وإليكَ حديثي معها :

قالت لي الجارة بهيرة "بسيطة ومسكينة وغبية أنت يا سهام، جارتك الذكية سميرة ذهبت لعند الشيخ الساحر محمود، أعطته مالاً وفيراً، فسحر زوجك وربطه".

أسألها بدهشة "ماذا يعني يا بهيرة سحره وربطه؟".

تشرح بهيرة "ألا تعرفين ما يعني هذا؟! ألم تطلب سميرة أثراً من زوجك ذات مرة؟".

" لا أفهم ماذا يعني الأثر يا بهيرة، وكأنك اليوم تتحدثين بالطلاسم؟".

"ستبقين يا سهام طوال عمرك بسيطة، ألم تحصل سميرة على شَعر أو محرمة أو قطعة ثياب لزوجك؟".

" أتذكر أنها طلبت مني منذ وقت قريب قبل انتهاء محادثتنا الصباحية ملابس قديمة لزوجي، لتستخدمها في مسح الأرض وتنظيف الأثاث من الغبار لديها!".

"مسكينة يا سهام، لقد أخذت سميرة أثراً من ملابسه إلى الساحر محمود، قرأ عليها طلاسم سحرية، ودفنها في المقبرة، ومن وقتها أصبح عقل زوجك ضائعاً بعشقها. ثم ألم تشاهديها تسكب ماءً على الدرج أمام شقتك؟".

"نعم شاهدتها، قالت إن هذه ماء مقدسة لتحرس منازلنا من الشياطين والعفاريت!".

"هذه مياه مسحورة يا غبية من عند الشيخ محمود، مقروء عليها طلاسم ليزداد انشباك زوجك الحاج بالسحر عند مروره فوقها. ثم هل أرسلت سميرة صحناً من الطعام لتتذوقي أنت وزوجك من طبخها الشهي؟".

"نعم، كثيراً ما كانت ترسل صحوناً وقد أحب زوجي طعامها".

"انتهت الحكاية، لقد أخذوا عقل زوجك أولاً بالأثر المدفون، وشبكوه ثانياً بالمياه المسحورة، ثم أطعموه ثالثاً من الخلطة السحرية".

"ما هي الخلطة السحرية؟".

"تطبخ سميرة طعاماً ثم تتفل به كمية من بصاقها، وتخلط الطعام بعد ذلك بمسحوق سحري مجفف، يتكون من قدم أرنب أنثى ورأس عصفور خنثى وعضو ذكري لثور، مطحونة كلها معاً، ثم ترش عليهما شيئاً من بولها. وبما أن زوجك أحب طعامها فقد وقع صريع عشقها".

" جعلتيني أشعر بالقرف، هل من المعقول أنني أكلت أنا هذه القذارة! سأذبحك يا سميرة عندما أراك. ولكن أخبريني يا بهيرة، بما أنني أكلت مثله، فلماذا لم أعشقها أنا أيضاً؟".

" قرأوا عليها طلاسم سحرية ذكرية يا غبية، وتركيبة جعل المرأة عاشقة هي معاكسة، مسحوق عضو أرنب ذكر ورأس عصفور خنثى وحافر بقرة، وطبعاً مع قليل من بول الرجل. ولكن إذا كنت ترغبين بالنوم مع النساء فأنا جاهزة يا حبيبتي سهام دون طلاسم سحرية، ما رأيك؟".

" أنت الغبية، كيف ترغبين بالنوم معي وليس لديك عضو ذكري؟".

" ستبقي أنت الغبية دائماً يا سهام، وستحتاجين إلى كثير من خبرة الحياة لتتعلمي معناها واكتشاف متعها".

" أنا هكذا غبية يا بهيرة، لا أستمتع إلا بعضو منتصب مثل عضو الحاج. ولكن بما أن زوجي أصبح مسحوراً بعشق سميرة، فلماذا لم يعد عضوه ينتصب بالرغم من كل قمصان النوم المثيرة الني اشتريتها له، وماذا ستستفيد سميرة من هذا الوضع غير المنتصب؟".

"يا مجنونة، أخذوا خيطاً وعقدوا له عقدة على اسمك، فعضوه يرتخي عندك، ولكنه ينتصب عندها".

" وماذا أفعل يا بهيرة، جعلتيني حزينة، كيف أجعله ينتصب عندي ويرتخي عندها؟!".

"اذهبي يا جارتي سهام إلى الشيخ محمود، وادفعي له نقوداً أكثر ليفك جميع أنواع السحر الذي أوقع زوجك به بسحر مضاد، ثم اطلبي منه أن يفك العقدة في الخيط التي ربطت زوجك بالنفث عليها بطلاسم سحرية مضادة، وبهذا سيعود لعشقك، ويعود عضوه للانتصاب عندك وللارتخاء عندها".

وهكذا انتهت المحادثة مع بهيرة على أن أذهب إلى الشيخ محمود".

أتدخل أنا الآن بالحديث وأسألها "وهل ذهبتِ يا سهام إلى الشيخ محمود بعد انتهاء محادثتك مع الجارة بهيرة؟".

أجابتني سهام "نعم، ذهبت، ولقد حزن حزناً شديداً عندما شاهدني، قال أنه لم يرَ في حياته امرأة في مثل حسني وجمالي، ولو عرفني قبل ذلك لما ربط زوجي من أجل جارتي القبيحة سميرة".

أسألها "وماذا فعل لك الشيخ محمود يا سهام ؟".

تجيب "الأجدر أن تسأل ماذا فعل بي! في البداية أحضر سبع ورقات خضر من نبات السدر، ودقها بين حجرين عليهما كتابات سحرية، ثم ألقى المسحوق في وعاء ماء، ووضع يده المقرفة ذات الأظافر الطويلة السوداء فيه، واخذ يقرأ طلاسم عليه، وطلب مني أن أسقي بعضاً منها لزوجي وأضيف البقية إلى ماء اغتساله. وقال لي الشيخ محمود أيضاً أنه سيذهب إلى المقبرة ويستخرج أثر زوجي ويحرقه بسحر مضاد".

" وهل نجح ذلك؟!".

" لا لم ينجح ذلك، بقي عضو الحاج شبقبق مرتخياً عندي ومنتصباً عندها. رجعت لعند الشيخ محمود، فقال لي يبدو أن السحر قد تمكن من زوجي. وأحضر إناءً نظيفاً وكتب عليه بمداد طاهر أدعية سحرية قوية باللغة العربية، ثم محاها بسكب زيت حبة البركة السوداء فوقها، فذابت فيه. وزيادة في الحيطة، أحضر ورقاً أبيضاً طاهراً غير مسطر، وكتب عليه بالزعفران وماء الورد المخلوط بالمسك طلاسم أخرى، ولكن باللغتين الرومية والعجمية، وحلها أيضاً في نفس وعاء زيت حبة البركة، ثم جفف الورقة وحرقها حتى لا تترك أثراً. وطلب مني أن أسقيه ما بالوعاء لعدة مرات..... ولم ينجح هذا الدواء أيضاً، فالسحر كان معنداً في جسمه بشكل عميق.

وفي المرة الثالثة قرر استعمال سحر ثلاثي المفعول، أحضر سبع بيضات بصفارين مسلوقة، وسبع حبات فول كبيرة مزروعة في الصحراء، وقرن كل بيضة مع حبة فول ليقرأ عليها طلسماً خاصاً، لأطعمه كل يوم زوجاً منها، وقال لي إن هذا يفك السحر بالتأكيد عن زوجي وسيرجعه طبيعياً. ثم أحضر الخيط القديم الذي عقد له به بعد أن وجده مرمياً في قعر صندوقه، وقطع العقد بشفرة حادة وهو ينفث عليها، وقال هذا لفك الربط ليعود عضوه إلى الانتصاب عندي. ثم طلب مني أن أحضر ثلاثة فؤوس، ألقي كل واحدة منها في نيران عيدان من زعرور الجبال المشتعلة بقدح حجرين صوانيين، فإذا ما أصبحت الفأس محمرة من شدة الحرارة طلب مني أن أبول عليها، فينطفئ لهيب الحب المشتعل في قلب زوجي لسميرة. وأعطاني فوق هذا للاحتياط أشرطة تسجيل فيها خطب وأحاديث لدعاة متقين، كي يسمعها زوجي ثلاث مرات قبل الطعام مع أخذ كمية كبيرة من الماء معها، وحذرني بأن لا أسمعه معها أشرطة أخرى حتى لا يحدث لديه اختلاط وتسمم سمعي".

قلت لها "الآن بالتأكيد سيكون زوجك قد شُفي تماماً مع هذه الأدوية القوية التأثير..... هل نستطيع الآن تناول الطعام؟".

"لا، اكتشفنا متأخرين بأن زوجي لم يكن مسحوراً، فقد كان معنداً وعنيداً ضد أي سحر بالأصل".

"ولكن يا سهام، أنت قلت لي أن عضوه كان مرتخياً بشكل دائم؟!".

"نعم كان مرتخياً من كثرة القفز على سميرة، وليس من السحر، فقد كان يداوم في شقتها طوال النهار، ينام معها ساعة، ويعتذر منها لعشر دقائق، خمس دقائق للطريق، وخمس دقائق ليبيع صفقة، ويعود لعندها من جديد".

"لقد استغلك هذا الشيخ إذن وسرق أموالك، ولم يجد سحراً".

"لا، لا تقول هذا، الشيخ محمود كان محترماً معي، ألا يكفي أنه طلب مني أجرته بنصف ما كان يأخذ من الزبائن الآخرين. ولكن بما أن زوجي كان متعلقاً بسميرة، فهذا يعني أن هناك سحر".

"ولكنك قلت لي أنه لم يكن مسحوراً".

"نعم لم يكن مسحوراً، بل أنا التي كنت مسحورة".

"أنتِ؟!".

"نعم أنا، ولم ندرِ بذلك إلا متأخراً، ولقد تعب الساحر حتى كشف ذلك. وبما أنه كل سحر مُعَند يرافقه رصد، فهذا معناه أن هناك جني، ولذلك كان لابد من البحث عنه".

"جني؟!".

"نعم فقد تلبسني جني بعد أن عشقني وأصبح يغار عليَّ بشدة، فما أن يقترب زوجي الحاج مني حتى يصورني الجني قبيحة وكريهة أمامه، فيشمئز زوجي مني ولا ينتصب عضوه، فيتركني".

"وكيف عشقك الجني حتى أصبح يغار عليك بشدة ؟".

"الشيخ محمود قال لي أن زوجي الحاج عندما كان يمتطيني لم يكن يستعيذ بالشيطان، فيأتي الجن ويتفرجون علينا عرايا ونحن نمارس الجنس. وعندما شرحت للشيخ أنني صاحبة خبرة في الإثارة والإغراء ومعرفة الوضعيات، فقد قال لي أن الهياج كان يصيب معشر الجن وهم يتفرجون علينا، بحيث أن أحدهم عشقني، فأخذ يلاحقني في كل مكان. وأنت تعرف أن الجو حار في هذه الأيام، فقد كنت أتحرك في البيت وأنام بملابس رقيقة وشفافة، فازداد تولهه بي. وذات مرة كنت عارية في الحمام، فاستغل الجني الفرصة وتلبسني، وأصبحت له، وصار يرغب الانفراد بي في اليقظة والمنام. وهو يغار عليَّ الآن كثيراً ولا يسمح حتى لزوجي بالاقتراب مني، فالجن أكثر غيرة من بني الإنسان".

"وماذا كان رأي الشيخ محمود؟".

"قال إن هذا زنا وحرام، لأنه لم يتم عقد نكاح شرعي مع الجني، وأنا لازلت على عصمة رجل آخر، وقرر إخراج الجني من جسدي".

"من جديد أدوية وطلاسم وأشرطة تسجيل!".

"لا، هذا ليس فك سحر، بل طرد جني، وهو شيء مختلف عنه تماماً".

"وماذا فعل الشيخ محمود ليطرد هذا الجني؟".

"قال لي إن بعض الجن يخرجون من جسد محبوبتهن بالإقناع والتفاهم إذا كانوا مؤمنين، فإن تمسكوا بالبدن يكونوا من الكافرين، وعندئذٍ يمكن اللجوء إلى ضربهم لإخراجهم بالقوة، وقد يضطر الشيخ إلى حرقهم".

"حرقهم! وكيف يتم حرق جني؟!".

"قال الشيخ محمود إن قتل الجن غير جائز وحرام، فيؤخذ العهد من الجني عند إخراجه بعدم العودة إلى جسد المسحور، وإذا عاد ولم يفد معه الضرب فإن حرقه جائز، بل وضروري".

