icon
التغطية الحية

إيكونوميست: لماذا بات الركود الاقتصادي العالمي من الحتميات في عام 2023؟

2023.01.03 | 18:17 دمشق

صورة تعبيرية - المصدر: الإنترنت
صورة تعبيرية - المصدر: الإنترنت
Economist - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

أعلن منقحو قاموس كولينز للغة الإنجليزية بأن كلمة: أزمة دائمة permacrisis هي الكلمة التي تصف عام 2022، كونها تعرف بأنها فترة طويلة تنتشر فيها حالة انعدام الاستقرار وغياب الأمان، وهي تجمع بكل قبح بين كلمتين لتصف ما سيجتاح العالم اليوم في مطلع عام 2023. فقد تسبب غزو بوتين لأوكرانيا بقيام حرب على أكبر رقعة من الأراضي في أوروبا منذ عام 1945، وأخطر ما فيها هو التصعيد النووي منذ أزمة الصواريخ الكوبية، كما تسببت بظهور نظام عقوبات كان الأكثر شمولاً منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ولقد تسبب ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة إلى زيادة نسب التضخم العالية بالأصل لتصل إلى أعلى مستوياتها منذ ثمانينيات القرن الماضي في العديد من الدول، في أكبر تحد على مستوى الاقتصاد الكلي تعرض له نظام المصارف المركزية في العصر الحديث.

ظهرت افتراضات منذ عقود ترى بأن الحدود حرام وبأن الأسلحة النووية شيء لا يجوز لأحد أن يستخدمه، وبأن معدل التضخم لا بد أن يهبط، وبأن الأنوار في الدول الغنية يجب أن تظل مضاءة، إلا أن كل تلك الفرضيات قد تخلخلت كلها في آن معاً.

الصدمات الثلاث

تسببت ثلاث صدمات مجتمعة في ظهور هذه الفوضى، أكبرها كان على المستوى الجيوسياسي، ويتمثل بالوقوف ضد النظام العالمي الذي ترأسته أميركا بعد الحرب، وذلك على يد بوتين كما هو واضح، ومن خلال تأزم العلاقة بشكل أكبر وأعمق بين أميركا والصين في عهد الرئيس جين بينغ. ثم إن القرار الذي اتخذته أميركا والدول الأوروبية للرد على العدوان الروسي قد يحيي فكرة "الغرب"، خاصة بين أوساط التحالف العابر للأطلسي، إلا أن ذلك قد وسع الهوة بين الغرب وبقية العالم، وذلك لأن غالبية سكان العالم يعيشون في دول لا تؤيد العقوبات الغربية على روسيا، كما أن الرئيس الصيني رفض وبكل صراحة القيم الشمولية التي بني عليها النظام الغربي. ثم إن الفصل على المستوى الاقتصادي بين أكبر اقتصادين في العالم بات أمراً واقعاً، ولذلك لم يعد احتمال غزو الصين لتايوان مستبعداً. هنالك ثغرات أخرى بدأت تظهر في ثوابت جيوسياسية قديمة، مثل التحالف القائم على المصلحة بين أميركا والسعودية.

وبالمقابل، تسببت الحرب في أوكرانيا بظهور أكبر صدمة في تاريخ السلع الأساسية منذ سبعينيات القرن الماضي إلى جانب إعادة تشكيل سريعة لنظام الطاقة العالمي، وذلك لأن أهمية أوكرانيا بوصفها دولة مصدرة للمواد الزراعية تعني بأن الحرب قد هددت بظهور حالة مجاعة شاملة على مستوى العالم، إلى أن تم العثور على وسيلة لفتح ميناء أوديسا. بل حتى الآن، أصبحت العواقب المباشرة لذلك النزاع الشامل تتمثل بندرة الأغذية والأسمدة وقلتها في كثير من الدول. كما أن استعداد بوتين لتحويل صادراته من الغاز إلى سلاح يضرب بسيفه، فضح الاعتماد الأوروبي المزمن على المواد الهيدروكربونية الروسية، وأحال قطاعات شاسعة في مجال الصناعات التي تعتمد على الطاقة إلى قطاعات غير قابلة للبقاء بين ليلة وضحاها، ما أجبر الحكومات على صرف المليارات لدعم المستهلكين كما أدى إلى ظهور هذا التزاحم الجنوني على مصادر توريد جديدة.

