إمدادات الطاقة.. سلاح بوتين الجديد

2022.09.10 | 06:25 دمشق

إمدادات الطاقة.. سلاح بوتين الجديد
+A
حجم الخط
-A

مع انزلاق الحرب الروسية على أوكرانيا إلى صراع استنزاف عسكري طويل الأمد وانخراط الغرب بشكل أعمق في معاقبة موسكو وتسليح كييف، يلجأ الرئيس فلاديمير بوتين إلى خطته التالية للضغط على الغرب وهي تسليح إمدادات الغاز إلى أوروبا بوتيرة أعلى. الأسبوع الماضي، أوقفت شركة الطاقة الروسية الحكومية غاز بروم واردات الغاز إلى الدول الأوروبية عبر خط "نورد ستريم 1" وقالت إن الإمدادات لن تُستأنف بالكامل حتى يرفع الغرب العقوبات المفروضة على روسيا. لا تزال موسكو تُزوّد أوروبا بالغاز عبر خطوط الأنابيب التي تعبر أوكرانيا، والتي ظلّت مفتوحة بعد الحرب، وكذلك عبر خط أنابيب "ترك ستريم". لكنّ الإمدادات على طول خطوط الأنابيب الشمالية، بما في ذلك "نورد ستريم 1" وخطوط الأنابيب عبر أوكرانيا تراجعت بأكثر من تسعين في المئة بين سبتمبر أيلول من العام الماضي واليوم. استراتيجية بوتين القائمة على التقليص المستمر للإمدادات منذ فترة ما قبل الحرب بقليل جعلت الأوروبيين أكثر استعداداً على المستوى النفسي واللوجستي لاحتمال توقّف الإمدادات بالكامل.

أدّى ارتفاع الأسعار حتى الآن إلى تأجيج موجة التضخّم التي تعصف بالاقتصادات الأوروبية والعالمية وأثارت في بعض الحالات اضطرابات اجتماعية

التحرك الروسي الجديد يبدو رداً مباشراً على إعلان دول مجموعة السبع عن خطّة لفرض حدّ أقصى لسعر صادرات النفط الروسية. تهدف الخطة إلى إعاقة جهود موسكو لتمويل آليتها الحربية من خلال مبيعات الهيدروكربونات بعدما عوّضت روسيا كثيرا من الخسائر الناجمة عن العقوبات بفضل عائداتها المرتفعة من النفط والغاز. تسليح إمدادات الطاقة يُربك نظام الطاقة العالمي، لكنّه مؤلم بشكل خاص لأوروبا التي لا تزال تعتمد بنسبة كبيرة على الطاقة الروسية لتشغيل اقتصاداتها. مع اقتراب فصل الشتاء، الذي يُرجح أن يكون قاسياً هذا العام، سيكون من الصّعب على الحكومات الأوروبية تجنّب التداعيات الكبيرة لارتفاع أسعار الطاقة على المصانع وفواتير المواطنين من ذوي الدخل المتوسط والمحدود. أدّى ارتفاع الأسعار حتى الآن إلى تأجيج موجة التضخّم التي تعصف بالاقتصادات الأوروبية والعالمية وأثارت في بعض الحالات اضطرابات اجتماعية. في الأسبوع الماضي، تظاهر الآلاف في العاصمة التشيكية براغ احتجاجاً على ارتفاع فواتير الطاقة. يُمكن أن يؤدي الضغط الإضافي إلى احتجاجات في عواصم أوروبية أخرى.

تستند الاستجابة الأوروبية لاستفحال أزمة الطاقة إلى أربعة ركائز. تعزيز مستويات تخزين الغاز، وتنويع مصادر الطاقة، وتشجيع خفض الطلب والتقنين في استخدام الطاقة. خزانات الاتحاد الأوروبي ممتلئة الآن بنسبة 60٪ تقريبًا، لكنها لا تبدو كافية لمواجهة الارتفاع المتوقع في الطلب على الغاز خلال فصل الشتاء. كما أن كل الدول الأوروبية لم تقم بتخزين الغاز على قدم المساواة، ما يُشير إلى أن بعض الدول ستعاني بشدة في حال انقطاع واردات الغاز الروسية بالكامل. الشتاء البارد سيُضيف ما يصل إلى خمسة وعشرين مليار متر مكعب من الطلب الإضافي. علاوة على ذلك، فإن بوتين يمارس سياسة "فرق تسد" مع الأوروبيين في سلاح الغاز. على سبيل المثال، المجر التي يُعتبر رئيس وزرائها صديقاً لبوتين، ستُحافظ على الأرجح على إمدادات الغاز بأسعار أقل وسيتم تقديم مثالها لمواطني الدول الأوروبية الأخرى من قبل الأحزاب الشعبوية.