"ولكن لم تقولي يا سهام كيف يتم حرق الجني المتلبس بجسد إنسان، هل يتم حرق....".

"يا خوفي، هذا يعني أنه كان من الممكن أن يشعل النار بي ليحرق الجني..... ولكن لحسن الحظ لم نصل إلى هذه المرحلة!".

"وكيف أخرج الجني إذاً؟".

"طلب مني الحضور مساءً حتى يتفرغ لطرده في عملية قد تطول، ولم يكن أمامي إلا القبول، إذ كنت أرغب باسترجاع زوجي. وطلب مني الشيخ خلع كل ملابسي، وارتداء ثوب مطيب بالمسك، فالجن يكرهون الروائح الطيبة وتزعجهم فيهربون منها، كما قال لي، وبما أن الشيخ كان تقياً صالحاً فقد خرج من الغرفة حتى انتهيت من ذلك. وعندما عاد إليها جعلني أتمدد على فراش واسع، ثم دهن بالمسك إحدى وثلاثون موضعاً من جسدي، وهي أصابع اليدين والقدمين ما بين الظفر واللحم، وفتحتا الأذن، وفتحتا الأنف، والحاجبان، وحلمتا الثدي، وعضوي الجنسي، وفتحة الدبر، وثقب السرة، ولكنه لم يدهن حول الفم إذ تركه لطرد الجني. وبهذه الطريقة سيتمكن من محاصرة الجني في جسدي حتى لا يتلاعب بنا، ويُصبح مجبراً على الخروج من فمي فقط، وقد أغلقت عليه كافة الفتحات إذا ما أراد الدخول مجدداً.

 ثم أشعل الشيخ بخوراً، فغطت الرائحة الطيبة التي فاحت منه على رائحة لحيته الطويلة الكريهة، وأقترب مني ونظر في عيني نظرة جعلتني أرتعش من الخوف، وصرخ بصوت مرتفع طالباً من الجني الخروج من جسدي باللين والحسنى والتفاهم. ولكن بما أن الجني لم يرضخ للطلب، فقد أضطر الشيخ محمود أن يمسد أعضاء جسدي للبحث عنه، وليعرف في أي مكان يختبئ، ومن ثم يطرده بالقوة. وأخيراً أمسك به عند ثديي، فأخذ يفركهما بين اللين والشدة حتى تنحل قوى الجني، فيتعب ويخرج، ويبدو أنني أنا التي شعرت بالانحلال، فتمنيت أن يبقى الجني مقاوماً عند الثديين لبعض من الوقت.

 وبينما كنت منساقة وراء هذه الأفكار الجنية فوجئت بصراخ الشيخ وهو يسب الجني، الذي تسلل من ثديي إلى السرة، وعندما شم رائحة المسك عليها هرب فزعاً إلى ما تحتها، فلحقته يدا الشيخ الماهرة إلى الأسفل. وتوقف الجني عند العانة، ولم يرضى بالخروج من الأسفل لأن عضوي كان مدهوناً أيضا بالمسك، وذلك بالرغم من صراخ الشيخ المتوتر، وبالرغم من مهارة يده التي أخذت تقسو عليه. أضطر الشيخ عندئذٍ إلى إدخال أصبعه في عضوي ليدفع الجني إلى الأعلى نحو الفم، فبلغ بي الانحلال أشده، وكأنني شعرت بشهوة غريبة لم أختبرها أبداً مع زوجي الحاج، الذي لم يلمسني بمثل هاتين اليدين الخبيرتين والأصابع الماهرة. وبما أن أصابع الشيخ نحيلة، لا تستطيعان الوصول إلى الجني، وليست بقادرة على دفعه إلى الأعلى بقوة، فقد أضطر إلى إخراج عضوه الذكري المنتصب، الذي لم أرَ أجمل وأكبر وأكثر رشاقة منه في حياتي، وأدخله بي بدلاً من أصابعه، وهجم به على الجني، وأخذ يدفع به، يخرجه ليدفعه من جديد، مرة دفعات سريعة خفيفة، ومرة دفعات بطيئة ولكنها عنيفة، في صراع طويل. أما بالنسبة لي فقد أخذت استمتع بما يحدث بطريقة لم أعرفها مع زوجي الحاج من قبل، فبدأت انتشي أكثر بالدفع والرهز غارقة في متعتي، في حين تركت الشيخ والجني يتصارعان لوحدهما".

سألتها "وماذا حدث بعد ذلك؟".

أجابت "لا شيء، أصبحت أذهب كل يوم لعند الشيخ محمود مساءً، ويحاول دفع الجني من جديد من الأسفل، مرة من القبل، ومرة من الدبر، ونجح أخيراً في زحزحته من مكانه، إلا أنه استقر في حلقي، مربوطاً دون فاعلية، ولكن كان على الشيخ تهديده بشكل مستمر من الأسفل حتى لا يفكر بالرجوع".

أعود وأسألها "ولكن ماذا حدث مع زوجك في النهاية، هل رجع إليك؟".

" لا، فقد أخذ العلاج وقتاً طويلاً حتى نجح، ولكن في أثناء ذلك كان الحاج شبقبق قد هجرني، اشترى شقة جديدة، كبيرة وجميلة، تقابلها أبواب أربع شقق، بدلاً من باب شقة واحدة في بيتنا القديم، وتزوج فيها سميرة".

" إذاً غشتك الجارة بهيرة، وخسرت زوجك".

"لا فعلت معي كل الخير، فلقد اختبرت هي قبلي تجربة إخراج الجني من جسدها، ولم تكن غيورة، ففتحت لي مجالاً لأجربها أنا أيضاً، إذ يبدو أن الشيخ محمود كان متخصصاً بمعالجة الحالات الصعبة التي يتلبس فيها الجن أجساد النساء. أما زوجي فإنني غير متأسفة عليه، فهو غدار".

مر بعض الوقت من الصمت والسكون والهدوء..... يبدو أن الحكاية قد انتهت، وبالتالي أستطيع الآن القفز إلى المائدة وتناول الطعام، ولكن السيدة سهام عاودت البكاء من جديد، إلا أنها هذه المرة سرعان ما توقفت عنه بهدوء وشيئاً فشيئاً، وكأن حفلة البكاء السابقة كانت مقدمة للحكاية، وحفلة البكاء الحالية خاتمة للحكاية. من الجيد أن الخاتمة كانت سريعة ببعض الشهقات والتنهدات، إلا أنني لم أستطع تحديد فيما إذا كانت نهاية الحكاية سعيدة أم حزينة.

عانقتني بعدئذٍ السيدة سهام العارية بحرارة، وقالت لي "أنا أعشقك، وأريد أن تكون لي لوحدي، سأغار عليك أكثر من بني الإنسان، وأريد الانفراد بك في اليقظة والمنام، وإذا وافقت فسأجعلك قبيحاً وكريهاً أمام كل النساء، حتى لا تحبك أية واحدة منهن، ولكن ستكون في عيني أجمل وأوسم وأرشق رجل في حياتي. وحتى أحصل على موافقتك سأجعلك الليلة تعيش أجمل اللحظات، التي لم ترها حتى في الأحلام".

يبدو أن السيدة سهام قد تحولت من جديد إلى الجنية سهام، أو أن الجنية عادت وتلبست جسد سهام، بحيث لم أعد أعرف من هي السيدة سهام، ومن هي الجنية سهام.

قفزت الجنية سهام بجسدها العاري إلى أرض الغرفة التي نشفت من الدموع، لترقص. واشتعل فجأة جسدها كله بنار قرمزية مرتجفة، مما أضفى عليها جمالاً ضوئياً عجائبياً متلألئاً، وأخذت كتل اللحم العارية المشتعلة بضياء نيرانها تتراقص تتمدد وتتطاول، حتى ملأت فضاء الغرفة، واشتعلت أفاعي شعرها المجدولة بنار نهدية، وقد وصلت إلى الأرض وانفرشت مثل مروحة يد صينية، وأخذت تتطاير مع كل تمايل وانثناء. وقفز كل ثدي بشعلة حلمته الوردية في اتجاه، في حين ارتجت الغرفة مع كل اهتزاز لمؤخرتها، فتناوب انزياح وعودة الظلال والضياء على الجدران. وكلما ازداد إيقاع رقصها تطاولت ألسنة النيران، وتماوج صوت انخطاف لهيبها في هواء الغرفة مع الحركات المهتزة. واتسعت عيناها بشكل واسع حتى كادتا أن تخرجا من محجريهما، واندفعتا إلى الأمام. ثم أخذت تلهث من فمها، فانبثق منه لهيب نار ضاربة إلى اللون الخمري بتناوب مع اللون الكحلي، وانفتح عضوها الكهف مع انثناءات مؤخرتها وفخذيها، فبان في الداخل جمر مضيء بنار برتقالية وصفراء، وقد تصاعدت منه أبخرة فستقية تضيع في هواء ما بين فخذيها. ثم قامت يدها بحركة دائرية سحرية، فاشتعل كل ما هو موجود في الغرفة على شكل لهيبات صغيرة، توزعت فوق الأثاث دون أن يحترق.

استغربت من أنني لم أشعر بالخوف من كل ما يحدث أمامي، يبدو أن الجنية سهام منحتني السكينة والطمأنينة بنوع من التخاطر، ومع أنني كنت مسحوراً بغرائبية وعجائبية ما يحدث أمامي إلا أنني وجدت ذلك مثل ألعاب السيرك، التي تصبح مملة ومضجرة إذا طالت بالرغم من جذبها الأولي. ولكنني كنت أفضل لو أن السحر فعل فعله في ذوات العيون الرمادية البليدات في "سلومانيا"، وتعلمن رقصة النار هذه، ولكن بالطبع دون النار المرافقة، والأفضل لو تناولت الوليمة الملكية وهن يرقصن أمامي.

يبدو أن الجنية سهام فهمت ما يدور بذهني، وشعرت أنني لن أذوب بعشقها، فقررت أن تستعمل آخر أسلحتها. فهجمت عليَّ وقررت أن تُذقيني شهد جسدها الناري بمتعة لم يختبرها أحد من الإنس، حتى تستلب جسدي وعقلي معاً. قفزت فوقي ومزقت ثيابي بطريقة سريعة، وغمرتني بجسدها، فاشتعلتُ معها بالنيران، ولكن دون أن أحترق أو أتألم. وبما أن عضوي الذكري قد أصبح أصبعاً صغيراً أمام كهفها السحري المشتعل، فقد دخل فيه ودخل معه جسدي بالكامل، وسرعان ما شعرت بحرارة الكهف المشتعل، الذي أخذت جدرانه تذهب وتجيء بي، تقفز وتهتز، ترتج وتتلوى، بحركة بطيئة في البداية، لتتحول شيئاً فشيئاً إلى حركة مجنونة، وأصبح كل ما حولي يدور. وبدأت تنساب من جدرانه سواقي رطوبة لزجة دافئة، غمرتني حتى أنني كدت أختنق فيها.

 لم أجد أية متعة في هذه المعمعة النارية الملتهبة، بل خفت أن أضيع في أحد الممرات المنزلقة، أو يتم ابتلاعي إلى الداخل، وانحبس هناك بشكل دائم. فسبحت إلى الخارج نحو بصيص الضوء المهتز، الذي كان يتراءى ويختفي بشكل شبه منتظم، وفجأة وجدت أمامي عموداً علوياً معلق في السقف، مضاء بنار داخلية شديدة الاحمرار، تمسكت به بشدة محاولاً تسلقه هرباً من سيل الرطوبة الناري الذي أخذ ينسال الآن كالمطر، إلا أنني كنت أنزلق عليه فأعاود تسلقه من جديد. يبدو أن انزلاقي وصعودي المستمر وأنا أحاول النجاة بنفسي من السقوط كان يؤدي إلى زيادة الاهتزازات، التي انفلتت في النهاية بشكل مجنون، شبيهة بهزة أرضية تبتلع كل ما هو منتصب. ثم انفجر البرق والرعد وثارت الصواعق حولي، وانتشرت غمامة وردية كثيفة، هطل منها مطر وردي غزير، شكل سيولاً دفعتني بقوة إلى خارج الكهف، ولولاها لاختنقت واختفيت داخله. يبدو أن الجنية سهام قد وصلت إلى نشوة عنيفة، بينما كنت أنا طوال الوقت أحاول أن ألملم حالي، وسرعان ما تنفست الصعداء عندما بدأ الجمر والنيران والإضاءة تخفت ببطء داخل كهفها وفي جسدها وفي الصالون، وسقطت أنا منهكاً في ظلام دامس، متحسراً على الوليمة الملكية الجنية التي لم أتذوق منها شيئاً.