حدث كل ذلك خلال العام الذي أضحت فيه عواقب التغير المناخي التي تجلت بفيضانات بباكستان وارتفاع درجات الحرارة في أوروبا أشد وضوحاً. أما أسعار الطاقة التي ارتفعت إلى أبعد الحدود فقد دفعت حتى أشد السياسيين الأوروبيين تمسكاً بالحلول الخضراء إلى إعادة تشغيل مصانع الفحم التي توقفت عن العمل منذ أمد بعيد، كما دفعهم ذلك للاستعاضة عن الطاقة المستدامة الصديقة للبيئة بإمدادات الطاقة المضمونة والآمنة ذات الكلفة المعقولة.

من ارتفاع في نسبة البروتينات إلى ارتفاع في الأسعار

بالمقابل، تسبب الارتفاع في أسعار الطاقة بتفاقم وضع الصدمة الثالثة، أي فقدان الاستقرار على مستوى الاقتصاد الكلي، فقد زادت أسعار المواد الاستهلاكية في مطلع عام 2022 إثر ازدياد الطلب بعد القيود التي فرضت على عمليات التوريد وذلك خلال الفترة التي تلت تفشي الجائحة. ولكن مع ارتفاع أسعار الطاقة والأغذية، تحولت نسبة التضخم من حالة الارتفاع المؤقت إلى الدائم، فصارت مشكلة ذات شقين. وبقيادة الاحتياطي الفيدرالي الذي اكتشف رئيسه في وقت متأخر، قامت كبريات المصارف المركزية في العالم بفرض أسرع وأوسع مجموعة من الزيادات على الأسعار ونسب الفائدة العالمية خلال أربعة عقود على الأقل. ولكن مع اقتراب عام 2022 من نهايته، بقيت حالة الاستقرار في الاقتصاد الكلي صعبة المنال، وذلك لأن نسب التضخم عالمياً بقيت عالية ومؤلفة من رقمين، ولدى مقارنتها بنسب التضخم خلال سبعينيات القرن الماضي سنكتشف تقارباً مقلقاً.

ما الذي سيحدث بعد ذلك؟

إن كل ذلك يعتمد على طريقة تطور تلك الصدمات الثلاث أي الصدمة الجيوسياسية وصدمة الطاقة وصدمة الاقتصاد، وكيف سيؤثر أحدها على الآخر. ولكن على المدى القريب، ما يزال الجواب يشير إلى مستقبل مظلم، وذلك لأن معظم دول العالم ستعاني من ركود في عام 2023، كما يمكن للضعف الاقتصادي في مواطن عديدة أن يزيد من المخاطر التي تهدد الصعيد الجيوسياسي. وستظهر نتائج تلك الخلطة السامة بكل جلاء في أوروبا أكثر من غيرها. إذ على الرغم من مرور خريف معتدل نتج عنه انخفاض في أسعار الطاقة، ما تزال تلك القارة تواجه شتاء صعباً، ولهذا أصبحت معظم الاقتصادات الأوروبية على شفير الركود. كما أن رفع نسبة الفائدة بهدف كبح نسبة التضخم سيؤدي إلى زيادة الإنفاق على السلع الاستهلاكية، كما سيتسبب بارتفاع نسب البطالة.

قد تتسبب موجة البرد برفع أسعار الغاز كما قد تزيد من احتمال انقطاع التيار الكهربائي ليتحول ذلك إلى واقع معاش. ولكن حتى الآن ما تزال الحكومات الأوروبية تحمي المستهلكين من أسوأ صدمة في أسعار الطاقة بفضل الدعم الكبير الذي تقدمه في هذا السياق وبفضل تحديد سقف الأسعار، إلا أن ذلك لا يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى. وأبلغ مثال على ذلك نجده في بريطانيا، بفضل الضرر الدائم الذي جلبته لنفسها عبر خروجها من الاتحاد الأوروبي وبسبب خطة ليز تروس التي سعت من خلالها لفرض تخفيضات ضريبية هائلة من دون تمويل. وحتى تعود الثقة بالسوق عقب ما فعلته تروس بلا أي مسؤولية عندما شغلت منصب رئيس الوزراء، ينبغي على بريطانيا أن تبدأ بأكبر عملية تقشف مالية ضمن نادي مجموعة السبع دول الذي يضم دولاً غنية كبرى، حتى خلال الفترة التي تعاني فيها من حالة ركود اقتصادي. كما أن إيطاليا التي تقاعست عن اللحاق بركب بقية الدول الأوروبية منذ مدة طويلة، وأصبحت بريطانيا تنافسها اليوم على ذلك، فقد تحولت هي الأخرى إلى مصدر قلق.

