استرداد الأصول المنهوبة بين "قديروف" و"أوسلو" سوريا!

2020.09.24 | 00:15 دمشق

e5c82eff-0d51-4db2-811a-dc1841fc38b7.jpg
+A
حجم الخط
-A

تفقد الدول النامية ما يتراوح بين 20 و40 مليار دولار سنوياً بسبب الفساد، وتقدر مبادرة استرداد الأموال المنهوبة (ستار) التي هي شراكة بين مجموعة البنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة بأنه تم استرداد 5 مليارات دولار فقط من الأموال المنهوبة على مدار السنوات الخمس عشرة الماضية بمعنى استرداد أقل من نصف 0.5 إلى واحد 1 بالمئة من الأموال المنهوبة من الشعوب، وواضح أن هنالك فجوة كبيرة بين أدنى تقديرات للأصول المنهوبة وتلك المستردة فعلياً وذلك بسبب العوائق التي تعترض استرداد الأموال المنهوبة ورغم اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. إلا أن طول أمد استرداد الأموال والصعوبات القانونية في البلاد المودعة فيها الأموال المنهوبة تشكل عائقاً في وجه الشعوب المنهوبة لاستعادة حقوقها.

ما تزال هناك فجوة كبيرة بين النتائج التي تم تحقيقها ومليارات الدولارات التي يقدر أنها مسروقة من البلدان النامية. تمت إعادة 147.2 مليون دولار أميركي فقط من قبل أعضاء منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي بين عامي 2010 ويونيو 2012 ، و 276.3 مليون دولار أميركي بين عامي 2006 و 2009 ، وهو جزء بسيط من 20-40 مليار دولار يُقدر أنه سُرق كل عام، كما تم تجميد حوالي 1.3 مليار دولار ما بين عامي 2010 و2012.

إن أحد طموحات الشعب السوري المنكوب على مدى ستة عقود يأمل باستعادة الأموال المنهوبة من قبل منظومات الفساد وخاصة المودعة خارج أرضه، ولكن هذا برأيي متوقف على طبيعة الحل السياسي من جهة  وتعاون دول العالم واستجابتها لجهود استعادة الأموال المنهوبة من جهة أخرى، وستكون مسألة استرداد الأموال المنهوبة صعبة وشاقة ولكن قد تكون أسهل في حال جود حكومة تكنوقراط احترافية تتمتع بمصداقية وطنية وسمعة دولية، فعلى سبيل المثال عندما فرّ رئيس هايتي جان كلود دوفالييه إلى فرنسا في عام 1986 ، غادر دولة تعاني من الفقر وتعتمد على المساعدات جمع دوفالييه بشكل غير قانوني ثروة شخصية هائلة - تقدر بنحو 300 مليون دولار - خلال فترة وجوده في السلطة، في أوروبا والأميركيتين، تم تعيين محققين ومحامين خاصين لاستعادة الأصول المحتفظ بها في نيويورك وغيرها من العواصم، لكن توقفت هذه الجهود بشكل كبير عندما تحولت السياسة الهايتية وعاد حلفاء دوفالييه إلى السلطة!

إن أحد طموحات الشعب السوري المنكوب على مدى ستة عقود يأمل باستعادة الأموال المنهوبة من قبل منظومات الفساد وخاصة المودعة خارج أرضه

شهدت السبل والصلاحيات القانونية المستخدمة تحسناً طفيفاً في تجميد الأصول وإعادتها لم بحيث تم تقديم إجراءات إدارية لتجميد الأصول بسرعة، وبدأ المزيد من السلطات القضائية بشكل استباقي في إجراء تحقيقاتها الخاصة، بدلاً من انتظار طلب من الولاية القضائية للمسؤول الفاسد. تم استخدام المصادرة غير المستندة إلى إدانة، والتعويضات التي أمرت بها المحكمة والتعويضات واتفاقيات التسوية لإعادة أصول أكثر من المصادرة الجنائية - التي يُعتقد عمومًا أنها السبيل القانوني الرئيسي لاسترداد الأصول.

تمكنت الفلبين من ذلك استرداد أكثر من 1.8 مليار دولار من الأصول من الرئيس السابق فرديناند ماركوس، وكذلك استعادت نيجيريا حوالي 1.9 مليار دولار من السابق الرئيس ساني أباشا وعائلته وهذه نسبة بسيطة من الأموال المنهوبة.