يوقظني ضوء الشمس الحارقة المتسلل من نافذة غرفتي منذ الصباح الباكر بشكل مزعج، لا أقوى على النهوض لإرخاء الستارة، أشعر بصداع شديد في رأسي الثقيل، وآلام في أعضاء جسدي المتيبسة، وقد سقطت غمامة بليدة على عقلي. حاولت أن أتذكر ما حدث معي ليلة البارحة، فتراءت لي صور كابوس مريع، لم أمر بمثله في حياتي كلها..... صور مبهمة عن امرأة تبكي بغزارة دموعاً ذهبية، جنية مشتعلة ترقص بجنون ناري، ووليمة ملكية لم أسمع عنها سوى في حكايات التراث عن الأمراء النهمين، سيول مطر وردي كدت أن أختنق فيها..... من أين تأتيني هذه الكوابيس اللعينة، التي ازدادت في هذه الأيام! ربما بسبب الأجواء الحارة الخانقة التي تلاحقني في الشارع والشقة غير المكيفة، إضافة إلى نومي دون عشاء وإحساس قوي بالجوع طوال الليل.

أنهض بتثاقل وأمضي إلى المرآة، فلا أرى سوى وجهي المُجهد الزابل، أتأمله، فألاحظ عليه بقعاً وردية وكأنها بقايا حروق، تمضي باتجاه عنقي وصدري. أخلع ملابس النوم بتوتر وقلق، أجد جسدي كله ممتلئاً بها، ولكن الغريب أنها لا تؤلمني، هل هذه حساسية جلدية، أم أن جسدي البارحة!..... أبعدت فكرة اشتعاله في الكابوس بسرعة من ذهني، فهذا غير معقول، هو مجرد كابوس، وهذه حساسية جلدية، سأذهب إلى الصيدلية وأشتري مرهماً ملطفاً لهذه البقع.

أذهب إلى علاقة الثياب لأرتدي ملابس الخروج، يطير صوابي، ممزقة بالكامل، وقد أصبحت مهترئة وكأنها اشتعلت وأطفئت على عجل..... لا هذا غير معقول، لقد مزقت الجنية ملابسي في الكابوس، ولكن ما علاقة هذا بالواقع؟! وكأن كل الآثار تشير إلى ليلة حقيقية. يداخلني التوتر والرعب الشديد، أشعر أنني قد وصلت إلى حافة الجنون..... هناك السيدة سهام في المؤسسة، هي موجودة، وهي التي دعتني إلى حفل انتهاء المحاضرات في شقتها، وليس أمامي إلا أن أذهب إليها في عملها وأتأكد من كل شيء.

أرتدي ملابس أخرى على عجل، أقفز على الدرج بخطوات طائرة، أركب تاكسي، وأطلب بشكل مستمر من السائق الإسراع بأقصى ما يمكن بالرغم من الازدحام الشديد، حتى ظن أن بي تسمماً، وخاصة بعد ما شاهد وجهي المجهد والزابل، ظل يسألني طوال الوقت "إلى أي مستشفى تريد أن أسعفك يا أستاذ قبل أن يسري السم في جسدك بالكامل؟".

ولكن السائق فوجئ بطلبي التوقف أمام مؤسسة الأعلاف للدواجن، أقفز من التاكسي بسرعة وكدت أنسى دفع الأجرة لولا صياح السائق المندهش الذي ظن أنني مسموماً "الأجرة يا أستاذ، عجايب يا زمن، كنت أظنه سيموت بين لحظة وأخرى، فإذا به مجنون ذاهب إلى موعد غرامي، ومع من؟! مع موظفة مهترئة، وأين؟! في مؤسسة دواجن!".

لا أرد على السائق، مع أنني لم أتساءل كيف عرف إلى أين أنا ذاهب، فليثرثر كما يريد، المهم أن أرى السيدة سهام. ألتقي عند مدخل المؤسسة الرجل الذي تبدو عليه مظاهر الاحترام والهدوء، وكان مترفعاً عن المشاركة بالنقاش العبثي حول العطاس. بادرني بالتحية، مستغرباً وجودي في المؤسسة، قائلاً "كانت محاضراتك مفيدة لو أننا تابعنا العمل بالتوثيق الورقي، ولكننا أخبرناك أننا قررنا الانتقال إلى التوثيق الإلكتروني، ولأجل هذا اعتذرنا عن العمل معك".

فوجئت بكل ما يقوله، أي توثيق ورقي وأي توثيق إلكتروني، على كل الأحوال أنا لم أحضر إلى هنا من أجل هذا، ولذلك سألته متلهفاً "أين السيدة سهام؟".

"أية سيدة؟ لا يوجد لدينا سيدة اسمها سهام!".

"كيف لا يوجد..... رئيسة الديوان!".

"هذه ليست السيدة سهام، هذه المخبولة سهام، مكتبها في نهاية الممر، مسكين أنت يا أستاذ، من يسأل عن هذه المخبولة؟!". وذهب وهو يتمتم شيئاً ساخراً لم أفهمه.

أركض بسرعة في الممر، أجد لوحة معلقة على الحائط قرب أحد الأبواب، "الديوان"، أدخل، في صدر المكتب أشاهد امرأة تجاوزت الأربعين، أقرب إلى القباحة منها إلى الجمال، غاطسة بين أكوام من الملفات والأوراق، ولم يظهر من بينها سوى رأسها المغطى بلفافة قماش غريبة.

أقترب منها وأسألها "السيدة سهام؟".

بدت المفاجأة واضحة على وجهها، مستغربة من لهجة الاحترام الموجهة لها، إذ يبدو أن الجميع يناديها هنا سهام المخبولة. ابتسمت وقد احمر وجهها "أهلاً أستاذ، سمعت أنهم استغنوا عن خدماتك الورقية، قرروا حرق كل الوثائق الورقية التي أعمل على ترتيبها في هذه المؤسسة منذ عشرين عاماً".

لا يهمني هذا، أسألها "ألم تحضري المحاضرات التي ألقيتها في المؤسسة عن التوثيق؟".

"أستاذ لا تسخر مني، دخلت إلى القاعة حيث كنتم مجتمعين، وزعت عليكم الأوراق البيضاء والأقلام، وخرجت".

"فقط!".

"نعم فقط، فالمحاضرات كانت موجهة لحاملي الشهادات الجامعية، كنت أرغب أن أسمعك، ولكن لا أحمل سوى الشهادة الابتدائية، فلم يسمحوا لي بالبقاء".

"سهام ألم أجلس معك؟".

"نعم جلست، حضرت أنت إلى الديوان لتشاهد فوضى الوثائق".

"لا، أقصد خارج الديوان، ألم أزرك في بيتك؟".

تنظر إلي مستهجنة "لا تسخر مني يا أستاذ، أنا امرأة مسكينة لا أحد يهتم بي. ثم لماذا تتحدث معي هكذا، فأنا امرأة محترمة، وإن كنت مطلقة، لا أستقبل أحداً في بيتي، أرجوك لا تسئ إلى سمعتي بهذه الحكايات".

"أريد أن أشرب فنجان قهوة عندك في المنزل".

"غريبة كل تصرفاتك معي يا أستاذ..... ولكن تعال بعد انتهاء العمل الساعة الخامسة مساءً".

لن تنحسم الحقيقة إلا بزيارة الشقة، لأعرف إذا كان ذلك كابوساً أم واقعاً. خرجت من عندها مضطرباً وأنا أنتظر المساء بلهفة، وصوت سهام يلاحقني من بعيد "ولكن ألا تريد أن أعطيك عنوان المنزل؟".

أجيب دون أن ألتفت إليها "أعرفه".

الساعة الخامسة، أذهب إلى الشقة التي أعرفها تماماً، إذ يبدو أنني قدمت إليها سابقاً، قرعت الجرس، فتحت الباب امرأة تلبس ثوباً بسيطاً دون غطاء رأس، شعر كستنائي بتسريحة بسيطة. تهاجمني أمواج من رائحة الرطوبة المعششة في الداخل، أسأل "هل هذا منزل سهام؟".

تقول بصوت منخفض حتى حد الهمس "أنا سهام، أدخل بسرعة حتى لا يرانا أحد".

وكدت أن أسألها "أين الصبايا والشباب؟"، ولكنني تماسكت وتراجعت في اللحظة الأخيرة، فانا الآن أعيش في الواقع، وما حدث لي سابقاً كان كابوساً. تفتح لي باب الصالون، طاولة صغيرة قديمة تتربع في المنتصف، فكرت مباشرة أن الجنية سهام قد انزعجت مني في المرة السابقة، لأنني لم أتجاوب معها، وهي تعبث معي الآن قليلاً، وستحضر الوليمة الملكية بعد قليل.

نجلس على الأريكة التي أعرفها، أسألها "سهام، أنا جائع، أليس لديك وليمة، عفواً طعاماً للعشاء؟".

يحمر وجهها من الخجل "قلت لي بأنك ترغب بشرب فنجان قهوة، لو عرفت لحضرت لك عشاءً، هل تحب الرز مع اللبن؟ ولكن إذا كنت جائعاً الآن فلدي بقايا بطاطا مسلوقة، وأستطيع أن أقلي لك بيضتين".

"لا، لست جائعاً كنت أعبث معك، أريد فنجان قهوة فقط".

أتأمل جسد سهام وهي تنهض لتغلي القهوة، جسد شبيه بالبطات السمينات اللواتي يتدحرجن في الشارع الذي أسكنه، تلبس ثوباً بسيطاً، ثديان شبه متهدلين تحته، لا تضع أية مساحيق على وجهها. تدخل المطبخ، فأتسلل على رؤوس أصابعي، وأفتح الخزانة التي أعرفها جيداً، أشاهد قمصان نوم، أعدها، ثلاثة فقط، قديمة وغير مغرية، لا مناشف ملونة في الدرج السفلي منها.

يبدو أن لا سيدة سهام ستبكي وتبث أشجانها لي، ولا وليمة ملكية، ولا رقصة نار لجنية عارية. كان كابوساً، مع أن الشك بقي يراودني بأن شيئاً ما حدث معي هنا، إذ كيف عرفت البيت والصالون والخزانة والأريكة!

تأتي سهام بفنجاني قهوة، أسألها عن أحوالها، تزور عينيها طيف دمعتين صغيرتين تكادان لا تغادرا محجريهما، تقول "منذ ست سنوات لم يسأل أحد عني، زوجي هجرني بعد أن عشق جارتي سميرة، التي كانت تسكن في الشقة المقابلة لنا، تزوجها وذهبا لا أدري إلى أين".

"وماذا فعلت أنت؟".

"لا شيء، أذهب كل يوم إلى عملي الممل في الديوان، وفي المساء أنزل إلى جارتي بهيرة التي تسكن تحتي، نتسلى قليلاً، أو أذهب للتسوق في المجمع التجاري قربنا، وعندما أرجع أشاهد التلفزيون..... أريد أن يتركني الناس بحالي، ولكن الموظفين في المؤسسة يسمونني سهام المخبولة، لأنني كما يقولون فقدت زوجي بغبائي، ولم أعرف التصرف من أجل إيجاد زوج جديد لي".

ارتمت سهام على صدري خجلى وقد غالبها حزن شديد، وكأنها تريد الانفجار بالبكاء، ولكنها تتمالك نفسها، وتتابع "هذه أول مرة أجلس فيها مع رجل منذ ست سنوات".

شعرت برغبة شديدة بالهروب، فقد وجدت نفسي في موقف عبثي، أنا أتيت إلى هنا لأجل التحقق من كابوسي، فلم أصل إلى نتيجة، ووجدت نفسي أمام مخبولة، ومع ذلك راودني شعور بالشفقة عليها، هي مرمية على صدري، ويداي معلقتان بالهواء.

كيف أتيت إلى هنا، وكيف سارت معي الأحداث بهذه الطريقة، لا أعرف! أنا رجعت إلى البلد من أجل ذات العيون العسلية، وليس من أجل هذه البطة الغبية.

وفيما قررت النهوض والهروب كانت شفتاها قد أطبقت على فمي بجوع شديد، فسرت الحرارة إليَّ، أنا الذي انقطعت عن الجسد منذ رجوعي، رفعتُ ثوبها، وخلعت سروالها الأبيض العتيق، ودون أن أخلع ملابسي حاولت أن أدخل بها، فشعرت بعضوها جافاً. وفي أثناء محاولتي الدخول بها كنت قد أفرغت سريعاً على جسدها، وقد انتابني شعور بالدوار والقرف، وشيء يدفعني للنهوض بسرعة والهرب.