تكمن مشكلة أوروبا في أنّها دخلت صراعاً كبيراً مع روسيا بينما لم تستطيع بعد فطم نفسها عن الغاز الروسي. بعض الدول مثل إيطاليا وفرنسا نجحت في إيجاد موردين آخرين مثل الجزائر للحصول على الغاز، لكنّ دولاً أخرى مثل ألمانيا، أكبر اقتصاد أوروبي، تفتقر إلى محطات الغاز الطبيعي المسال التي تحتاجها لاستيراد الغاز بكميات كبيرة من أي مكان آخر غير روسيا وقد تستغرق سنوات لفعل ذلك. اعتماد أوروبا على الغاز الروسي مزعج لها لدرجة أنها تدفع يومياً ما يُقدر بمليار دولار أميركي مقابل شراء الطاقة من روسيا رغم الحرب والعقوبات. كما أن المُشكلة ليست محصورة فقط بواردات الغاز من روسيا فحسب، بل بالنفط أيضاً. مع بقاء ثلاثة أشهر فقط على دخول الحظر الأوروبي الكامل على واردات النفط المنقولة بحراً حيّز التنفيذ، لا تزال القارة الأوروبية معتمدة بشكل كبير على موسكو في الإمداد، ما يعني أن الاضطرابات القادمة في أوروبا ستشمل جوانب عديدة في الاقتصاد.

كلّما وجدت الحكومات الأوروبية صعوبة في إقناع شعوبها بضرورة تحمل فواتير كبيرة من أجل جرح كبرياء بوتين. مع ذلك، فإن تسليح إمدادات الطاقة ينطوي على مخاطر بالنسبة لبوتين

على عكس الأشهر الماضية من الحرب، والتي بدت فيها روسيا في وضعية الدفاع ضد العقوبات، فإنها بتسليح إمدادات الطاقة بشكل أكبر تتحول إلى وضعية الهجوم. يعني اعتماد أوروبا على الغاز الروسي أن الدول الأوروبية أمام خيارين كلاهما مر. إما مواجهة أزمة اقتصادية وسياسية حادة في فصل الشتاء أو التراجع خطوة للخلف واستيعاب بعض المطالب الروسية في أوكرانيا ورفع العقوبات. تكمن المخاطر في السيناريو الثاني في أن تمكن بوتين من فرض رؤيته للتسوية مع أوكرانيا والغرب سيمنحه شعوراً بالقدرة على تكرار ما فعله في مناطق أخرى دون القلق من العواقب. في مقياس المكاسب والخسائر، يميل بوتين إلى التركيز على كيفية إثارة المشكلات السياسية للحكومات الغربية لدفعها إلى التراجع خطوة للخلف في صراعها مع روسيا. مثل هذا الخيار مؤلم للغرب ويُهدد بفشل استراتيجية الضغط الأقصى على روسيا. بينما لا تزال الوحدة الغربية متماسكة إلى حد كبير، إلآّ أن استمراريتها لا تبدو مضمونة في ظل أن أوروبا تُعاني بشكل أكبر من تداعيات الصراع مقارنة بالولايات المتحدة.

كلّما تفاقمت أزمة الطاقة، وجدت الحكومات الأوروبية صعوبة في إقناع شعوبها بضرورة تحمل فواتير كبيرة من أجل جرح كبرياء بوتين. مع ذلك، فإن تسليح إمدادات الطاقة ينطوي على مخاطر بالنسبة لبوتين. تم بناء إدمان أوروبا على الغاز الروسي على أن موسكو ستتعامل مع الطاقة دائما كمسألة تجارية مع أوروبا، لكنّ الدول الأوروبية اكتشفت مؤخراً أن هذا الرهان لم يكن في مكانه. حتى لو انتهت هذه الحرب قريباً، فسيكون من الصعب تخيّل أن أوروبا ستعود مرّة أخرى للاعتماد الكبير على الطاقة الروسية، ما يُفقد موسكو ورقة ضغط قوية في المستقبل، لكن بوتين يخطط قبل كل شيء لكسب حربه في أوكرانيا بأي ثمن.