الغاز سلاحاً

إن الخطر الأكبر على الصعيد الجيوسياسي يتمثل بمحاولة بوتين استغلال نقاط ضعف أوروبا بقوة أكبر عند فشله في تحقيق انتصار في ساحة المعركة، فقد اتضحت هذه الاستراتيجية في أوكرانيا نفسها، بعد تكرار محاولات روسيا لتدمير البنية التحتية للطاقة في ذلك البلد مع اقتراب فصل الشتاء، ولكن حتى الآن فشلت محاولات بوتين الساعية لكسر حالة التضامن والدعم الموجه لأوكرانيا من قبل أوروبا الغربية، وذلك عبر تحويل الغاز إلى سلاح، ولكنه قد يمضي في تلك السياسة عبر قطع كل صادرات الغاز بدلاً من بعضها، أو عبر تدمير خطوط الغاز الأوروبية، وذلك لأن التصعيد بهذه الطريقة قد يجعل بقية دول العالم تتجرأ على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية من دون أن تشعر بأي خزي أو عار، ولكن ذلك يحمل بين طياته تدهوراً للأوضاع في أوروبا.

المعضلة الصينية

ثمة موضع آخر من المحتمل فيه للضعف الاقتصادي أن يفاقم الخطر الجيوسياسي خلال هذا العام، ويتجلى ذلك في الصين، وذلك لأن اقتصادها دخل عام 2023 بضعف اعتراه بسبب أخطاء في السياسة المحلية، أبرزها إصرار الرئيس الصيني على التشبث باستراتيجية صفر كوفيد، مع الفشل في التعامل مع أزمة العقارات التي اتسعت وتفاقمت. وفي الوقت ذاته، صعد الرئيس الصيني من خطابه القومي العدواني، لا سيما فيما يتصل بتايوان. إذ في مؤتمر للحزب يعقد كل خمس سنوات جرى خلال شهر تشرين الأول الماضي، وأضفى طابعاً رسمياً على تركيزه المطلق على السلطة، حذر الرئيس الصيني من عواصف خطيرة مستقبلاً، وأشار إلى استفزازات صارخة شملت التدخل الخارجي بتايوان. وبما أنه يفضل الولاء على الكفاءة، لذا لم يعد لديه أي شخصية تكنوقراطية اقتصادية ذات باع طويل وخبرة في هذا المجال، لذا إن ساء وضع اقتصاد الصين بشكل أكبر خلال عام 2023، فحينئذ يمكن أن يتحول صليل الصوارم فوق تايوان إلى عنصر جذاب للإلهاء وصرف الانتباه عن الاقتصاد.

القوة الأميركية

دخل الاقتصاد الأميركي عام 2023 بقوة أكبر  من الاقتصاد الصيني أو أي اقتصاد أوروبي، بيد أن الزيادة الفاحشة التي فرضها الاحتياطي الفيدرالي على سعر الفائدة ستدفع بالاقتصاد نحو الركود، لكن هذا الركود سيكون أخف على أميركا بفضل بقاء سوق العمل قوياً، ووفرة المدخرات المخصصة للأسر. وعلى الرغم من أن ارتفاع سعر البنزين قد زاد من نسبة التضخم وأضر بإدارة بايدن، إلا أن البلد ما يزال من كبرى الدول المنتجة للطاقة ولهذا استفاد من صدمة السلع الأساسية خلال العام الماضي. بيد أن الطريف في الأمر هو أن القوة الاقتصادية النسبية التي تتمتع بها أميركا في عام 2023 قد تتحول إلى مشكلة لبقية دول العالم بدلاً من أن تمثل نقطة ضعف لأميركا، ولذلك سيحتاج الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع نسب الفائدة بشكل أكبر ولفترة أطول حتى تهبط معدلات التضخم، الأمر الذي لا بد أن يزيد قوة الدولار قوة ويجبر بقية المصارف المركزية على اللحاق بالركب. أما داخلياً، فيتمثل الخطر بالحكومة المنقسمة على نفسها وبحالة الانكماش التي ما تزال طفيفة والتي يمكن أن تتحول إلى حالة تعنت على المستوى التشريعي بل حتى يمكن أن تترجم على شكل سياسات سامة غير معهودة من قبل واشنطن. وفي تلك الأجواء، يمكن أن ينحسر التأييد لمساعدة أوكرانيا ودعمها، مما قد يزيد من جرأة بوتين، مقابل زيادة جاذبية أسلوب القسوة في الإجراءات المتخذة بخصوص تايوان، وهذا ما سيغضب الرئيس الصيني جين.