مَسَحت هي ما سال مني على بطنها وعانتها بطرف ثوبها دون أن تقول شيئاً، ووجهها محمر من الخجل، سألتني إذا كنت أرغب بمشاهدة التلفزيون أو الذهاب للتسوق. كنت صامتاً طوال الوقت، أنهض بسرعة متجهاً إلى الباب، سمعت صوتها يلاحقني "متى سأراك ثانية؟".

****

المُذرة (1 من 2)

لا أذكر متى كان أول اختبار واحتكاك لي مع عالم ماورائي، فمنذ أن وُلدت في بلدتي الصغيرة الريفية وأنا أعيش في قلب عوالم ماورائية متعددة، ولكن أكثرها تأثيراً في طفولتي كان عالم الجن والعفاريت والغيلان والمُذرات. فما إن يأتي الليل حتى تظلم البلدة الصغيرة ببيوتها المتناثرة بين البساتين والسواقي، ويخيم الظلام عليها، فلا يعود يُلمح إلا بصيص نور هنا وهناك، يصدر عن مصابيح كاز عتيقة، لا يلبث أن يذبل ضوءها ما أن يهجع الناس إلى النوم، لتُخلي فضاءات القرية لعواء الكلاب الشاردة، وموسيقى ذكور صرصار الليل الصادرة من احتكاك أجنحتها ببعضها بعضاً لإغراء إناثها..... ينام الناس، وتستيقظ الكائنات اللامرئية، التي تعيش في حكايات فلاحي بلدتي البسطاء.

كانت الحكايات تشع في ظلمة البلدة، يرويها الفلاحون البسطاء في الأمسيات أمام بيوتهم الطينية، لتبدد عتمة الأزقة والقلوب، أبطالها أشخاص يعيشون بيننا، جمَّلهم الخيال وجعلهم نماذج تُحتذى في الأحلام، شبان وصبايا عشاق يلتقون مساءً قرب النهر، تخفيهم أغصان الصفصاف الكثيفة، وتحنو عليهم بعيداً عن العيون، ورجال أشداء يواجهون الوحوش الضارية التي تتسلل إلى مشارف البلدة في الليالي الباردة. وكان لا بد أن تتزين هذه الحكايات بعبث الكائنات اللامرئية مع الناس، كائنات أنتجها الخيال، ولكنها تتحرك وتنشط مع الناس في لياليهم بألفة كامتداد لحياتهم في النهار، إذ لا يتجاوز الخوف منها أكثر من ذلك القلق الذي يثيره المبهم والمجهول والغامض، كائنات لم تؤذِ أحداً في الواقع، ولكن وجودها كان ضرورياً لملء حياتهم ببعض المعنى أمام ظلمة ليالي الغِيَض والبساتين والحقول..... كانت عوالم حكايات البلدة بسيطة وممتعة، وإن أثارت فيها هذه الكائنات الخوف المبهم في القلوب، ولكنها تحولت مع مجيء الشيخ حسني والشيخة حسنية إلى عوالم مخيفة مرعبة، وكائنات تتوعد بعذابات سادية في الحياة وفي الموت، عندها انسحب الخوف القديم الذي نمى مع مطر الحقول والأحلام، ليحل محله الجديد المرعب السادي، القادم مع غبار الصحراء. ينزاح المطر، لتحل مكانه عواصف غبارية وسديمية، تخنق الذاكرة والحنين والأحلام.

كانت الأمطار غزيرة في شتاء بلدتنا قبل أن تأتي عواصف الغبار المدمرة، تنفجر الينابيع في بطون المنحدرات، لتتشكل منها برك ماء صغيرة، ينتصب حولها نبات سياج العليق الذي ينمو عالياً بكثافة شديدة إلى جانب أشجار الحور المتطاولة إلى السماء، وأشجار الصفصاف والزيزفون الكثيفة الأغصان، في حين تتوزع أعشاب متطاولة في كل مكان، أينما وجدت الرطوبة، لتستيقظ فيها الأفاعي والضفادع والسلطعونات مع قدوم الربيع. وأينما كانت تتشعب السواقي في مسيلاتها المتعرجة بين البساتين والحقول، كان سياج العليق والأشجار والأعشاب هذه تلاحقها، لتنمو بكثافة وعالياً، تاركة إلى جانبها دروباً صغيرة مهدتها أقدام الفلاحين ومواشيهم، وهم يروحون ويجيئون عليها.

وعندما يأتي الصيف، تصبح الحقول المتناثرة في السهول عطشى تحت حرارة شمسه، تنادي السواقي بحنين وشوق، لتعيش من نظام حصص لتوزيع المياه، ابتكرها الفلاحون لضمان وصولها إلى أقصى المناطق المزروعة صيفاً. كان لكل قطعة أرض وقتٌ مخصصٌ من ساعات الري، يتناوب دورياً كل ثمانية أيام خاصة بتقسيم المياه. وهذه الساعات تُباع وتُشترى وتُؤجر، سواء مع أرضها أو دونها، ولكن دون تعقيدات رسمية، وإنما باتفاقات شفهية بوجود شهود ضامنين.

وبما إن السواقي تسيل ليل نهار، والحقول العطشى بحاجة مستمرة للمياه صيفاً، فإن نظام توزيع المياه يقتضي السقاية ليلاً إلى جانب النهار، وفي تناوب بينهما للأرض الواحدة، فمن يسقي مرة في النهار يكون دوره في الأسبوع التالي ليلاً. ولذلك فإن البساتين والحقول تبدو وكأنها لا تنام في الليل، تصحو بأجواء مغايرة للنهار، مواويل هنا يتردد صداها بعيداً للتغلب على وحشة العتمة، ونداءات هناك لرجال يتبادلون تحية الليل، يتعاونون معاً للتحكم بمسير المياه إلى المزروعات، البعض يروح ويجيء على الدروب للتأكد من عدم تسربها من المجرى عند فتحات الحقول، والبعض الآخر يجلس ويشرب الشاي في استراحة عابرة أو في انتظار أدوارهم للسقاية. وعند الصباح الباكر يجتمع الرجال الساهرون المتعبون، يتناولون معاً طعام الفطور من "الزوادات" التي أعدتها زوجاتهم مساء البارحة، زيتون وجبنة ولبنة ومكدوس، وقد يأخذ أحدهم غفوة تحت شجرة جوز أو زيتون حتى شروق الشمس.

في هذه الغِيَض والبساتين والحقول، الكثيفة الدغل بسياجها وأشجارها وأعشابها، ولدت حكايات الجن، هؤلاء الذين يغرقون في نومهم نهاراً، ويستيقظون ليلاً بنشاط وحيوية في العتمة، ليرافقوا غناء الفلاحين وهم يسقون حقولهم، يشربون الشاي معهم ويأكلون من زوادة طعامهم، يعبثون معهم طوال الليل، ليجعلوا المياه تتسرب إلى حقول الجيران، أو يهزون شجرة الجوز فتتساقط ثمارها القاسية فوق رؤؤسهم، أو يجعلون الرجال ينزلقون فوق في العتمة.

 وبالرغم من عبث الجن المستمر فإن الفلاحين يشعرون بالحاجة إلى رفقتهم، وخاصة أمام امتداد المساحات الليلية الشاسعة وغموضها، ولكنهم يأخذون حذرهم بشكل خاص من الجنية المُسماة "المُذرة"، الجنية الخبيثة التي تختار الأكثر رجولة ووسامة من بينهم، بعد أن تكمن لهم في الليالي المقمرة قرب سياج السواقي، فتغريهم بغنائها الشجي، وما أن يقتربوا منها حتى تغتصبهم وتتركهم مشلولين أو معتوهين، أو تحولهم إلى تيوس. وبما أن كل واحد من الفلاحين يعد نفسه الأكثر رجولة ووسامة في البلدة، فكلهم اختبروا اللقاء مع المُذرة في ليالي السقاية، وسمعوا غناءها وصفيرها الشجي الذي يختلط مع صوت تدحرج المياه على الأحجار في مجرى الساقية، ولكنهم نجوا من إغراءها في اللحظات الأخيرة، نجوا بقوة إرادة تجاهلها، فعندما يهملونها طويلاً تشعر بالملل وتمضي منهزمة. ولكن الغريب في هذه الحكايات أن المُذرة لا تظهر لرجلين في وقت واحد كي تختار من بينهم الأكثر رجولة ووسامة، تحاول إغراء رجل واحد فقط، ولكن تفاصيل حكاية اللقاء هي واحدة عند الجميع، ما عدا التلاعب بالتفاصيل التي تميز الراوي منهم.

وبعكس التعامل مع الجن الذي يناسب حكايات الخيال والاسترخاء واكتشاف المجهول، كانت الشجاعة في مواجهة الوحوش البرية من علامات الرجولة في بلدة صغيرة، تصبح مخيفة ومقفرة في عتمة الليل، عندما يهجع الناس إلى بيوتهم ليناموا باكراً جداً، فيتوقف الضجيج والحيوية اللذين ملآ نهارها، ليحل بدلاً منهما عواء الكلاب وأصوات متناثرة هنا وهناك لرجال ساهرين يسقون الحقول.

أخذت الذئاب والضباع تختفي شيئاً فشيئاً من حوالي البلدة، هربت إلى أعالي الجبال من ضجيج العسكر الذين أقاموا مواقع عسكرية في التلال، غير بعيدة عن الأماكن المأهولة، ويتدربون بإطلاق الذخيرة بشكل مستمر. إلا أن بعضها كان لايزال يتسلل بين حين وآخر إلى مشارف البلدة، وخاصة في أيام الثلج الباردة، حيث يدفعها الجوع الشديد إلى مهاجمة زرائب المواشي المتطرفة. ولايزال الكبار يروون بشغف حكاية الراعي "أبو حسين" مع الضبع الذي أقام وكره في مغارة صغيرة عند مشارف الجبل، وأخذ يسطو على البلدة في كل ليلة. ازداد خطر هذا الضبع الذي تحول من السطو على الأغنام والماعز إلى مهاجمة الناس المنفردين، حتى أخذوا يروون كيف التهم ذات ليلة رجلاً عجوزاً بعد أن "ضَبَعَه"، وسحبه إلى وكره.

"أبو حسين" رجل ألِفَ العيش مع قطعانه في البراري الموحشة، يعود إلى البلدة فقط في المساء لينام، ويغادرها في اليوم التالي باكراً قبل طلوع الضوء، جسد قوي وشجاعة مميزة اكتسبهما من الاحتكاك المستمر مع الطبيعة وضواريها، ولكنه يحمل في ثناياه قلباً طيباً وبسيطاً، يجعله محبوباً من الجميع. خاف "أبو حسين" على قطيعه، وقرر أن يخلص البلدة من الضبع، وخاصة بعد ما التهم الرجلَ العجوز المسكين. كَمَنَ مساءً فوق مغارة الضبع عند سفح الجبل، الذي ما أن شم رائحة إنسان قريب حتى خرج من وكره. وفي هذه اللحظة قفز "أبو حسين" على ظهره بشكل مفاجئ وهو يصرخ صراخاً شديداً، ووجه إليه خنجرين حادين إلى رأسه، واحدٌ من اليمين والثاني من اليسار، وشَّد عليه بقدميه ووجهه نحو البلدة، قاده نحو مضافة المختار حيث يجتمع الرجال، ودخل به عليهم، فتقافز الجميع خوفاً من انفلاته عليهم.

لا يستطيع أحدٌ أن يؤكد ما حدث في تلك الليلة بالضبط، ومدى اختلاط الوقائع بالخيال في هذه الحكاية، ولكن الجميع يعرف أن "أبو حسين" هو الذي قضى على الضبع، وشاهدوا جثته الكريهة مرمية خارج المضافة. تحول "أبو حسين" منذ تلك الليلة إلى أكثر الرجال شجاعة وخبرة في التعامل مع الوحوش الضارية، فما إن يشاهده ثلة من الرجال مساءً بعد عودته بالقطيع إلى البلدة حتى يدعونه إلى شرب الشاي تحت شجرة الجوز الكبيرة، ليروي لهم حكايته عن إدخال الضبع إلى المضافة، فيحكيها بسرور مع تعديلات يضيفها الخيال في كل مرة. وبعد ذلك يعود الرجال لروايتها، كل واحد على طريقته في مجالسه الخاصة مع تعديلات جديدة من خياله، بحيث أتى وقت لم يعد أحد يعرف أصل الحكاية، مثل ما حدث مع كل حكايات البلدة الأخرى.

وإلى أن يأتي وقت ضياع الأصل فإن "أبو حسين" كان يسحر الجميع بحديثه، يصمتون ويستمعون بشغف إلى حكاياته عن الضباع، فقد يصادف أحدهم ضبعاً ذات ليلة، وعليه أن يحسن التصرف، وإلا التهمه مثل الرجل المسكين.

