icon
التغطية الحية

استقراءات في فناجين اللغة

2023.04.05 | 23:26 دمشق

فقه اللغة
استقراءات في فناجين اللغة
فرج بيرقدار
+A
حجم الخط
-A

تتباين المجتمعات في الواقع الذي تعيشه، والوقائع التي تمرُّ بها خلال مراحل تكوِّنها، والظروف التاريخية والاجتماعية والمناخية والمعيشية، وما ينطوي عليه كل ذلك من ضرورات ومصادفات وتجارب وخبرات، وبالتالي من طرائق وأنماط تفكير وتفاعل وسلوك.

تلك التباينات تنشر ظلالها على كافة شؤون الحياة، ويمكن استقراؤها في إيقاعات الحياة اليومية البسيطة، كما في الروحية والتفكير والخلاصات التي تنطوي عليها اللغة.

ليس من شأن هذه المقالة أن تتورّط بأي رصانة بحثية في ميدان المقارَنات الأدبية أو اللغوية، فما أريده أسهل وأبسط من ذلك بكثير، بل إنه لا يتعدى بعض الإشارات التي تشي بشيء مما ذهبتُ إليه في حديثي عن تباين المجتمعات كتحصيل حاصل لتباين واقعها وظروفها.

 المقبرة أو الجبَّانة أو التربة. ثلاث كلمات في العربية تشير إلى مكان الدفن، والكلمات الثلاث جاءت مفردة مستقلة بذاتها. نذهب إلى اللغة السويدية لنبحث عن نفس المعنى "مقبرة" فنجد أنها تتألف من اندماج كلمتين "kyrkogård"، وأصلهما "kyrka كنيسة" + "gård حديقة"، وبالتالي فإن "حديقة كنيسة" في السويدية هي المقبرة في الترجمة العربية، وهي "cemetery" في الترجمة الإنكليزية.

للوهلة الأولى يبدو الأمر غريباً، ولكن وفق المثل الذائع "إذا عُرِفَ السبب بطلَ العجب"، فإن استغرابنا سيزول حين نعرف أنه في الواقع لا توجد أماكن للدفن في السويد خارج حدائق الكنائس. وهكذا فإن الحديقة في القاموس هي الحديقة، والكنيسة هي الكنيسة، فإن اجتمعتا على هذا النحو صار معناهما المقبرة.

في السويدية القديمة وفي لغة الأدب يمكن أن نعثر على كلمتين مرادفين، ولكن لا أحد يستخدمهما الآن، في حين أن الكلمات العربية الثلاث (مقبرة، جبّانة، تربة) ما زالت مستخدمة في الفصحى والعامية.

سأبسط مثالاً آخر قد يؤشِّر على زاوية أخرى من الموضوع الذي تتناوله هذه المقالة. 

في البلدان العربية يمكن أن نقرأ تحذيرات على أعمدة وأبراج خطوط التوتر العالي مثلاً، من قبيل "خطر الموت". التحذير هنا شديد التكثيف والاختصار، ولكنه واضح الدلالة في أنه "خطر يوصل إلى الموت أو احذروا من خطر الموت". السويدون يعتمدون صيغة مختلفة تماماً أو على النقيض، هي "livsfara" المتأتية من اندماج كلمتين أيضاً هما "liv حياة + fara خطر"، وترجمتها "خطر على الحياة".

مثال ثالث: الغيرة عندنا لفظة مستقلة، في حين أنها في السويدية من كلمتين أيضاً هما "Svart + sjuka " أي المرض الأسود.

مثال رابع: الثوم أيضاً من كلمتين هما "vit+lök" أي بصل أبيض. ولمن يتساءل ماذا يسمّي السويديون البصل الأبيض الحقيقي الذي نعرفه في بلداننا، تجيبه اللغة السويدية بأن اسمه البصل الفضيّ.

هناك من يرى أن دمج الكلمات للحصول على معنى جديد هو مؤشر فقر في اللغة، وهناك من يراه مؤشر مرونة ولياقة

مثال خامس: الخفّاش في السويدية مؤلف من كلمتين أيضاً، هما "الفأر الطائر"، وفي الحقيقة أن التشابه كبير بين الخفّاش وبين الفأر مع فارق  الجناحين. وإذا كان خيال البشر اخترع حصاناً مجنَّحاً، فإن الواقع، لا الخيال، أعطى فأراً مجنَّحاً سمَّيناه الخفَّاش.

والسويديون لا يستخدمون في لغتهم الدارجة أو اليومية، غير الأدبية، فعلاً مستقلّاً خاصاً بالألم، كما في العربية "يتألَّم"، ولهذا فإنهم يقولون "عندي أو عنده ألم".

وبطبيعة الأحوال فإنهم لا يستخدمون كلمات من مثل مطلَّق أو مطلَّقة أو طلاق، كما في مصطلحاتنا الفقهية، بل منفصِل وانفصال، أو تفريق كما هو في عربية ما قبل الإسلام.

وليس هناك نظّارة أو نظارتان أو نظّارات. إنهم يدمجون لفظة "Glas= زجاج، مع Ögon = عيون"، لتصبح "عيون زجاج أو عيون من زجاج".

هناك من يرى أن دمج الكلمات للحصول على معنى جديد هو مؤشر فقر في اللغة، وهناك من يراه مؤشر مرونة ولياقة. وليس لمقالة صحفية، تقتضي الرشاقة والسلاسة واليسر والبساطة، أن تقحِم نفسها في تقديم إجابات شافية بقدر ما عليها أن تحرّض أسئلة وتساؤلات وتداعيات وتأملات واحتمالات.

أخيراً قد يكون من المثير أن نطرح مثالاً أبعد مرمى وأوضح دلالة، واستنتاجاته أقرب متناولاً وملموسية. الصحراء في السويدية المتداولة لها اسم واحد يستخدمه الجميع هو "öken"، ويمكن للمثقفين أن يستخدموا أحياناً اسماً مركباً هو "sandhav = بحر رمل" أو “ödemark” = قفر أو منطقة مقفرة".

يقابله عندنا أسماء عديدة تتمايز دلالاتها حسب مقتضى الأحوال والصفات والمجاز، وقد ضمّن "الثعالبي" في كتابه "فقه اللغة وسر العربية" أبرز ستة عشر اسماً للصحراء (بَادِية، بَرِيَّة، بَيْداء، سَبْسَب، عَرَاء، فَدْفَد، فَلاة، فَيْفَاء،  فَيْفَاة، قَفْر، مَفَازَة،  مَهْمَه، مَوْمَاة،هَوْمَاء، هَيْماء، يَهْماء).

الموضوع هنا على علاقة باتساع وتنوع وأدوار الصحارى في حياتنا، ما استدعى تمثّلاً وانعكاساً في لغتنا، وبالمعيار نفسه يمكن أن نطرح أسماء الثلج الناجمة عن أطواره وأحواله وصفاته في بلاد كالسويد، حيث الثلوج عندهم وافرة كما الصحارى عندنا، ولهذا فإن أسماء الثلج في اللغة السويدية تزيد على الخمسين اسماً. أمّا شعب السامر "إحدى الأقليات الخمس المُعترف بها في السويد" ويعيشون تاريخياً على تخوم القطب الشمالي، حيث يهتمون بتربية حيوان الرنَّة، فإن أسماء الثلج عندهم تقارب الثلاثمئة.