إيران الشيعية... والعرب الشيعة

2019.02.13 | 18:54 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تمكنت جمهورية إيران الإسلامية، التي تصادف الذكرى الأربعون لتأسيسها في هذا الشهر، من تفكيك الولاء الضعيف بالأساس للشيعة العرب -مثلهم مثل بقية الناس- نحو دولهم وانتمائهم القومي/ الوطني وإعادة توجيهه نحو ولاء للجمهورية الإسلامية الإيرانية عموماً ونحو ولي الفقيه خصوصاً، لدرجة صار معظم الشيعة العرب يتفاخرون بولائهم لإيران أكثر من بلدانهم، وينفذون أجندات إيران الطامحة لنفوذ إقليمي كبير يعزز مصالحها القومية أولاً تحت غطاء إسلامي شيعي شرطه الأول العداء للأخرين، وذلك من خلال الانخراط في الأحزاب والميليشيات الطائفية، والتبني الصريح لقيادة الولي الفقيه.

من أولى المبادئ التي طرحتها الثورة الإيرانية، تصدير مبادئها إلى الخارج، حيث سعت تلك القيادة إلى إعطاء ذلك أولوية في نشاطاتها، فأسست في نيسان 1979 ما يُعرف بالحرس الثوري (باسدران) الذي تحول إلى جيش كامل تعداده أكثر من مئتي ألف مقاتل بكافة صنوف الأسلحة (الطيران والبحرية والصواريخ)، ليكون الذراع الفعلي لتنفيذ السياسة الخارجية للمرشد الأعلى في الداخل والخارج، وبالتالي المشرف المباشر على كافة التنظيمات والميليشيات الشيعية خارج إيران، وأكثرها في الوطن العربي، وأولها حزب الله في لبنان، والميليشيات الطائفية في العراق، والميليشيات التي تقاتل في سوريا إلى جانب نظام الأسد ضد السوريين الذين خرجوا للمطالبة بحقوقهم الأساسية: الكرامة والحرية.

لم تستطع الدول العربية عموماً، وفي المشرق خصوصاً، التي تشكلت بعد الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي في بداية الخمسينيات من القرن الماضي من بناء دول مستقلة ومحايدة قائمة على دساتير وقوانين تساوي بين السكان، الذين يتألفون من عرقيات مختلفة، رغم الوجود العربي المطلق، ومن مذاهب عديدة بين المسلمين فضلاً عن الأديان الأخرى، فلحسن الحظ أو سوئه تنتشر كل المذاهب الإسلامية من سنّة (وهم غالبية) وعلويين وشيعة ودروز وإسماعيليين، فضلاً عن الطوائف المسيحية، أما الأعراق فهناك إلى جانب الأغلبية العربية المطلقة، أكراد حرمتهم اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 التي رسمت الحدود بين تلك البلدان من حقهم في تشكيل دولتهم.

في لبنان، فقد تم تعديل النظام الطائفي أساساً بعد الحرب الأهلية التي دامت خمسة عشر عاماً، في

انتهج الأسد الأب ومن بعده الوريث الابن، سياسة طائفية واضحة تحت ستار خطاب قومي/ وطني وعلماني، حيث إن معظم أركان السلطة من قادة الأفرع المخابراتية وقادة الفرق العسكرية، إن لم نقل كلهم هم من العلويين

معاهدة الطائف 1991، مقلصاً من صلاحيات الرئيس والمسيحيين لصالح المسلمين، وعملياً على الأرض، أصبح النظام ذو صيغة ثلاثية: مسيحية -سنية -شيعية.

وفي العراق، رسّخ الدستور بعد الاحتلال نظام تقاسم للسلطة قائم على تلك الانقسامات "المكونة" للعراق، فأنتجت نظاماً طائفياً ضعيفاً ومرتهناً لإيران وأميركا، في تغييب كامل للصوت القومي/ الوطني. أما في سوريا، فقد انتهج الأسد الأب ومن بعده الوريث الابن، سياسة طائفية واضحة تحت ستار خطاب قومي/ وطني وعلماني، حيث إن معظم أركان السلطة من قادة الأفرع المخابراتية وقادة الفرق العسكرية، إن لم نقل كلهم هم من العلويين، بينما يشارك الآخرون في الوزارات والوظائف المدنية التي تعينها المخابرات.

كانت التجربة الأولى للحرس الثوري خارج إيران في لبنان، ففي عام 1982، حيث أرسل أثناء الاجتياح الإسرائيلي المشهور صيف 1982، مئات المقاتلين الإيرانيين للدفاع عن لبنان ضد اجتياح إسرائيل، ولبدء العمل على استثمار جديد في الحالة اللبنانية، التي سرعان ما تحولت لحالة مستعصية على الدولة اللبنانية وأقوى منها، متمثلة بحزب الله، كما خلق جيشاً من الشيعة تابعاً لولي الفقيه عبر للحرس الثوري لتنفيذ مهمات الخارج، وانتزع عنهم علاقتهم بالدولة اللبنانية، مستغلاً عجز الدول العربية وهشاشتها تجاه قضية فلسطين، ومستخدماً الأموال والبعثات العلمية، مما أصبحت تجربة الحرس الثوري في لبنان نموذجاً تعمل إيران على تطبيقه في دول أخرى، أهمها العراق وسوريا.