يتحدث "أبو حسين": "عندما يشم الضبع رائحة إنسان وحيد يسير في الليل يقرر أن يضبعه".

يسأله أحد الشباب بلهفة: "وماذا يعني يضبعه؟".

يجيب: "يضبعه، يعني يصيبه بالرعب ويشل أية حركة لديه، فيتحكم فيه بعد أن يصبح وكأنه منوم".

"وكيف يتم ذلك يا "أبو حسين"؟".

"يقوم الضبع بالركض السريع نحو الرجل، فيصدمه بشكل جانبي وبعنف، ويسمعه صوت طقطقة عظامه كطرق أحجار عنيف ببعضها بعضاً، فيرتعد الرجل ويُصاب برعب شديد. ولكن الضبع لا يترك له المجال ليلتقط أنفاسه، فيعاود الهجوم عليه مراراً بهذه الطريقة، حتى ينهار في النهاية، وخاصة مع الإحساس المخيف بصدمة جسده الخشن وصوت طقطقة عظامه المرعبة".

"وماذا يحدث بعد ذلك؟".

يتلاعب الآن "أبو حسين" بالحكاية ليعطيها طابع الإثارة "وفي أثناء ذلك يكون الضبع قد قام بالتبول على ذيله، وفي كل مرة يجانب فيه الرجل ويصدمه يرشه بقطرات من بوله الكريه الرائحة التي تعلق عليه، فيتحول إلى فريسة له، في حين تترك الرائحة تأثيراً يزيد من الرعب. وهكذا يصبح الرجل مشلولاً من الخوف ومُنوماً ومنقاداً، فيدفعه الضبع إلى وكره ليأكله".

"وماذا علي أن أفعل إذا ما صادفت أحدهم حتى لا يضبعني؟" يسأل أحد الشباب متلهفاً.

"إذا لم تكن قوياً بما فيه الكفاية، وليس معك سلاح حاد، فالأفضل عدم مصارعته، ولكن عليك تجنب الاندفاع القوي كلما اقترب منك، والإمساك بحجرين والقرع بهما بشدة مع إصدار صراخ مرتفع مرعب، فهذا يوقفه قليلاً ويرفع من قوتك ومعنوياتك، وفي أثناء ذلك يجب الإسراع إلى أقرب منزل، فالضبع يفضل الفريسة المنفردة".

يُلح الشاب سائلاً من جديد "والرجل المضبوع المُنوم هل يبقى لديه أمل بالنجاة؟".

"أحياناً يكون الوكر على شكل مغارة منخفضة السقف، فيصطدم رأس الرجل المنوم به وهو يدخل إليها، وينزف دماً، يصحو عندئذٍ من شدة الصدمة مع الإحساس بالنزيف، وقد ينجو إذ تمالك نفسه وأحسن التصرف، فالضبع لا يأكل إنساناً حياً".

يسأله شاب آخر "هذا عن الضباع، والأفاعي كيف تقضي عليها يا "أبو حسين"؟".

وبحكم خبرته الطويلة مع الأفاعي، كان "أبو حسين" له طريقة خاصة في قتلها، يقول "ما إن ترى أفعى وتقرر أن تقضي عليها، لا تفكر كثيراً ولا تتردد، عليك أن تقبض عليها من ذيلها بلمحة خاطفة، وتلوح بها عالياً بسرعة شديدة، فتدوخ، وتلطمها بعدئذٍ بشدة على أرض قاسية أو جدار أو شجرة، فتقتلها. وإذا ما ترددت أو تراخت يدك فإن الأفعى هي التي ستلوح بك وتقضي عليك..... ولكن إياك أن تمسك الأفعى من ذيلها إذا ما دخلت وكرها وتحاول سحبها، فإذا كانت قوية فستستنفذ قوتك في الشد، ولن تعرف متى ستخرج فجأة، وترتد عليك لتلدغك".

استمع بشغف إلى طريقة "أبو حسين" في القضاء على الأفاعي، التي كانت جزءاً من ذاكرة البلدة وحكاياتها، فقد كانت تعيش مع الناس في كل مكان من بيوتهم المتناثرة بين البساتين، وتشاركهم في أحيان كثيرة سقوف منازلهم المبنية من الخشب والطين، وتتواجد بكثرة قرب زرائب المواشي وأقنان الدجاج. وقلما سُمِعت حكاية عن أفعى لدغت شخصاً ما، فالناس عادة ما يتركون الأفاعي بحالها ما دامت لا تعتدي على أحد، والأفاعي تترك الناس بحالهم بطبيعتها ما دام لا يوجد تهديد مباشر على حياتها منهم. وكثيراً ما تروي جدتي كيف كانت في صباها تتحدث من وراء جدار البستان مع بنات الجيران على الطرف الآخر، وبينهما يتمدد ثعبان أسود كبير وطويل في ظل شجرة الجوز. يستمر الحديث طويلاً، ويبقى هو متمدداً يصغي إليهم بمتعة.

ولكن عندما تسطو الثعابين على أقنان الدجاج لتبتلع البيض والصيصان، يلجأ الفلاحون عندئذٍ إلى قتلها، وهو ما يحتاج إلى شجاعة وخبرة ودراية حسب حجمها وطولها إذا ما اضطروا إلى استخدام طريقة "أبو حسين"، أما الأسرع والأضمن فقد كان قطع رأس الأفعى بضربة واحدة من الرفش الحاد ذي العصا الطويلة، الذي يرافقهم أينما تحركوا. والأكثر شجاعة هو من يلتقط الأفعى من خلف رأسها، فيضغط عليه لتنحل قواها ويتحكم بها، يحملها ويدور بها مفتخراً، فإذا لم يمتلك عزيمة قوية ويداً قاسية فإنه بمجرد إرخاء الضغط عليها فإنها تلتف على يده، وإذا ما أفلتت منه فقد تلدغه. وعندما تستعصي أفعى مؤذية على الخروج من وكرها، كان أهل البيت يلجؤون إلى السيد مبروك، وهو نصف معتوه يركض طوال النهار بين الأزقة والحارات بأسماله البالية، ويقول الناس إن له قريناً من الجن ملازماً له. يأتي السيد مبروك إلى وكر الأفعى، يتحدث معها، فتخرج إليه طائعة، يأخذها ويلعب بها دون أن يؤذيها أو تؤذيه، ويذهب بها..... هكذا كان الناس يروون.

تصبح الحكايات أجمل عندما يجتمع في الأمسية تحت شجرة الجوز "أبو حسين" وابن عمه "أبو خالد"، وهو أيضاً رجلٌ شجاع، قوي البنية وشديد البأس، مثل كل أفراد العائلة، يعمل طوال النهار في حقله. ولهذين الاثنين ذكريات كثيرة مشتركة، فهما يعيشان في الحقول والبراري متلازمين منذ طفولتهما، قبل أن يتحول "أبو حسين" إلى الرعي في الجبل، و" أبو خالد" إلى العمل في حقله، ولكنهما يلتقيان غالباً في الأمسيات، ليرووا معاً مغامرتهما المشتركة.

يصب لهما الشباب كأسين كبيرين من الشاي الأسود المغلي، يستثيرون حماسهما "احكوا لنا كيف دخلتم إلى مغارة الأموات".

ومع أننا سمعنا حكاية مغارة الأموات من "أبو خالد" و"أبو حسين "عشرات المرات، فلا زلنا نستمتع بها كلما سمعناها من جديد، وكأنهم يروونها للمرة الأولى. وإذا كان الخيال يختلط فيها بالواقع إلى درجة كبيرة، إلا أن هناك من يؤكد الحادثة، فأحدهما يروي، والثاني يبتسم موافقاً، ليتدخل من وقت لآخر في محاولة رفع وتيرة الإثارة.

 يروي "أبو خالد" الحكاية هذه المرة ويبتسم "أبو حسين" "كنا أنا" و"أبو حسين" في مقتبل العمر، لا يتجاوز الواحد منا الثالثة عشرة، وكانت هناك حرب أهلية على الطرف الآخر وراء الجبل، يأتون بجثث كثير من المسيحيين، يعودون بأصولهم إلى بلدتنا، ويضعونها في مغارة مغلقة بباب من السهل فتحه بعد أن أضاع خوري البلدة المفتاح، ولم يهتم أحدُ بتصنيع بديل له. وذات مرة ماتت بمرض غريب شابة عروس، ابنة أحد الأغنياء القادمين من المهجر، وتم تناقل الأخبار أن والدها دفنها في هذه المغارة بكامل ملابس عرسها ومجوهراتها من شدة حزنه عليها. كان هناك تحدٍ بين الشباب من يستطيع الدخول إلى المغارة ليلاً مع ترك علامة، قبلنا أنا و"أبو حسين" التحدي، وقررنا نحن الاثنين في سرنا الحصول على كنز المجوهرات بطريقنا، لنصبح أغنياء ونسافر إلى المدينة.

 كانت ليلة مُقمرة، تسللنا مع حلول العتمة، دخلنا إلى المغارة وسرنا بين أكوام العظام والجماجم على ضوء القمر القادم من كوة باب المغارة وراءنا، دون أن نتبين بوضوح ما حولنا. داهمنا بعض الخوف ونحن نغوص في ركام بقايا الأموات مع سماع صوت خشخشتها وتقصفها تحت أقدامنا، دون أن نجد المجوهرات، فقررنا العودة ملتمسين ضوء الكوة، فيكفي أننا دخلنا ونجحنا في التحدي. ولكن كان على "أبو حسين" أن يترك علامة في المغارة، لنفتخر بها تأكيداً على الشجاعة وعدم الخوف من الأموات. أخرج وتداً حديدياً من جيب شرواله أحضره خصيصاً، جلس وأمسك بحجر كبير وأخذ يدق به الوتد في الأرض. وبما أن الظلام كان شديداً، وليس أمامنا سوى ضوء القمر المتسلل من الكوة فإن "أبو حسين "لم يدرك أن الوتد دخل في طرف شرواله وهو يدقه، لينفذ منه إلى الأرض. وفي اللحظة التي كاد فيها أن ينتهي من عمله تحركت أنا خارجاً، فإذا بي أدعس على مشط قدم هيكل عظمي مرمي على الأرض أمامي بشكل عرضي. ويبدو أن الهيكل كان حديثاً ومازال متماسكاً ولم تنحل عظامه، بحيث أن ثقلي على المشط جعله ينشد نحو الأعلى وينتصب واقفاً وكأنه يعترض طريقي، بدا لي أنه يسألني ماذا أفعل هنا، ولماذا أقلق راحة الموتى. اجتاحني رعب شديد وصحت بصوت مخنوق: ""أبو حسين" نهض الأموات"، وركضت بسرعة متعثراً بين العظام نحو المخرج".

يتدخل هنا "أبو حسين" في الحكاية وقد أخذ مظهراً جدياً متناسباً مع رعب الموقف ويقول "وفي اللحظة التي انتصب فيها الهيكل وسمعت فيها "أبو خالد" يصرخ كالمجنون معلناً قيام الموتى، نهضت أنا أيضاً مرتعباً أريد الهروب، ولكن الوتد المضروب أرضاً من خلال شروالي منعني من القيام، فصرخت "الحقني يا "أبو خالد"، أمسكني الأموات ولا يريدون إفلاتي". ولكن "أبو خالد" كان يركض خارجاً مبتعداً كالمجنون دون أن يلتفت إليَّ وهو يصرخ "نهض الأموات، نهض الأموات".

 يكمل الآن "أبو خالد" وهو يضحك بصوت عالٍ بحيث تغالبه دموع الانفعال "ولن تحلموا بحياتكم رؤية منظر "أبو حسين" الذي خرج دون شروال، يركض عارياً من الأسفل، وهو يصرخ "أمسكني الأموات، لا يريدون إفلاتي"، وكأن الأموات يريدون القفز على مؤخرته".

لم يعد "أبو خالد" يتمالك نفسه من الضحك، متذكراً مؤخرة "أبو حسين"، الذي يكمل الحكاية "مرضنا نحن الاثنين، أصابتنا حمى شديدة، نغيب عن الوعي، ونقفز في الليل من النوم مذعورين، نهلوس بكلام غير مفهوم عن الأموات، دون أن يدري أهلنا ما حدث لنا. أحضروا لنا "طاسة الرعبة"، الكوب المنقوش عليه آيات وأدعية، وأخذوا يسقونا بها ماءً ليل نهار، فلم تنفع، فلا زالت الحمى والكوابيس مشتعلة. ثم أحضروا السيد مبروك، الذي أخذ يتنقل بين منزليّ أهلنا، وهو يبربر ويدمدم، دون أن يفهم أحد ما به أو ما بنا..... ومضى وقت طويل حتى استطعنا أن نتخلص من رعبنا وكوابيسنا ومعرفة ما حدث بالضبط".