خبرة أنغولا سيئة فبعد حوالي ثماني سنين من المفاوضات على استعادة 64 مليون دولار  من سويسرا التي أجرت تحقيقات جنائية في مزاعم الفساد وغسيل الأموال التي تورط فيها مسؤولون فاسدون من أنغولا، في كليهما، تم تجميد العائدات في البداية 21 مليون دولار في 2004 و 43 مليون دولار في 2012 كجزء من القضية الجنائية، وعلى الرغم من إغلاق التحقيقات الجنائية في وقت لاحق، ظلت الأموال مجمدة ولكن بعدها اتفق الطرفان الأنغولي والسويسري على تخصيصها لمشاريع في مجالات التنمية الرئيسية من أجل تمويل مشاريع إزالة الألغام الأرضية ودعم التنمية الزراعية وإنشاء البنية التحتية للمستشفيات، وإمدادات المياه، وبناء القدرات المحلية لإعادة دمج النازحين، ولكن تتقاسم سويسرا وأنغولا مسؤوليات التخطيط والتنفيذ كي تستفيد الشركات السويسرية!

ذكرت نافي بيلاي، المفوضة السامية لحقوق الإنسان، في بيانها الافتتاحي أمام الدورة الثانية والعشرين لمجلس حقوق الإنسان في مارس 2013: "لنكن واضحين. الفساد يقتل. الأموال المسروقة من خلال الفساد كل عام تكفي لإطعام الجياع في العالم 80 مرة. ينام قرابة 870 مليون شخص كل ليلة وهم جائعون، كثير منهم من الأطفال؛ يحرمهم الفساد من حقهم في الغذاء، وفي بعض الحالات، يحرمهم من حقهم في الحياة. تؤدي الرشاوى والسرقة إلى تضخم الكلفة الإجمالية لمشاريع توفير مياه الشرب المأمونة والصرف الصحي في جميع أنحاء العالم بنسبة تصل إلى 40 في المئة".

قدر الخبير الاقتصادي دانيال كوفمان أن 2 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي يُفقد بسبب الرشوة وحدها كل عام

قدر الخبير الاقتصادي دانيال كوفمان أن 2 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي يُفقد بسبب الرشوة وحدها كل عام، ولكن نظرًا لأن الأصول المسروقة يتم نقلها غالبًا إلى ولايات قضائية مختلفة، فإن جهود الاسترداد تتطلب تعاونًا دوليًا تم وضع أسسه عام 2003 ولكن لازال رغم كل الاجتماعات والندوات والمطبوعات والخبراء لم يرتفع حجم الأموال المستعادة إلى الشعوب بشكل ملحوظ. على سبيل المثال من أصل 30 مليون دولار سرقها باولو مالوف، العمدة السابق لمدينة ساو باولو، الذي أدين بارتكاب الاحتيال ضد دافعي الضرائب في البرازيل وساو باولو. من جراء سرقته ما يقرب من 20 في المئة من الأموال المخصصة لبناء طريق سريع حول المدينة أثناء وجوده في منصبه فازت البرازيل وساو باولو بالقضية. وأمرت محكمة جيرسي ديورانت وكيلدير بدفع 30 مليون دولار للبرازيل وساو باولو،ولكن استرد المدعون 2.1 مليون دولار من حسابات بنكية في جيرسي، بمعنى استردت البرازيل 7 بالمئة من أموالها بعد سنوات من الملاحقة القانونية.

مشكلة إحصاء الأموال المنهوبة في سوريا منذ استلام البعث مشكلة مرعبة، فكيف سيتم معرفة حجم أموال البترول المنهوب، والأموال المنهوبة من القطاع العام، وسرقة أراضي الغابات وتحريقها قصداً، والتهريب، وسرقة أموال الأوقاف وبيعها، وتقصي أثر ثروة كل عائلة الأسد ومخلوف وشاليش ومن لف لفهم من أعضاء القيادة القطرية ومسؤولي الشبيبة والطلائع والضباط الأمراء في الجيش والأمن والجمارك على مدى نصف قرن؟ وكم تم من عمليات التهريب واحتكار موانئ وأسواق حرة وهواتف وطيران وشركات قابضة؟ وكم صفقة كانت غير قانونية؟ والأهم كم من الأموال تم غسلها داخل سوريا وكيفية إحصائها على مدى خمسين عاماً؟ وفي لبنان وفي الوطن العربي وفي دول حلفاء روسيا؟ هل يمكن للقارئ أن يتخيل حجم هذه الثروات؟ وكم سيستغرق إحصاؤها؟ والأصعب كيفية استعادتها ووضعها في خزينة الحكومة الوطنية؟

