استقالة رؤساء الحكومة ليس الهدف

2019.12.04 | 15:02 دمشق

15722102556049008.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد التظاهرات العارمة التي ما يزال يشهدها لبنان والعراق التي انطلقت لأسباب اقتصادية واجتماعية من فقر وبطالة وحرمان لتتحول فيما بعد إلى مطالب سياسية رافعة شعار تغيير النظام مما يذكر بشعارات ثورات الربيع العربي التي عمّت "الجمهوريات" العربية، والتي تهدف إلى تغيير طبيعة النظم السياسية الحاكمة، وليس تجميلها، بشعارها الشهير: الشعب يريد إسقاط النظام، لجأت الأنظمة في لبنان والعراق، ومن ورائهما البلدان الإقليمية إلى القيام بعملية تعتقد أنها ستلبي متطلبات المتظاهرين، وهي استقالة رؤساء الحكومة، حيث استقال سعد الحريري في 30 تشرين الأول، ومن بعده بشهر استقال عادل عبد المهدي في العراق في 30 تشرين الثاني.

ظاهرياً، هناك صيغة ما من الديمقراطية في كلا البلدين، بينما في الجوهر لا تعكس السلطة السياسية فيهما طبيعة ومزاج الجمهور، وإنما هي عملية تحاصص متشابكة بين الطوائف وأحزابها، وهذا يعود إلى التوافق الطائفي الذي رعته فرنسا في لبنان عام 1943، والولايات المتحدة في العراق عام 2003، حيث تستخدم الطبقة السياسية "المختارة"، التي يفوق ولائها لطائفتها ولاءها للدولة والبلد، مؤسسات البلد كإقطاعات لها وهو الأمر الذي يريد المتظاهرون الخلاص منه، والانتقال إلى عملية بناء دولة حقيقية في كلا البلدين تقوم على المواطنة وتسعى للخلاص من التحاصص القائم على الطوائف المعمول به اليوم. وهذا ما يدركه المتظاهرون جيداً وعموم الشعب فيهما، ويريدون تغييره نحو نظام ديمقراطي قائم على المواطنة والولاء للوطن لا للطائفة.

أدى هذا النظام في العراق إلى سيطرة الشيعة على الطيف السياسي، ومن خلفها إيران وخاصة بعد الانسحاب الأميركي عام 2011، مما أوصل إلى عواقب سياسية وخيمة. فالسنّة وجدوا أنفسهم في وضع الأقلية، وشعروا بالإهمال والإقصاء المتعمدين تحت حجج علاقتهم بالنظام السابق وبداعش حالياً لدرجة ظهور خطوط تقسيم جغرافية بين مناطقهم وبقية المناطق في العراق. وقد دفع نفس الموقف الأكراد إلى المضي بمسار الاستقلال رغم عدم نجاحه، لكنه خلق وضعاً بينهم وبين الحكومة المركزية أشبه بالكونفدرالية. وفي لبنان، حيث التوافق الهش، تمكنت إيران من خلال ميليشيا حزب الله

تجلت الهيمنة الإيرانية على كلا البلدين في اللهجة الاستعلائية التي تعامل المسؤولون الإيرانيون وعلى رأسهم الولي الفقيه مع المتظاهرين وثوراتهم

الذي تأسس عام 1982 تحت دوافع "وطنية" في الظاهر وطائفية في المضمون لخدمة المشروع الإيراني "الامبراطوري"، من قلب التوازن لمصلحتها من خلال تحكم ميليشيا الحزب بـ "الدولة" الهشة أساساً وتوجيه سياستها كما في العراق لعزلة البلدين عن محيطهما بعد إغراقهما بالديون دعماً لميليشياتها وحراسة لقوى الفساد واللصوصية التي قامت على أسس هذا النظام، أي نظام المحاصصة الطائفي.