يعلق "أبو خالد" "ولكن هذه التجربة الصعبة جعلت منا رجالاً".

تتسع حلقة السهرة المسائية تحت شجرة الجوز الكبيرة، يحضرها الصغار والكبار متشوقين لسماع حكايات البطلين، ويكبر إبريق الشاي، ثم يصبح إبريقين، لم تعد حكايات الضباع والأفاعي ومغارة الموتى تشبع فضول المستمعين الساهرين. فيسأل أحد الشباب "الضباع والأفاعي عرفنا كيف تقضون عليها، ولكن هل ترويان لنا كيف شاهدتم المُذرة؟".

 يروي الآن "أبو خالد" بعد أن أخذ نفساً طويلاً ورمى نظرة شاملة على وجوه السامعين، وتأكد من تلهفهم وشوقهم للحكاية "تظهر المُذرة الخبيثة عادة في الليالي المقمرة قرب سياج السواقي، وتختار أوسم الرجال فقط، وقد تعرضت أنا نفسي لتجربة إغواء صعبة معها لم يختبرها أحد قبلي، إلا أنني واجهتها بشجاعة وحزم، ولولا ذلك لانتهيت مشلولاً أو تيساً. ففي ذات مرة كنت أسقي حقلي ليلاً، سمعت فجأة في هدأة السكون والصمت حولي صوت غناء شجي قادم من ناحية السياج العالي في جهة الجنوب، عرفت مباشرة أنها المُذرة، فلم ألقِ لها سمعاً. ولكنها غنت طويلاً بلحن حزين حتى يرق قلبي لها، وتناغم صوتها مع موسيقى النسمات التي تلاعبت بأغصان شجر الجوز، ومع إيقاع تدحرج المياه فوق الأحجار، وكادت تبكي بسبب تمنعي. ومع ذلك تجاهلتها وبقيت أتابع إرواء المزروعات، فأنا أعرف أسرار إغوائها، وأن أفضل طريقة لمقاومتها هي التجاهل والرفض. ولكن المُذرة أصرت في هذه المرة على الإيقاع بي، فلقد اختارتني لأنني أوسم رجال البلدة وأكثرهم شجاعة، حتى أكثر من بطلكم هذا "أبو حسين". ضجت الأنوار السحرية الصادرة عنها، وازداد إيقاع الغناء ليشتد تأثير سحرها، وفي اللحظة التي كادت فيها أن تنفجر بالبكاء انهرت وانشددت إليها، وسرت نحوها مذهولاً حزيناً لأجلها، مدفوعاً بقوة سحرية لا تقاوم، امرأة ضخمة وكأنها مشتعلة بالنار فتشع بالأنوار، وشفاه مكتنزة، وخدود ممتلئة، وعينان جاحظتان، وشعر مجدول كالأفاعي، ولا زلت أتذكر أن لديها ثديان ممتلئان ومؤخرة سمينة".

يقاطعه أحد الشباب "وهل كانت عارية يا أبو خالد؟".

"وهل بقي بي عقل لأميز إن كانت عارية أم لا! كل ما أذكر أنه عندما أصبحت قريباً منها ابتسمت لي وقالت بصوت كله رقة وعذوبة وحنان وقد مدت يدين طويلتين لتعانقني بهما "أريد أن أكون معشوقتك، لك وحدك يا أبو خالد، وطوال العمر، أحلم بك منذ زمن طويل". وطار صوابي عندما ذكرت اسمي وخفق قلبي من الانفعال".

يسأله الجميع مستغربين "ولكن يا "أبو خالد" أنت معافى، ماذا فعلت حتى نجوت منها؟".

يرد عليهم "لم أعمل شيئاً، تذكرت أم خالد البدينة، قالت لي نفس العبارة قبل أن أتزوجها تحت شجرة الصفصاف بصوتها الناعم الشجي، الذي سرعان تحول إلى زعيق مستمر في أذني طوال الوقت كأغنية نهارية بمجرد مرور الأسبوع الأول من العرس، زعيق لا يتوقف إلا عند نومها، قلت في نفسي إنه تكفيني مصيبة غنائية واحدة في النهار، ولا أريد مصيبة غنائية ثانية في الليل، فرجعت إلي صوابي، وهكذا نجوت".

ولكن "أبو حسين" له أيضاً مُذرته الجبلية، التي تعبث وتلعب معه في عتمة ما قبل انبلاج الفجر عندما يقود قطيعه إلى المرعى في الجبل، يأتي الآن دوره ليروي "نعم وأنا أيضاً ظهرت لي المُذرة، أخطأت فظنت أن "أبو خالد" هو الأكثر وسامة في البلدة، ولكنها لما عرفتني عشقتني من قلبها وتركته، ولم تؤذيني أبداً. كانت المُذرة تعبث بي وتمازحني كل يوم، فمنذ الصباح الباكر أركب على حماري وأقود القطيع إلى الجبل، فما أشعر إلا وشيء يشد حماري إلى الوراء، محاولاً إيقاف سيره. أنظر إلى الأسفل فأرى قدمين نحيلتين وطويلتين جداً وقد امتدتا على الأرض تمنعه من السير، ثم تتطاول من فوق كتفي يدان نحيلتان لتسابقه. ألتفت إلى الوراء، فأجد المُذرة قد ركبت الحمار ورائي، تنظر إلي وتبتسم دون أن تتكلم، يظهر فمها وكأنه دون أسنان، إلا أن عيناها أصبحتا عريضتين جداً وجاحظتين، تكادان أن تخرجا من محجريهما".

"وماذا كنت تفعل يا "أبو حسين"؟".

"المهم أن تكون قوي القلب ولا تخاف، فإذا ما ضعفتَ فإنها تسحرك شر سحر، وهي تفعل ما تفعله لكي تعبث وتتسلى، ولذلك عليك أن تقابل مزاحها باللعب معها، فأدفعها بعصاي دفعة خفيفة لتسقط على الأرض، ولكنها سرعان ما تعود لتركب من جديد على الحمار ورائي وقد أثارها اللعب..... ونمضي الوقت هكذا حتى طلوع الضوء بالكامل، ثم تختفي".

"ولكن يا "أبو حسين" بما أن "أم حسين" قد ماتت منذ زمن طويل، وأنت لازلت رجلاً قوياً، فلماذا لا تقبل عشق المُذرة لك، وتُسر بحياتك معها؟".

يصمت "أبو حسين" ويتذكر زوجته التي أحبها من كل قلبه، ويتذكر كيف نطحها ثور الجيران الهائج وهي تغسل الثياب قرب الناعورة الموجودة فوق البئر القديم، نطحها بوجهها وصدرها ومر من فوقها، أمضت عدة ليالي في الفراش والسيد مبروك يقرأ عليها الأدعية ليشفيها، ولكن لا فائدة. أحست "أم حسين" بدنو أجلها، قالت "لأبو حسين" "لا تتزوج بعدي، لا أريد امرأة أخرى في بيتي".

ماتت "أم حسين"، وبقي "أبو حسين" وحيداً دون امرأة تنفيذاً لوصية زوجته، ولكنه رأى ذات مساء من وراء الجدار المنخفض الجارة خدوجة وهي تنشر الغسيل في البستان المجاور، ابتسمت له فوقعت في قلبه. خدوجة فتاة وحيدة لأهلها، مدللة ولذلك ينادونها باسم التصغير هذا بالرغم من أنها أصبحت امرأة، ولكنها بقيت بكراً فاتها الزواج، تعمل في البستان طوال النهار، وتُنَّقل نظرها هنا وهناك بحثاً عن رجل ما. قفز "أبو حسين" لعندها من فوق الجدار بعد أن نام الجميع، تلقته بكل الحب، عانقها وانتشى معها دون أن يُفقدها بكارتها، وسُرت هي أيضاً ما دامت الأمور مستورة مع معرفتها بوصية "أم حسين". وأخذ يقفز لعندها كل يوم بعد أن ينام الجميع، ولكنه ينهض صباحاً إلى المرعى والنعاس يغالبه، ولذلك فما أن ينتهي عبث المُذرة الصباحي معه حتى يأخذ غفوة تحت شجرة زعرور صغيرة، تاركاً أمر القطيع لكلبه الأمين.

كان عمري لا يتجاوز العشر سنوات وأنا أجلس في حلقة الرجال الذين يسمعون "أبو حسين" و"أبو خالد" تحت شجرة الجوز الكبيرة، أستمع إلى حكايات الضباع والأفاعي والمُذرات، فتسحرني وتوقظ بدايات الرجولة لدي. كانت أحاديث الرجال تشعل خيالي الصغير، تجعلني أركب الضبع وأقوده إلى المضافة، وأمسك أفعى كبيرة من رقبتها خلف رأسها أتجول بها بين الحارات، فيُسر الرجال بشجاعتي، وتبتسم النساء لرجولتي، ثم أفتخر بوسامتي فتعشقني مُذرة، لا تعبث معي وإنما تلبي كل طلباتي بسحرها، وخاصة تلك التي لا أستطيع الحصول عليها في البلدة، وينحصر وجودها في المدينة فقط، مثل مجلات المغامرات.

أما أحاديث النساء فقد كانت تسير في الاتجاه المعاكس، مثبطة بالكامل، فهن لا يستطعن السيطرة على حيويتنا ونشاطنا نحن الأطفال، "عفاريت وشياطين كيفما تحركوا" كانت جدتي تقول دائماً.

 الأطفال الذين لا يهدؤون بحيويتهم، يملؤون البيت فوضى وشغباً، يرغبون باللعب دائماً فيحطمون كل ما يصادفهم بطريقهم دون انتباه، لا يساعدون أهلهم ولا يهتمون بنصائحهم. الأطفال الذين لا يرغبون بالنوم باكراً، يبقون بعيون نصف مفتوحة تحت الغطاء، يرون ويسمعون كل ما يدور حولهم، في حين يجلس الأب والأم منتظرين نومهم بصبر شديد، وقد اجتاحتهم الرغبة في قضاء ليلة ماجنة. ولكن الأطفال لا يتعبون ولا ينامون، أما الأهل فهم الذين يتعبون وينامون في النهاية، وتنام معهم رغباتهم الجنسية. وإذا ما استيقظ الأهل باكراً، وتطلب الزوجة من زوجها أن يعانقها قليلاً قبل أن يصحو الأولاد، فما يجدونهم إلا ودخلوا بينهم، يشاركونهم اللعب والمشاغبة.

 تلجئ النساء إلى الكائنات اللامرئية للسيطرة علينا نحن الأطفال، فما أن نتلمس العالم بأولى الخطوات إلا ويأتي الخوف معها بسبب النسوة البسيطات..... لا تنظروا إلى البئر فيسحبكم "شيخ البير" معه إلى الأسفل، لا تبتعدوا عن البيت فيخطفكم الجن معهم، لا تدخلوا البيوت المهجورة فالجن يسكنونها ويقيمون أعراسهم بالليل فيها، لا تقصوا الأظافر ليلاً فتأتي الشياطين لتأكلها، لا تتركوا الحذاء مقلوباً فتعذبكم السماء، لا تذهبوا إلى الغيضة فالغولة تقيم هناك وتلتهم الأطفال، وإذا لم تهدؤوا فسنرسلكم نحن إليها.

ومع أننا نحن الأطفال لم نكن لنهدأ إلا أننا أصبحنا نخاف الجن وشيخ البير والمُذرة والغولة، ونخاف الليل الذي يوقظ هذه الكائنات الشريرة من نومها وسكونها، لا نجرؤ على الذهاب للتبول ليلاً في طرف أرض الدار والمثانة تكاد أن تنفجر، وإذا ما سمعنا في الليل قرقعة نافذة يلعب بها الهواء، أو قفزة هر على السطح، كنا نرتعد خوفاً من الجن الذين يرقصون حول البيت، ينتظرون خروجنا حتى يخطفوننا، فنختبئ تحت اللحاف وننام مرعوبين.