يستطيع النظام في سوريا بسهولة إقامة شركات وهمية داخل سوريا ويحتال على القانون بسبب غياب القضاء المستقل والإعلام الحر، ويقوم بأعماله عن طريق شخصيات تكون بحقهم بمنزلة ملفات إدانة للضغط عليهم والخلاص منهم في أي ظرف، والتهرب من الإعلام العالمي عندما يواجه المسؤولين بأسئلة عن الفساد حيث لا يوجد وثيقة تدينهم شخصياً، لكن الشخصيات التي تلعب دور واجهات يكونون بمنزلة الدريئة التي يحتمي بها النظام ورؤوس الفساد من أجل التضحية بهم من أجل مصلحة إعلامية أو سياسية، وواقع المحاربة الإعلامية لرامي مخلوف من قبل النظام نفسه مؤخراً أظهرت حجم تغلغل منظومة رامي في مفاصل الاقتصاد السوري من مرافئ وأسواق حرة في المطارات والموانئ وبنوك وغيره تلبية لطلبات عل الأغلب روسية حيث سلطت صحيفة البرافدا في 14 أبريل 2020 الأضواء على النظام وخاصة رامي مخلوف وحمشو وماهر الأسد وقاطرجي وغيره.

صحيفة ديكان كرونيكال في عددها أغسطس 2019 تقدر صافي ثروة محمد ابن رامي مخلوف بـ 2 مليار دولار، استثمر في أكبر مشروع لطاقة الرياح في سوريا والذي يمتد على مساحة 30 هكتاراً بميزانية تقدر بـ 150 مليون دولار.

هنالك كثير من شركات المحاماة في العالم التي تستطيع مساعدة شبكات الفساد في العالم من أجل تأسيس شركات وهمية أو واجهات وهمية لشخصيات سياسية، من أمثال شركة فونسيكا التي تأسست في بنما عام 1977 على يد يورجن موساك المولود في ألمانيا ورجل بنمي يدعى رامون فونسيكا، نائب رئيس الحزب الحاكم في بنما والمحامي السويسري كريستوف زولينجر. منذ السبعينيات، وتعمل شركة المحاماة الآن مع مكاتب تابعة له في 44 دولة، بما في ذلك جزر البهاما وقبرص وهونغ كونغ وسويسرا والبرازيل وجيرسي ولوكسمبورغ وجزر فيرجن البريطانية، وربما الأكثر إثارة للقلق، الولايات المتحدة على وجه التحديد ولايات وايومنغ وفلوريدا ونيفادا.

يتم استخدام محامين متخصصين في تأسيس شركات في جزر آمنة من الرقابة والضرائب، من أمثال المحامي موساك فونسيكا في مكتبه في بنما، الذي أسس شبكة شركات لمنظومة فساد النظام في سوريا ومنها شركة دريكس تكنولوجي المؤسسة عام 2000 في جزر بريطانيا العذراء التابعة لرامي مخلوف حسب تسريبات وثائق بنما، التي وجدت اسم رامي مخلوف وأخوه حافظ مخلوف – مؤسس شركة ايغل تريدبغ آند كونتراكتنغ - عشرات المرات في تلك الملفات، كذلك الأمر بالنسبة لأخيه الآخر إياد مخلوف الذي يعتقد أنه يملك شركة هوكسم لين مانيجمينت.

