إنتان رئوي فيروسي

2020.03.07 | 23:00 دمشق

كورونا
+A
حجم الخط
-A

إلى من يهمه الأمر: يستبدل باسم الفايروس (COVID-19) المعروف عالمياً باسم "كورونا"، اسم (إنتان رئوي فيروسي) في كل التقارير الطبية التي يتم إصدارها في المشافي والمراكز الصحية داخل أراضي الجمهورية العربية السورية.

 هذا هو اختصار القرار الحكيم الذي أبدعه القصر الرئاسي السوري ووصل إلى الجهات المعنية في سوريا، وهو القرار الذي نجح في أن يمنع وصول "كورونا" إلى سوريا، وعليه: إن ما تصرح به الجهات الطبية السورية، عن خلو سوريا من فيروس كورونا وعدم تسجيله أي إصابة فيها، هو تصريح صحيح ودقيق؛ فليس في سوريا من هو مصاب بـ (COVID-19)، أما العشرات والمئات- وربما أكثر- الذين يموتون لأسباب غامضة تصيب أجهزتهم التنفسية، فإنما هم مصابون بمرض آخر اسمه (إنتان رئوي فيروسي).

أحد المختصين في منظمة الصحة العالمية يرجح أن يكون عدد الإصابات في سوريا أعلى من أي عدد في كل دول الجوار السوري

وهنا تكمن المشكلة، التي هي كارثة بكل المعاني؛ فالقصر الرئاسي في سوريا لا يزال يواصل عمله المعتاد، كما تعود منذ عقود؛ إذ لم تغير تسع سنوات من الثورة ومن الموت والخراب آليات عمل هذا القصر، ولم يطرأ أي تغيير على طريقة إدارته الدولة والمجتمع، ولا يزال جهابذة هذا القصر، يصرون على أن كل ما يحدث في سوريا يجب أن يقرره القصر، أو على الأقل أن يكون مختوماً بواحد من أختامه: بدءاً بإنتاج النفط وبيعه، وانتهاء بكمية الأمطار الهاطلة، مروراً بدرجات الحرارة، وعدد السياح الذين يجب أن يزوروا سوريا، وعدد الناجحين في شهادات محو الأمية، واسم الفيروس الذي يقتل البشر، وشرح مفردات نص باللغة العربية كان قد كتبه شاعر جاهلي يتغنى ببطن فرسه الضامر. إذاً، أي عبث بعد هذا العبث!!

يخبرني صديق لايزال في سوريا وهو يغامر بأن اتصاله هذا قد يقوده إلى السجن، يحدثني بسرعة، كأن أحداً يطارده، ويعد عليه أنفاسه وحروفه:

منذ أقل من شهر تم نقل أحد الأشخاص من قرية (....) في محافظة السويداء مساء بحالة إسعافية إلى المشفى، وفي اليوم التالي أحضر إلى القرية متوفيا وملفوفا بأكياس "نايلون"، أحضر بسيارة إسعاف مع كادر طبي مرافق يرتدي جميع أفراده كمامات، لم يسمح بإخراج الجثة خارج سيارة الإسعاف للصلاة عليها، وتمت الصلاة والجثة داخل السيارة، ثم تم الدفن مباشرة بإشراف الطاقم الطبي.

في نفس اليوم وبعد عدة ساعات يتصل بي صديق آخر من طرطوس ليخبرني وهو خائف:

"خيو اسمع، ومارح طول... كورونا معبا سوريا، لا تصدق اللي عم يقولوه هدول الكلاب... شو فيكن تعملوا اعملوا، الله وكيلك رح يموتونا كلنا... ليك لا تزاود على "...."، وتقلي لازم نحنا نعمل شي... ما منسترجي، الله وكيلك ما منسترجي، ولا تتصل معي رجاء". ثم أغلق هاتفه.