تجلت الهيمنة الإيرانية على كلا البلدين في اللهجة الاستعلائية التي تعامل المسؤولون الإيرانيون وعلى رأسهم الولي الفقيه مع المتظاهرين وثوراتهم، الذي وصفهم مؤخراً بـ "الأوباش"، والمرتبطين بأميركا وإسرائيل، على أمل زعزعة ثقة الشعب بالمتظاهرين من خلال رميهم بمختلف التهم، من دون أن يدرك أن الناس وعت جيداً طبيعة وأهداف محور المقاومة الإيراني المتمثلة في قتل الشعوب وحكمها بالقوة، وهو ما يرووه بأم أعينهم سواء في لبنان أو العراق من خلال المجازر التي يرتكبوها في مواجهة المتظاهرين، وقبلهما في قيام الميليشيات المذكورة (حزب الله والحشد الشعبي) بالاشتراك المباشر في قمع وقتل السوريين ونهب ممتلكاتهم وبيوتهم وارتكاب الفظائع بحقهم.

إن استقالة الحكومة والسعي لتعيين حكومة جديدة في كلا البلدين، مع كل الشكوك المحيطة بتشكيلها، وخاصة في لبنان مع إصرار عون على صهره باسيل، لن ينتج إلا حكومة شبيهة بما قبلها مع بعض التجميلات، وكذلك في العراق من خلال العودة إلى التشاور بين الكتل الطائفية واللصوصية في البرلمان، ومن خلفهما إيران، وذلك على عكس ما يطالب به المتظاهرون، وهم الغالبية في كلا البلدين، بحكومة مستقلة عن الكيانات الطائفية السياسية يمكن أن تؤسس لنظام سياسي جديد، ولا تقتصر على مجرد إطاحة الحكومات الحالية واستبدالها بمسؤولين من نفس النخبة السياسية اللصوصية، وإنما تتلخص بكلمة واحدة: يريدون وطناً ودولة ذات سيادة لا تتحكم بها الأطراف الخارجية، دولة محايدة ونظام سياسي ديمقراطي يخضع للمساءلة والشفافية، يؤمن لهم حقهم في العمل والحياة ويعيد لهم وللبلاد ما نهب من ثرواتهم، أو على الأقل يوقف عمليات نهبها وصرفها دعماً للميليشيات في الأماكن التي تحددها إيران.

اليوم، ونتيجة الممارسات القمعية المدعومة من إيران بحق المتظاهرين، وخاصة بعد دخول العشائر على خط دعم المتظاهرين في العراق، ونزول ميليشيا نصر الله إلى الشارع لقمع المتظاهرين يدخل البلدان في نفق، يصبح فيه مصير

الناس مصممة على الخلاص من أنظمة الطغيان والمحاصصة واللصوصية، ولا تراجع، ومسؤولية الخراب في البلدين على إيران وميليشياتها وأزلامهما من اللصوص من بغداد إلى بيروت

البلدين على المحك، بمعنى أنه ما إذا سيبقى لبنان 1943 وعراق ما بعد صدام أم لا، ما لم تذعن السلطات العلنية والخفية في البلدين لمطالب المتظاهرين والسير في عملية إصلاح حقيقي وتدريجي يجنب البلاد الكارثة والدمار، ويضع البلاد على سكة التطور والتمية الحقيقية، فالناس مصممة على الخلاص من أنظمة الطغيان والمحاصصة واللصوصية، ولا تراجع، ومسؤولية الخراب في البلدين على إيران وميليشياتها وأزلامهما من اللصوص من بغداد إلى بيروت مروراً بدمشق، التي قتل جلادها ما لا يقل عن مليون إنسان واعتقل مئات الألوف وهجر نصف سكانها ورهن ثرواتها وأراضيها لداعميه، ويجوّع ويذّل ما تبقى منهم فيها.

لقد انطلق قطار الحرية، ولن يهدأ حتى تزول أنظمة الاستبداد، فالثورات قد تنتكس، ولكنها لن تتراجع، وستنتصر في النهاية، لأنها ثورات الشعوب، والشعوب على حق.

كلمات مفتاحية