icon
التغطية الحية

إلى قلب إلياس خوري | رسالة

2023.07.24 | 15:40 دمشق

آخر تحديث: 25.07.2023 | 09:24 دمشق

خوري
+A
حجم الخط
-A

هذه ليست رسالتي إلى قلب الجميل والحقيقي إلياس خوري، الغافي داخل قسم العناية المشددة في مستشفى ببيروت. بل هي رسالة منا، نحن السوريين، والفلسطينيين، واللبنانيين، الوحيدين في قاع هذا البحر. إلى القلب الذي حمل عنا دمنا، وأكمل بكل ما استطاع من نبض، انتشال حكايتنا من تحت الأنقاض، وهي تنازع في لحظاتها الأخيرة، وحملها إلى الضوء علها تعود وتستنشق بعض الأمل، فتنجو.

هي رسالة إلى الذين كان عليهم الموت ألف مرة تحت ثقل بسطار الأنظمة الاستبدادية، والخذلان العربي والعالمي، وإلى ظلال المشروع الفارسي الإيراني الاستعماري في المنطقة، ونظام الأسد وحليفه الفاسد والطائفي في بيروت، وإلى نظام العنصرية في تل أبيب.

هي رسالة من قلوبنا للكاتب والمثقف والصحفي اللبناني الذي أنصف القلوب المقهورة المظلومة، والذي تعب اليوم من كل هذا التحدي والغناء وحيدا في الساحة.

رسالة من شرايين الحياة فينا، إلى شرايينه التي تصلبت الطعنات على جدرانها، فارتفع فيها ضغط الألم، وأنهك عضلة القلب التي ما تزال تنبض بالجرأة على قول الحقائق عارية بلا تزييف ولا تجميل، وبالقدرة على الوقوف بوجه كل تسطيح لحجم الكوارث التي عاشتها هذه البقعة المنسية من الأرض بسبب إرهاب الاستبداد والتطرف والتبعية والفساد، وبسبب الدخول الممنهج للدولة داخل الدولة، بقيادة حكومات الظل والفراغ.

سلاماً من القلب إلى القلب الذي وقف مع دمنا المهدور، على خلاف العديد من المثقفين والكتاب اللبنانيين الذين كنا نعول عليهم في مصابنا

مالحٌ هذا النشيد يا إلياس، يا صديق وعينا، نحن الجيل المحكوم بخيبة الأحلام والموت البطيء والسريع والتدريجي، وبالتشرد في بقاع الأرض الضيقة. مالح هذا النشيد، مالح، والصور في جيوب الغرقى مالحة، فكيف إذا سنحمي قلبك الآن من ألا يتوقف من العطش؟

منذ رواية "أولاد الغيتو،" ومرورا برواية "الجبل الصغير"، ووصولا إلى رواية "باب الشمس"، عمرت الأحداث التي بنيتها فيها، خرابنا، وحملت الشخصيات ملامحنا حية طازجة وحادة، وبنت فينا إدراكا عميقا بالمسؤولية المترافقة مع وعي وحجم الإشكاليات التي تسيطر على تفاصيل بنائنا لذواتنا، ولآمالنا، مقدمة لنا في لغة هي مزيج من الشاعرية والسلاسة، متعة حقيقية كمن يرى نفسه في المرآة أوضح.

ومن دارسة أكاديمية نقدية، إلى أخرى تتناول الثقافة العربية، ومن مقال صحفي موقع باسم إلياس خوري، إلى مقال آخر يحمل التوقيع نفسه، كنا نعبر إلى دهاليز أنفسنا، ثم نعود إلينا سالمين معافين، فقط لأن كاتباً وباحثاً عربياً لبنانياً وضع يده على الجرح، وفتحه، وحاول تنظيفه بعمق حتى لو كان هذا التعقيم مؤلما، من أجل أن يشفى بشكل حقيقي دون أن يترك قيحا تحت جلد الحقيقة.

 من الجرح الفلسطيني وكل مضاعفاته في الجسد العربي، وخاصة الجسد اللبناني، إلى الجرح السوري الذي كان قد بدأ نزيفه منذ استلام سلطة القمع ودولة الرعب السلطة في دمشق، منذ السبعينيات، والذي تقيح كثيرا في دور هذه السلطة بالحرب اللبنانية، ثم عاد وانفجر في آذار 2011 فقط لأن شعبا حرا سمح لأحلامه بالصراخ، وصولا إلى جرح الدولة التي بناها (حزب الله) داخل الدولة اللبنانية متخفّياً بعباءة (الولي الفقيه) في إيران وذيلها الحاكم في دمشق.

كنا نعرف مع كتابات وشخصية إلياس أن هناك صوتاً عادلاً يواجه، بالفعل، وبالدراسات الأكاديمية، وبتقديم المحاضرات في الجامعات العالمية، وبالصحافة، كل القوى التي تحاول إخراس أصواتنا المطالبة بأوطان تسودها الحرية والعدالة والمساواة، وتحميها حرية الرأي وسيادة القانون، نعم كنا ندرك في مقالاته، ومقابلاته، ومحاضراته، وحتى سيرته التي بدأها بالانضمام إلى منظمة "فتح"، وأكملها بالدراسة الجامعية ومن ثم الحصول على الدكتوراه من السوربون، كنا ندرك هذا التفرد في الرؤية وفي طريقة تحليل ما يحصل لإنسان هذه المنطقة التي حكم عليها بالشنق بحبل أحلامها الطويل.

سلاماً من القلب إلى القلب الذي وقف مع دمنا المهدور، على خلاف العديد من المثقفين والكتاب اللبنانيين الذين كنا نعول عليهم في مصابنا. وسلامةً لنبضه ولقوة الحياة فيه، ولجرأته، وعمقه، وصدقه... وخلوداً للروائي الذي يسكنه، والشاعر الذي يطل من بين سطور الروايات، وحباً كبيراً بوسع الكون، لكل من سكن هذا القلب يوما، ولكل من حاول أن يزيح عنه بعضا من حمله، ولكل من وعدنا يوما بالعيش على ضفة أحلامنا، لا في قاع البحر، وحدنا، يأكلنا القرش، ولا ينقذنا أحد.

وألف تحية لكل قلم حر حرر فينا إنسانيتنا، وجوانب الجمال والعدل والحب فينا، وحمل معنا ما لا يحتمل.       

كلمات مفتاحية