وبقيت مذهولاً، ولقد تركني في حيص بيص: ماذا أصدق؟ وكيف أصدق؟ ... وهل يمكن لبشري أن يصدق هذا؟

أحد المختصين في منظمة الصحة العالمية يرجح أن يكون عدد الإصابات في سوريا أعلى من أي عدد في كل دول الجوار السوري، وهو يعزو ذلك إلى حركة الميليشيات التي تستقدمها إيران للقتال إلى جانب قوات الأسد، سواء أكانت عناصر جديدة أم كانت عناصر عائدة إلى ساحات القتال بعد انتهاء إجازاتها في إيران، ويشير المصدر نفسه: إلى أن الطقوس التي تعتمدها عناصر هذه الميليشيات هي عامل رئيسي في نقل الفايروس؛ إذ يقوم معظم هؤلاء العناصر بسبب قناعاتهم الدينية بزيارة الأماكن الدينية المقدسة للتبرك بها ولطلب الحماية منها قبل التوجه إلى جبهات القتال. وكما هو معلوم: إن هذه الأماكن هي أكثر مناطق إيران انتشاراً للفايروس.

تتوزع الميليشيا القادمة من إيران على معظم الجغرافيا السورية، ولا يمكن للنظام أن يقرر أماكن وجودها، ولا حتى أن تعرف هذه الأماكن؛ فالقيادة الإيرانية هي من يتحكم بهذا، وبالتالي: إن الحديث عن مناطق موبوءة في سوريا غير ممكن عملياً، وربما تكون سوريا بكاملها قد أضحت اليوم مناطق يتواجد بها الفايروس.

أحد الأطباء السوريين وكان يعمل مديرا لأحد المشافي العامة في سوريا قبل أن يغادرها يقول إن عدد الأسرة في المشافي السورية كلها، العامة والخاصة، لم يكن يزيد إلا قليلاً عن الثلاثين ألف سرير، منها ثمانية آلاف للقطاع الخاص، أما اليوم وبعد تسع سنوات من الحرب فإن عدد الأسرة قد انخفض إلى ستة عشر ألف سرير، منها حوالي خمسة آلاف سرير تتبع للقطاع الخاص.

إذاً وبأحسن الحالات: إن هناك سريراً واحداً لكل ألف إنسان سوري... وهذا المعدل هو من أخفض المعدلات في العالم، حتى إن بعض المراجع تطلق عليه المعدل الإفريقي، في إشارة إلى تدني الخدمات الصحية في إفريقيا؛ لأن المعدل العالمي الذي تعتمده منظمة الصحة العالمية، هو: 6،3 أسرة لكل ألف مواطن.

الموت بفايروس كورونا أرحم من الموت في سجونهم، على الأقل عندما أموت بـ "كورونا" يمكنني أن أرى عيني ابنتي قبل أن أموت

ووفق هذه الأرقام فإن سوريا لم تكن قادرة، حتى قبل الثورة، على مواجهة جائحة صحية مثل كورونا، فكيف يمكنها الآن! خصوصاً أن الحجر الصحي هو المقدمة الأولى لمواجهة الجائحة، وبالتالي: إن إنشاء أماكن حجر صحي مجهزة، غير ممكن في مثل هذه الظروف التي تمر فيها سوريا، في هذه الفترة، وإن البنية التحتية الصحية الباقية اليوم هي غير قادرة على سد حاجة السوريين الصحية بالحد الأدنى، هذا إذا تجاهلنا أن الحرب تطلبت تخصيص نصف هذه التجهيزات والمشافي للمصابين القادمين من جبهات القتال، وأن قسماً آخر قد تم تخصيصه لخدمة الميليشيات التي جاءت من خارج سوريا لدعم النظام.

بعد ساعات من اتصاله، أعدت الاتصال بصديقي الذي حدثني عن "كورونا"، متجاهلا طلبه مني عدم الاتصال به، فقلت له مستنكراً صمتهم على هذا القتل المتعمد والمعلن لهم؛ فصمت طويلاً، ثم قال:

اسمع!! الموت بفايروس كورونا أرحم من الموت في سجونهم، على الأقل عندما أموت بـ "كورونا" يمكنني أن أرى عيني ابنتي قبل أن أموت، أما في سجونهم فلن أرى إلا البوط العسكري الذي يهشم وجهي.

كلمات مفتاحية