على سبيل المثال تم الكشف 2006 عن ربط ملف اتش إس بي سي الفردي لمخلوف بـ 18 حسابًا مصرفيًا على الأقل مرتبطة بـ 14 حساب عميل، ستة منهم كانت حسابات مرقمة (دون أسماء)، كان المالك المستفيد شركات تم تسجيلها في لوكسمبورغ وتم فرض عقوبات عليها في عام 2012 من قبل العديد من البلدان بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي، كما أصدر الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين معلومات حول الحسابات المصرفية في سويسرا، وقد كشفت الوثائق التي تغطي الفترة بين 1997 و 2007 معاملات مالية للشركاء والشركات الأمامية العائدة لمخلوف في الملاذات الضريبية الخارجية بقيمة 43 مليون دولار، كما كشفت امتلاك عائلة مخلوف خمس شركات مسجلة في جزر فيرجن البريطانية - وهي ملاذ ضريبي معروف.

في عام 2006 قالت مجلة نيو ستيتسمن البريطانية "لا يمكن لأي شركة أجنبية القيام بأعمال تجارية في سوريا دون موافقة مخلوف ومشاركته"

إن وثائق بنما تظهر أن علاقة رامي مخلوف بالمحامي فونسيكا تعود لأكثر من عقدين من الزمان منذ أواخر عام 1998! فكيف سيتم تقصي كل الثروات التي جمعها هو وباقي منظومة الفساد؟

في عام 2006 قالت مجلة نيو ستيتسمن البريطانية "لا يمكن لأي شركة أجنبية القيام بأعمال تجارية في سوريا دون موافقة مخلوف ومشاركته"، ووصفته برقية سرية عام 2008 من السفارة الأميركية في دمشق نشرتها ويكيليكس بأنه "فتى الملاصق للفساد في سوريا. . " في نفس العام منعت وزارة الخزانة الأميركية الشركات الأميركية من التعامل مع مخلوف، قائلة إنه "جمع إمبراطوريته التجارية من خلال استغلال علاقاته مع أعضاء النظام السوري" و "استخدم مسؤولو المخابرات السورية لترهيب منافسيه التجاريين" وكذلك صحيفة الفاينانشال تايمز في أكتوبر 2019 قالت قبل اندلاع الحرب في عام 2011، كان يُعتقد أن مخلوف يسيطر على أكثر من نصف الاقتصاد السوري على الرغم من حقيقة أنه يخضع لعقوبات دولية منذ عام 2008.

إن طبيعة الحل السياسي في سوريا تقرر ما إذا كان أحد الأطراف الحليفة للنظام تفرض قرارها على مستقبل الشعب السوري، ولو كان كذلك عندها أغلب الظن أنه لن يُسمح بفتح ملفات النظام، أو مجرد إعادة النظر بملفات الفساد أو أية مخالفة لقوانين ما قبل الاتفاق السياسي، فمثلاً لو فرضت روسيا الحل السياسي وكرّست وجود منصة موسكو على الحل السياسي وطلبت أن يكون الرئيس القادم معين بموافقة روسية عندها فإن أية أموال منهوبة مودعة في روسيا أو بيللوروسيا أو رومانيا مثلاً لا يمكن استرجاعها.

حيث من غير المعقول منطقياً أن يطالب الرئيس القادم المعين من قبل روسيا "قديروف سوريا" باستعادة الأموال المنهوبة من الشعب السوري على مدى خمسين عاماً لأن روسيا هي "الضامن" للحل السياسي وقواعدها العسكرية وجيشها وأسلحتها ستحمي قرارات الرئيس الجديد.

للأسف إن عملية استعادة الأصول المنهوبة قد تستغرق فترة طويلة قد تتجاوز عشر سنوات و الخبرات الدولية غير مبشرة حيث إن نسبة المُستعاد من تلك الأموال قد لاتصل إلى واحد بالمئة، لذا لا يمكن للشعب السوري أن يعوّل عليها في بناء مستقبله الاقتصادي، وربما ترتفع نسبة المسترجع من الأموال المنهوبة في حال كان هنالك حل سياسي ناجز وعادل وتقوم كل دول العالم بمساعدة الحكومة السورية الحرة القادمة، وهذا يستبعده واقع تقسيم سوريا إلى ثلاثة مناطق نفوذ روسية وأميركية وتركية، وأعتقد أنه لو تم تكريس مناطق النفوذ السياسي في الصفقة السياسية القادمة أو "أوسلو سوريا" فإن استعادة نصف بالمئة من الأموال المنهوبة سيكون بمنزلة حلم.