وحتى ننجو من شر الكائنات اللامرئية كانت جدتي تدفعني إلى إشعال شمعة عند قبر الشيخ ياسين في مزاره، أو عند قبر العوسجي المغطى بسياج العليق، أو عند شجرة الزيتون المقدسة في مدخل البلدة. كنت أفضل الذهاب إلى قبر العوسجي، الواقع في طرف مقبرة البلدة في مزار بسيط مفتوح على الهواء الطلق، حيث يظلله سياج مرتفع يحنو عليه، ويغطي جداراً قديماً شبه متهدم، تتوزع عليه بقايا عشرات الشموع. وفي المساء يأتي أحدهم ليشعل شمعة من أجل تيسير أمر سيقضيه، ويشعل أيضاً الشموع المنطفئة بفعل الهواء الشديد، ودائماً هناك أحد ما يشعل الشموع المنطفئة. وما إن أدخل إلى هناك حتى أشعر أنني دخلت عالماً من الأنوار اللطيفة التي تمنح السكون والطمأنينة، فأنفصل عن العالم الخارجي، وأطلب عندئذٍ أمنية لا تتجاوز النجاح في صفي الدراسي. كانت هذه الأجواء النورانية الغريبة هي التي تدفعني إلى العوسجي، ولم أكن أهتم كثيراً بما ترويه جدتي عن رجل مخمور شُل جسده وأصبح أبكمَ لأنه سب العوسجي ومزاره عند المرور من أمامه.

 أما شجرة الزيتون المقدسة الواقعة في مدخل البلدة فقد أعاقت افتتاح الشارع العريض، الذي سيصبح فيما بعد طريقاً لنزهة العشاق. تروي عمتي أن الجرافة التي حاولت قلع شجرة الزيتون المقدسة من أجل فتح الشارع انكسرت شفرتها القاسية، دون أن تتزحزح الشجرة من مكانها، لا بل إن الجرافة سقطت في الوادي مساءً عند عودة سائقها من العمل إلى البيت، فاحترقت ومات، لأنه تجرأ على المس بقدسيتها..... لكن لا أحد يعرف تفاصيل الحادثة، ولا اسم السائق، ولا متى حدث هذا، فقط هكذا سمعت عمتي ما يروونه.

 إلا أنه بعد حادثتي الشهيرة في مواجهة الجن، لم أستغرب اختفاء مزار العوسجي بعد احتراق سياجه بالكامل، ليحل مكانه سور حديث من الأسمنت لحماية المقبرة من تسلل الكلاب الشاردة، ولم أستغرب قلع عشرات شجر الزيتون عند مدخل البلدة لشق الطريق، وبما فيها الشجرة المقدسة، فيما كانت الجرافات تروح وتجيء. إذ مع تقدمي بالعمر أخذت أفهم الكثير من اختلاط الخيال مع الواقع في الحكايات القديمة..... وحدث هذا من خلال صدمات متتالية تركت تأثيرها القوي في حياتي.

كانت صدمة طفولتي الأولى مع الأفعى التي استقرت في غرفة النوم؟! فقد كانت جدتي تحكي دائماً أننا من عائلة مباركة، تعود بجذورها القديمة إلى سلالة الشيخ ياسين، ولذلك فنحن محميون بقداسته ورعايته، وبسبب هذا لا تدخل بيتنا لا الجن ولا الأفاعي والعقارب. وذات مرة شاهدت على سطح بيتنا الأسمنتي أمام قن الدجاج فرخ حية صغير جداً يتلوى فيما تتقافز عليه الدجاجات، دون أن يستطيع الفرار من بين مناقيرها وأرجلها. وكم كان من السهل علي أن أقطع عنقه لصغره، لتكمل عليه الدجاجات ويأكلنه مثل الديدان الصغيرة. ويبدو أن هذا الفرخ الصغير هذا قد تسلل يكتشف العالم من سقف زريبة أغنام جارنا اللحام، السقف القديم المهترئ المبني من عوارض الخشب المغطاة بالطين والذي كان يشكل مأوى مناسباً للأفاعي.

بحثت الأفعى الأم عن فرخها الصغير في اليوم التالي، متجهة بغريزتها إلى سطح بيتنا، ولما لم تجده انزلقت على الدرج الحجري، وتسللت إلى غرفة النوم، وكمنت هناك بين الوسادة العريضة والجدار على أمل أن تلتقي به، في حين كنا ننام أنا وإخوتي على فراش ممدود أرضاً بقربها. كانت الأفعى تصدر فحيحاً طوال الليل، ولكن الصوت اختلط على والدي ووالدتي مع عصف الرياح الشديدة في تلك الليلة، فلم يأبها لذلك كثيراً.

 في الصباح وبعد ذهاب والدي إلى الحقل، بدأت والدتي بترتيب الغرفة، وعندما رفعت المخدة وجدت أفعى كبيرة مكومة وراءها، وقد رفعت رأسها بوضع الانقضاض للدفاع عن نفسها مع إصدارها فحيحاً شديداً. شاهدتها، فناديت على ابن الجيران الذي كان يكبرني بعدة سنوات، كنت لا أزال صغيراً على مواجهة أفعى كبيرة لوحدي، ومع ذلك حملت رفشاً ثانياً معه استعداداً للمواجهة. كانت الأفعى تتسلل هاربة بين الحصائر والبسط والفراش، التي أخذنا نسحبها ونرميها في أرض الديار، لتجد نفسها فجأة معزولة دون أي ستار تختبئ خلفه، في غرفة مغلقة وعلى أرض أسمنتية، وكيفما تحركت تتزحلق بكامل جسدها دون أن تجد مرتكزاً خشناً تستند إليه. أحست الأفعى بالخطر الشديد أمام رفش ابن الجيران الذي كان يخطئها بسبب ضيق المكان، فيما كانت تفح فحيحاً مرعباً وقد ارتفع رأسها وانفتح فمها واسعاً وبان ناباها، تتحين الفرصة لتلدغ، ولكن الرفش الطويل كان يفصل بيننا. وأخذت الأفعى ترتمي بجنون متزحلقة من طرف الغرفة إلى طرفها الآخر، شرسة مستميتة في الدفاع عن نفسها، ليتمكن أخيراً ابن الجيران من إصابتها وقطع رأسها بالرفش بعد معركة قاسية وطويلة، وحمل الأفعى المقتولة عليه في حين كان ذيلها لا يزال يتلوى، ورماها في البستان المجاور.

ينكشف الغطاء القدسي عن بيتنا، وأتبين أن الأفاعي والعقارب والجرذان تستطيع الدخول إليه مثل كل البيوت، وكان الحل المؤقت استقدام عدد من القطط وتربيتهم، ليحافظوا على البيت من الزواحف والحشرات، بدلاً من حماية الشيخ ياسين غير الفعالة. ولكن هذه القطط أخذت بدورها تسطوا على الصيصان في قن الدجاج، تفتح ثقوباً بأظافرها في شريط المنخل المعدني، وتصل إليها مهما حاولنا رتقه. وبقيت زريبة الأغنام بأفاعيها وقتاً طويلاً، حتى نهض مكانها بناء مرتفع من أربعة طوابق مع هجوم الأسمنت المسلح على البلدة، في حين تسللت الأفاعي إلى البساتين، هرباً من ضجيج الناس ومن ضياع أفراخها الصغيرة بين مناقير وأقدام الدجاج.

كانت هذه المواجهة حقيقية مع الأفعى في طفولتي، أما بقية المواجهات مع الأفاعي فلم تكن تتعدى مرور إحداها قربي وأنا أغفو عصراً في الهواء العليل تحت شجرة الجوز، أصحو فأشاهد آثار مرورها خطاً طويلاً مرتسماً على التراب الناعم والحشائش اليابسة. إلا أنه ذات مرة شاهدت "الحنش" الأسود، الكبير والضخم، الذي يتحدث الجميع عن اختبائه في البيت المهجور قرب حقلنا، دون أن يؤكد أحد رؤيته. لمحته يشرب من مياه الساقية، مستغلاً سكينة غفوة الناس في الظلال هرباً من قيظ الظهيرة. تابعت المسير نحوه كالمنوم، وأنا أشاهده بامتداده طويلاً وعريضاً، كان جميلاً، وقعت بين السحر بجماله وبين الخوف منه. هذا الذي يروي عنه الرجال أنه يعيش مئة عام ويظهر له قرنان صغيران، ولا يحب مواجهة الناس، ولكن إذا ضايقوه فقتله لن يكون سهلاً. عندما شاهدني الحنش التف بهدوء شديد وعاد إلى وكره بين الأحجار المتهدمة، مؤكداً فكرة عدم ألفته للناس، ولكن بما أنه طويل جداً فقد احتاج دخوله إلى وقت بمقدار كان قد تجمع فيه الشباب على صوتي. أحضر أحدهم بندقية صيد، أراد أن يبني شهرة رجولته على قتل الحنش الشهير، ولكنه عدل عن إطلاق النار عليه، إذ لم يعد ظاهراً من ذنبه إلا حوالي المترين، علق أحدهم "اتركوه بحاله، فهو هنا منذ عشرات السنين ولم يؤذ أحداً".

ستختفي الأفاعي من حياتي مع هجمة العمران وتحول البلدة الريفية إلى مدينة، اختفت معها الأسطح الخشبية المغطاة بالطين لتحل مكانها الأسطح الأسمنتية، يبست الأشجار وماتت السواقي، ولن أشاهد الأفاعي بعد ذلك إلا في الأفلام الوثائقية العلمية التي يعرضها التلفزيون.

 أما المواجهة التي لم أتوقعها في حياتي فقد كانت مع الضبع، ولم أنتصر عليه برجولتي وفق نصائح "أبو حسين"، وإنما بخوفي وفق توجيهات "أبو أحمد" المقيم في داخلي.

تأخرت المواجهة مع الضبع كثيراً، لم تحدث إلا في السادسة والعشرين من عمري خارج البلدة، في وقت كان من المفترض فيه أن الضباع قد اختفت حول المناطق المأهولة، بسبب الضجيج الذي صنعه الناس مع توسع العمران. كنت قد نسيت كل الحكايات القديمة لرجال البلدة الشجعان عن الضباع، ونسيت نصائح "أبو حسين" عن كيفية التصرف معها إذا ما واجهتُ واحداً منها. حدث هذا في أثناء تأدية الخدمة العسكرية، حيث كنت أمضي دورة التأهيل في أقصى الشمال. وقتها كانت قد انتهت من حياتي كل معاني رجولة البلدة القديمة، وكانت قدسية الشيخ ياسين الذي يحفظ عائلتنا وبيتنا قد انكشفت منذ زمن بعيد، وظهر أنها دون فاعلية، احترقت مع السياج الذي كان يظلل مزار العوسجي، وضاعت جذورها مع شجرة الزيتون المقدسة التي قلعتها الجرافة ومحت وجودها، ولم يعد أحد يعرف مكانها..... وقتها لم أعد رجلاً لا يهاب الظلمة والوحوش الضارية، وإنما تحولت إلى مواطن صغير، مواطن خائف، مزروع بداخله "أبو أحمد"، تروعني خطوات عناصر جهاز حفظ الاستقرار إذا ما مروا بعيداً عني بمئات الأمتار، وحولتني الخدمة العسكرية إلى آلة بليدة، تعد الأيام كي تنتهي، أيام دون معنى..... وحدث اللقاء مع الضبع في معسكر التدريب قبل أن أسافر.

في معسكر التدريب كنا مجموعة مُدجنة من الشباب، ترك القادمون من الأرياف البعيدة ذكرياتهم وحكايات بلداتهم عن الرجولة خارجه، وانخرطوا في عذابات التدريب اليومي، حيث لا يمكن التمييز بين النظام والإهانة. إلا أن "أبو حمدي" "شيخ الشباب "حاول أن يبقى بطلاً بشاربيه العريضين، وحكاياته عن الوحوش الضارية، وشرواله الذي يلبسه في أثناء النوم بعد انتهاء التدريب. كان بطلاً فلكلورياً في الحقيقة بعد انتهاء التدريب اليومي، يتحدث مثل "شيخ الشباب"، أما في أثنائه فقد كان يقبل النظام والإهانات مثل الجميع.

ذات ليلة رجع "أبو حمدي" "شيخ الشباب "بوجه شاحب من نوبة حراسته الليلية إلى مهجع النوم في معسكر التدريب، وقال "يا شباب، شاهدت وحشاً!"، وصمت، إذ سرعان ما سخر الشباب من "أبو حمدي" الجلف والقاسي القادم من الأرياف البعيدة، سخروا من شنبيه العريضين اللذين يفتخر بهما كرمز على رجولته. أما أنا فقد بقيت في سريري العلوي منفصلاً عنهم، أقرأ "وداعاً للسلاح" لأرنست همنغواي.

وبعد ليلتين كانت مناوبة حراستي بعد منتصف الليل، أجد نفسي واقفاً في أقصى طرف معسكرنا الذي يترامى بعيداً عن الأماكن المأهولة بين التلال، وحيث تجمعت مهاجع النوم والتدريب في وسطه على بعد ما يقارب ثلاثة كيلومترات مني. لا ألمح منها إلا أضواء خافتة، تفصلني عنها مساحات ليلية واسعة وفارغة، الجميع نيام ماعدا الحرس الموزع في مناطق متباعدة.