لجأت إيران لنفس الطريقة في العراق، فغير تدخلها السياسي وربطها المرجعيات الدينية بولي الفقيه، فبعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق واستيلائه على الأنبار والموصل وعجز "الدولة" العراقية التي ساهمت إيران إلى جانب الولايات المتحدة بتأسيسها على أسس مذهبية وعرقية باتباع السياسة القائمة على "المكونات" التي خطّها الحاكم العسكري للاحتلال الأميركي، بريمر، عن محاربة داعش، بل الهزيمة أمامها، رأت إيران أن الفرصة مؤاتية لتأسيس ما يُعرف بالحشد الشعبي إضافة للميليشيات التي تجندها من الشيعة العراقيين للقتال في سوريا، وذلك بقصد محاربة داعش، وهي الفكرة التي لاقت دعماً وسكوتاً دوليين رغم أنها ميليشيا طائفية متطرفة، وطالما أنها لا تستهدف الغرب، فهي ليست إرهابية.

عقب "الانتصار" على داعش، قررت إيران زج الحشد في مرحلة العمل السياسي، والمشاركة بالانتخابات، فحشدت وجيرت له ذلك "الانتصار"، مما أكسبه الموقع الثاني في البرلمان، وبالتالي صار هناك جناح سياسي في الحكومة والبرلمان يدافع عن الميليشيا، ومرتبط أشد الارتباط بإيران: عقائدياً ومالياً ومصلحياً.

أما في سوريا، فالوضع مختلف، كون الشيعة أقلية لا تُذكر (حوالي 1 في المئة)، حيث إن تطبيق نفس النموذج اللبناني أو العراقي يبدو شبه متعذر، فلجأت إلى جلب شيعة من مختلف الدول وتجنيدهم في ميليشيات مرتبطة بالحرس الثوري، إضافة للشيعة السوريين، وتوكيل أمر قيادتها لشيعة سوريين (قائد عصائب أهل الحق، أبو عجيب جظة، وهو من سكان نبل في محافظة حلب) يقيمون معهم علاقات قديمة من خلال الزيارات والبعثات التعليمية وإقامة الحسينيات في المنطقة، ساعدته أثناء الثورة في إحداث تحول مهم في انتماءاتهم الوطنية الهشة، لتؤسس عبر العلاقات الوثيقة القائمة على المصلحة والعقيدة انتماءات جديدة تتمحور حول الالتزام بما يصدره ولي الفقيه، حتى لو كان متعارضاً مع نظام الأسد الذي يقاتلون لجانبه، وقد صرح بعضهم أنهم يقاتلون لمصلحتهم الخاصة، وأن أوامرهم من ولي الفقيه، أما الأسد ففي المرتبة الثانية، وطالما الحرس الثوري موجود، فحتى الأسد لا يعنيهم.

مع انطلاقة الثورة في سوريا، دعمت إيران بكل وضوح ومن البداية الأسد في وجه الثوار ومطالبهم سياسياً ومالياً وعسكرياً

تحولت سوريا في النهاية لنقطة جذب وتجنيد للشيعة من مختلف أنحاء العالم تحت الإشراف والتدريب والتمويل الإيرانيين، في حربهم التي يعدونها "مقدسة" ضد السوريين

من خلال تقديم المستشارين للجيش ولأجهزة المخابرات، ولم تكتف بهذا كله، بل قررت الدخول العسكري المباشر من خلال قوات حزب الله، بعد أن شعرت أن الكفة تميل لصالح الثوار، فكان قرار إرسال قوات من حزب الله للمشاركة إلى جانب قوات الأسد، بدءًا من أواخر عام 2011، إثر توصية من المرشد الأعلى علي خامنئي، لكن لم يعلن الحزب رسمياً مشاركته في الحرب إلى جانب النظام حتى نيسان 2013، قبل معركة القصير في ريف حمص المحاذي للحدود اللبنانية.

تحولت سوريا في النهاية لنقطة جذب وتجنيد للشيعة من مختلف أنحاء العالم تحت الإشراف والتدريب والتمويل الإيرانيين، في حربهم التي يعدونها "مقدسة" ضد السوريين، بحيث يكسبوها بعداً أيديولوجياً ودينيًا يميز عقيدة ولاية الفقيه الشيعية هي العداء للآخر المسلم.

لم تستطع كل تلك الدعاية إخفاء الأهداف الإستراتيجية الكبرى لإيران في حربها القذره هذا، فهي تسعى إلى تحقيق حلم إمبراطوري تتحكم بمعظم الدول العربية، وتُصبح لاعباً إقليمياً مهماً للتفاوض حول مصالحها في المعركة على السيطرة على المنطقة العربية (شرق المتوسط والخليج). خاصة بعد أن نجحت في تقديم نموذج "ثوري" للشيعة العرب، من دون الكشف عن أهدافها العميقة التي بدأت في الظهور بوقاحة بعد الثورة في سوريا، والانفلات الهائل في العراق.

لا شك أن غياب الدولة وانعدام الحريات وتسلط العصابات الحاكمة على مقدرات البشر، ساعد إيران الشيعية، في إجراء تحول هام في انتمائهم، مما عقد الوضع في هذه البلدان أكثر وجعل من مهمة بناء الدولة القوية والعادلة التي لا تُميّز بين مواطنيها على أساس العرق أو الدين هدفاً محورياً للخلاص من النفوذ والتغلغل الإيرانيين، وهو ما يؤكد ما تسعى إليه ثورات الربيع العربي، ومنها الثورة السورية، فالشيعة هم أولاً مواطنون عرب، ولن يغيّر هذا الانزياح أو التحول من انتمائهم الحقيقي، لأنه مضاد للتطور وقسري سرعان ما سينتهي مع تحقق أهداف الثورات في دول الربيع العربي، هذا الربيع الذي سيطال إيران لا محالة، ويخلص الشعوب الإيرانية من ظلم طغاة الأرض: "الملالي".