احتمالات جديدة

بالمختصر، هنالك أسباب عديدة تجعل من عام 2023 عاماً مظلماً وخطراً. ولكن بما أن كل أزمة تفرز احتمالات جديدة، ثمة أخبار جديدة وسط كل هذا الهياج والفوضى التي نشهدها اليوم، وذلك لأن بعض الدول ستزهر وسط الظلام، إذ على سبيل المثال ازدهر اقتصاد دول الخليج ليس فقط بفضل ارتفاع أسعار الطاقة، بل أيضاً بسبب تنامي دورها في مجال المشاريع المالية. أما الهند فستتفوق على الصين لتصبح أكثر دولة اكتظاظاً بالسكان في عام 2023، لكنها ستمثل نقطة مشرقة أخرى، بعدما دعمت نفسها بأسعار النفط الروسي المخفضة، إلى جانب تنامي الاستثمارات على الصعيد المحلي، وزيادة اهتمام الأجانب بتلك الدولة بعد سعيهم لتنويع سلاسل التوريد بعيداً عن الصين. وبالعموم فإن الاقتصادات الناشئة ستبلي بلاء حسناً إلى حد ما مقارنة بما حدث خلال فترات سابقة عند رفعها لسعر الفائدة وانتشار الركود على المستوى العالمي.

إلا أن هذه الهزة ستخلق حالة من التشكيك بعض الشيء بمدى سداد هذا الرأي. إذ في الوقت الذي أصبحت فيه نسبة التضخم تحت السيطرة تدريجياً، لا بد أن تسأل المصارف المركزية نفسها إلى أي مدى ستظل متمسكة بكل تلك الإجراءات الصارمة، وذلك لأنه لا يرجح إلا لدول قليلة أن تقترب من أهدافها بنسبة 2% فيما يخص التضخم، ولهذا لا بد أن يحتدم الجدل حول مدى صحة هذا الهدف الذي تسعى تلك الدول لتحقيقه.

الجانب المشرق في حرب أوكرانيا بالنسبة للمناخ

في هذه الأثناء، لا بد لصدمة الطاقة أن تعزز التحول لمصادر الطاقة المتجددة، بعدما دعا فيث بيرول رئيس وكالة الطاقة الدولية إلى ما أسماه: "نقطة تحول في تاريخ الطاقة" والذي من شأنه أن: "يسرع من التحول للطاقة النظيفة". وفي الوقت ذاته، لا بد أن تشجع هذه الأزمة على ظهور حالة واقعية أكبر تجاه الدور المستمر الذي يلعبه الوقود الأحفوري، وخاصة دور الغاز الطبيعي بوصفه الوقود الذي يمثل جسراً نحو مستقبل أشد اخضراراً. إذ لحسن الحظ، لا بد أن تحدث مواجهة أخيرة مع كل ذلك النفاق الذي دار لوقت طويل، مثل عدم استعداد أوروبا لتمويل مشاريع الغاز في الدول الفقيرة، حتى في الوقت الذي تسعى فيه تلك القارة لتأمين المزيد من موارد الغاز لنفسها، إذ سنخرج إثر ذلك بنتيجة وهي نظام طاقة عالمي أشد اخضراراً وتنوعاً وأماناً.

من أصعب الأمور بالنسبة للتنبؤات هو أن تتوقع العواقب الجيوسياسية التي ستترتب على صدمات عام 2022 على المدى البعيد. إذ مع كل ما يرشح من أوكرانيا من معلومات، من الواضح بأن بوتين سيفشل في هدفه الاستراتيجي المتمثل بحرمان تلك الدولة من حقها في الوجود. وبدلاً من ذلك، ستتحول أوكرانيا إلى دولة ذات هوى غربي وسيصبح جيشها أكبر وأعتى جيش في أوروبا. وحتى لو بقيت خارج حلف شمال الأطلسي، لا بد أن يغير ذلك حسابات الأمن والأمان لدى أوروبا، كما أن انتصار أوكرانيا سيدفع كل من يفكر بالاعتداء على غيره إلى التفكير لبرهة والتريث، بيد أن رفض معظم الاقتصادات الناشئة التوقيع على نظام العقوبات الغربي ضد روسيا يشير إلى أن الرغبة بالدفاع عن الحريات الديمقراطية والحق بتقرير المصير ما تزال محدودة، ومع بداية عام 2023، سنكتشف بأن النظام العالمي الذي ظهر بعد الحرب لم يفنى، لكنه تحول.

المصدر:  Economist