 كانت السماء تندف ثلجاً في تلك الليلة القارسة، وثلج الشمال معروف بكثافته إذا ما تساقط. كان الثلج يسقط على خوذة معدنية أضعها على رأسي، وعلى بندقية في اليد بوضعية القتال، والحربة مُرَّكبة على رأسها كما تقتضي الأوامر، مع مخزن يتم تبديله من بندقية إلى أخرى دون تغيير الطلقات فيه منذ عدة أشهر. وكان الثلج يسقط على نظارتي الطبية بحيث مللت من مسح الندف المتساقطة عليها، فلم أعد أرى سوى وابل ثلجي يلتمع تحت ضوء أصفر لمصباح عمود كهربائي بليد مثلي، أقف بجانبه. وكان الثلج يسقط أيضاً على راديو صغير ببطارية، أحمله قرب أذني، وتصدر منه أغنية أم كلثوم البكائية "ألف ليلة وليلة"، عن العشاق وآلام الفراق..... وهكذا كان يقف مني تحت الثلج خوذة وبندقية ونظارة طبية وراديو صغير، وهو الوحيد الذي كان يبدو حياً منهم، أما البقية مني فلا تعرف لماذا تقف هنا، فقد كانت الأيام ثقيلة والأحاسيس تبلدت، أعدها وتمضي ببطء شديد، كانت مميتة لو لم يعطها أرنست همنغواي بعض المعنى.

وجاء..... ظننت أنه كلب، ولكن مظهره كان كبيراً وغريباً على كلب، ممتلئ الجسم وأقدام عريضة ووجه غريب، ليس فيه شيء من كلب ينبح، لترميه بحجر فيهرب، وكأن حجمه حجم نمر كبير، ولكنه ليس بنمر. شاهدني أنا وعمود الكهرباء منتصبين دون حراك، وأحدنا يحمل راديو.

 تقدم بتثاقل بطيء نحونا، أنا والعمود، تاركاً آثار قدميه على الثلج، يرفع قدمه بهدوء شديد في أثناء سيره، ويتركها معلقة في الهواء قليلاً، ثم يعود ليرخيها بهدوء مشابه على الأرض، ثم يكرر الحركة مع القدم الثانية، ويتقدم نحونا. توقف على بعد حوالي عشرين متراً منا، أنا والعمود، رفع قدمه اليمنى الأمامية عالياً، ونسيها هناك معلقة في الهواء. وقف بهذه الوضعية جامداً لا يتحرك، وأنا والعمود من الجهة المقابلة لا نتحرك، لا شيء حولنا حي سوى صوت سقوط الثلج وغنائية أم كلثوم البكائية الطويلة..... وقف كالتمثال بقدم منسية في الهواء، ووقفنا عمودين منسيين من الزمن، وأخذ يستمع معنا إلى أغنية أم كلثوم، التي استمرت طويلاً لساعة كاملة، لأيام وليالي، لألف ليلة وليلة، ولا أحد منا يتحرك، لم أكن أفكر بشيء، فقد كان عقلي لا يفكر..... وأخيراً انتهت البكائية، فقرر الذهاب بنفس الطريقة المتباطئة والمتثاقلة، مر بقربنا، أنا والعمود عسى أن ينهار واحد منا في اللحظة الأخيرة، ألقى علينا النظرة الأخيرة مودعاً مع فقدان الأمل "بضبع" فريسة ومضى، ودون أن يلتفت، إذ إنه ستتجدد خيبة الأمل له مع بدء بكائية جديدة في الراديو لفريد الأطرش عن الفصول الأربعة فيما لو بقي..... ذهب، تاركاً آثار قدميه على البساط الأبيض، وبقينا أنا والعمود واقفين تحت الثلج وفي البرد القارس حتى انتهاء نوبة حراستي، حيث جاء من يبدلني.

ذهب الضبع دون أن أطبق معه نصائح "أبو حسين" بطرق حجرين بشدة ببعضهما، ولكنني نجوت، ما أنقذني من الضبع هو أنني كنت في فترتها مواطناً صغيراً خائفاً، ورجلاً بليداً يعد الأيام. واكتشف الضبع ذلك من حجمي الصغير المتضائل، ومن بلادتي مما يحدث حولي، فمن خلال هذا الانزواء كنت أنجو حتى من جهاز حفظ الاستقرار، الذي لا يهتم بأمثالي الخائفين. ويبدوا أن الضبع بحسه الغريزي شعر بشكل خاص ببلادتي المرتبطة بالأوضاع العامة في البلد، فقرر الابتعاد عن السياسة وعلاقة المواطنين بعناصر جهاز حفظ الاستقرار، وكيفية قضائهم الخدمة العسكرية، ومضى.

عدت إلى المهجع، مررت بالقرب من سرير "أبو حمدي" "شيخ الشباب"، نظرت إليه، كان نائماً ولا زال شاحب الوجه منذ ليلته تلك، التي قال أنه شاهد فيها وحشاً. كان ضبعاً يا "أبو حمدي"، يا شيخ الشباب، وأنا أصدقك..... ورثيت لحاله وكأنما أرثي لحالي.

كانت مواجهتي مع الأفعى قصيرة، وكذلك مع الضبع، ليس فيهما أية إثارة إذا ما تحدثت بتفاصيلهما لأحد، وإن تركتا بعض التأثير في شخصيتي وحياتي. ولكن المواجهة مع المُذرة والغولة وأخواتهما من الجن والعفاريت كانت عنيفة وقاسية، هزموني هزيمة نكراء في البداية، وساعدهما إنس في تكتل قوي ضدي، ثم ما لبثت أن انقلبت الهزيمة انتصاراً لمصلحتي، عندما صمدت ومن ثم عندما حرقتُ المُذرة والغولة وكل الجن والعفاريت، الذين عاشوا في الغيض والبساتين والحقول والبيوت المهجورة، وعلى الأخص تلك التي عاشت في الكوابيس. كانت حرباً شرسة وقاسية، ولكنني خرجت منها منتصراً، أما المُذرة المهزومة فلم أجد رمادها مثل البقية، زحفت بجثتها إلى بوابة لازمنية وخرجت من عالمنا، بعد أن شاهدت مذبحة رفاقها، واختفت..... ربما ستبقى عداوة مستمرة بيننا، إذ قد يأتي يوم تعاود فيه محاولة إغوائي انتقاماً بعد أن تقفز إلى عالمنا من جديد، فالهزيمة التي لحقت بها وطردها من البلدة لن يجعلاها تنسى الإهانة من إنسي صغير.

وأتى وقت استنجدت فيه النسوة بالجن، وعلى رأسهنَّ جدتي وعمتي ووالدتي، من أجل السيطرة على أطفالهم "العفاريت والشياطين"، فوجدت هذه الكائنات اللامرئية فرصتها لاستعمال قدراتها السحرية في إثارة الرعب عند الأطفال، ملبين دعوة النساء تحت إغراء أنوثتهن، متعللين برجاءاتهن الحارة لمساعدتهن على جنون وشغب الأطفال. ومع أنني لم أكن أهتم بهؤلاء الجن النائمين نهاراً، إلا أنهم بدأوا يقلبون ليلي رعباً تحت تهديد النسوة، فأصبحت أهدأ عندما تحل الظلمة، أجلس خائفاً ومترقباً ومتوجساً، فهم يترصدون خطواتي وأفعالي، يختبئون في العتمة في كل زاوية من البيت، ووراء كل سياج وشجرة، أصبحت أخاف الخروج إلى أرض الدار ليلاً، بل وأغمر نفسي عند النوم بلحاف ثقيل حتى ولو كان الجو حاراً خوفاً من تسللهم إلى الفراش..... ومنذ مبادرة النسوة الخاطئة بالاستنجاد بالجن، أصبح هؤلاء يخطفون البشر، وخاصة الأطفال، كي يلتهموهم أو يتركوهم مجانين.

تقول لي والدتي "خذ سطل الحليب إلى خالتك أم بشير، وقل لها إن والدتي اشتهت لك هذا الحليب الطازج، أسرع قبل أن يناموا فالساعة ستتجاوز الثامنة ليلاً بعد قليل".

وبيت خالتي أم بشير يقع على الطرف الثاني من الوادي الصغير، حيث يمر الطريق الترابي الموصل إليه بمحاذاة الغيضة، التي تقيم فيها الغولة بشكل دائم، تنتظر الفرصة لتقتنص في الليل طفلاً تشويه وتأكله. أتمرد على والدتي معلناً عدم رغبتي بالذهاب، لا أجرؤ على البوح بالسبب، ما دامت هي قد اتفقت مع الغولة على معاقبتي. تلطمني وتعنفني زاعقة، يملأ صياحها الحارة، فأفضل عندئذٍ المرور من قرب الغولة المخيفة بدلاً من زعيق أمي العالي والمستمر. أحمل سطل الحليب وأذهب مترقباً ومتوجساً، وما إن أصل إلى السياج قرب الغيضة، حتى يخرج منه ظل أسود، كان كامناً يترقب قدومي، يتطاول ويمتد إليَّ يريد أن يلتقطني، أعرفه، إنه الجني الذي يرافق الغولة، ويخطف لها الأطفال. يقف شعر رأسي ويغلي الدم في عروقي، أرتعب وأركض، فأتعثر وأقع، ينقلب سطل الحليب ويسيل ما بداخله على الأرض، ويكاد الجني أن يطبق عليَّ بظله الناري..... وعندما أصل لعند خالتي أعطيها السطل فارغاً.

وفي كل يوم تقول لي والدتي "أوصل صحن اللحم المسلوق لعند خالتك أم بشير"، وفي اليوم التالي "سلة التفاح"، ثم "علبة الجبن الأبيض"، و" كيس الكشك المجروش"، و"تنكة الزيت"، و"زجاجة عصير التوت الشامي"..... أهرب من زعيقها، وتصل الصحون والسلال والعلب والأكياس والتنكات والزجاجات إلى خالتي دائماً فارغة، فقد كان الجني الذي ترسله الغولة ينتظرني عند السياج، يخيفني ويوقعني على الأرض ويأخذ ما بداخلها، فيما أنا أركض خائفاً. وخالتي المسكينة تعيدها لوالدتي مليئة في الأيام التالية بما كانت تشتهيه لها من الطعام المطبوخ، والخضار والفواكه، والحليب، والجبن، والكشك، وعصير التوت الشامي. وعندما يلتقون تعاتب خالتي والدتي "لو لم نكن أخوات لزعلت منك، لماذا ترسلين كل هذه الأشياء مع الصغير وتتعبين نفسك".

ترد والدتي "هذا واجب عليَّ، أنا أرسل لك هدايا مليئة بقدر المحبة لك".

تنظر خالتي إلى وجه والدتي باستغراب فيما إذا كانت جادة أم لا! فهي لا يصلها شيء، كله فارغ، في حين أتسلل أنا إلى بستان الجيران، وأختفي فيه ريثما تذهب خالتي.

وهكذا كانت تتنازعني رغبات متضاربة، فحكايات "أبو حسين" و"أبو خالد" عن الضباع والأفاعي والمُذرات تدفعني كي أكون رجلاً شجاعاً في وقت مبكر، وتهديدات جدتي وعمتي ووالدتي بعقاب الجن تجعل مني طفلاً مرتعباً، أختبئ خلف ثوب والدتي. ولكن ما أن تجاوزت العشر سنوات من عمري حتى بدأت كفة الميزان تميل شيئاً فشيئاً لصالح الشجاعة أكثر من الخوف، إذ إن والدي أخذ يصطحبني معه إلى الحقل، ولاسيما في عطلة الصيف الطويلة، حيث كنت أقضي النهار بطوله هناك بعيداً عن البيت. لم يكن والدي ودوداً بالكفاية معي، فبعد زوجتين متتاليتين، وجيش من الأولاد عليه إطعامهم، وبعمر تجاوز الستين، أصبح نزقاً وملولاً وقاسياً على غير عادة شبابه، يشغله كسب النقود لإطعامنا دون أن يستطيع السيطرة على الولادات المتتالية. في مثل هذه الضغوط لم يعد يتفاهم معي إلا بالضرب واللطم والصراخ والزعيق، ومع ذلك كنت أُسَرُ بالذهاب معه إلى الحقل، فهناك أشعر بحرية التسلق على الأشجار واللعب بماء الساقية والتقاط الحشرات مع أقراني من الصبيان، وأكتشف العالم معهم. أراد والدي أن يصنع مني رجلاً بشكل باكر، ولكن على طريقته الخالية من التعبير عن الود، فرماني في الحقول.

****