إشكالية العلم السوري: معارك جانبية تافهة أم قضية محورية؟

2023.10.17 | 17:15 دمشق

إشكالية العلم السوري: معارك جانبية تافهة أم قضية محورية؟
+A
حجم الخط
-A

نجومٌ خماسية ملونة على قطعة من القماش بتصميمين متشابهين لدرجة الخلط بينهما لدى الناظر للمرة الأولى. لو أجرينا تجربة مع شخص أجنبي النشأة والثقافة، وغير متابع لأخبار الشرق الأوسط أو مهتم بثقافاته، فأريناه صورة علم المعارضة جنباً إلى جنب مع علم النظام، ثم أخفينا الصورة وطلبنا منه أن يرسمهما على ورقة أمامه فإنني أجزم أن احتمال خلطه بينهما كبير، إذ لا علامات فارقة في الخيارات اللونية، ولا رمز مختلف كالهلال أو الشمس أو التنين أو النخلة أو كلمات مكتوبة بحروفِ أبجديةٍ ما في أحدهما. ويمتد التشابه بين العلمين لشكلهما المستطيل وهو الأكثر استعمالاً في الأعلام ولكنه ليس الشكل الوحيد الممكن، وما علم سويسرا المربّع وعلم نيبال المؤلف من مثلثين إلا مثالين عن التنوع الممكن.

تشابه إلى حد التطابق كان من بين الأمور التي أفرزت إفشال المفاوضات بين المعارضة والنظام في آخر محاولة للجنة الدستورية في شهر آذار من العام الماضي. في وقت يعاني فيه الشعب السوري من الجوع والنزوح والتهجير لم يتمكن الطرفان من التوصل لاتفاق حول العلم والنشيد الوطني وأسلوب الإدارة والحكم، أي الخيار بين المركزية والفيدرالية. لا شك أن النظام قد أوفى بوعده وأغرق المعارضة بالتفاصيل حتى اختنقت كل محاولات التسوية السياسية وأصبح الملف السوري يتميز بالجمود والعطالة. تنص مقولة إنكليزية على أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وبتحوير طفيف للمعنى يمكننا القول إن هذا النظام المكيافيلي يعرف كيف يضغط على أوتار الثورة الشعبية الحساسة ويضع المعارضة المتأزمة أساساً في مأزق تمثيلي جديد، فكيف ستشرح وتبرّر لجماهيرها في المخيمات ودول اللجوء أنها في جنيف قبلت اعتماد العلم الذي رفرف فوق فروع الأمن ورُفع على نقاط التفتيش التي اعتقل لديها وعليها مئات آلاف المواطنين ليظهر بعضهم في صور قيصر لاحقاً، علماً وطنياً لسوريا، بعد كل التضحيات!! هذا العلم كان راية معلقة على الدبابات التي حاصرت الأحياء والمناطق السكنية وقصفتها، قبل أن يتم تهجير أهلها ومصادرة أملاك الكثيرين منهم؟! “الشيطان” لوَّح بهذا التفصيل ليكسب الوقت ويُشغل المعارضة لأنه يعلم أن العَلَم ليس من توافه الأمور والشكليّات وليس بالطبع مجرد خرقة قماش ملونة يمكن تجاوزها بسهولة.

النظام نفسه لا يشعر بشيء تجاه علم أو حتى شعب. إنه فقط يمتطي مشاعر مؤيديه، وهؤلاء أضحوا يرون البعبع الإسلاموي مقترناً بالنجوم الثلاثة الحمراء، ويتراءى لهم العلم التركي الأحمر بنجمته وهلاله في الأفق الشمالي يحمي ويبارك مظاهر الأسلمة ومحي النساء شبه التام من الساحات العامة. إنها ظاهرة الذكورية الأبوية السياسية المعاصرة. التعصب واضح لا شك فيه وتبني عدد من جهات المعارضة للمشروع الإسلامي يخيف العلمانيين وأبناء الأقليات، ومع استمرار ضخ وسائل الإعلام وأبواق النظام للدراما الدعائية التي تنذر بالكارثة والمجازر الطائفية ضد الأقليات وضياع الحريات الفردية وتقسيم سوريا تنفيذاً لمؤامرة صهيو-أميركية، يزداد نفور الموالي من علم الثورة والمعارضة. لا يحتمل رؤيته. لا يطيقه.

كم هما متشابهان شكلياً هذين العلمين اللذين تناوبا تاريخياً على تمثيل سوريا منذ عام 1932، وكم هو متسع الخندق الذي يفصلهما اليوم! ساحة النقاش مزروعة بالألغام المتفجرة. أيّ خطوة صبيانية طائشة وينفجر لغم في وجه من لم يدرك حساسية القضية ويفهم حيثيات الصراع الفعلي والرمزي. ويثبت تجدُّد النقاش حديثاً بين السوريين في داخل البلاد وخارجها مركزية مسألة العلم. ما أثار المشاعر سلباً أم إيجاباً هذه المرة هو ظهور العلمين مخاطَيْن معاً طولياً تحملهما سيدتان في أثناء تظاهرة شعبية في ساحة الكرامة بالسويداء. كما زاد الطين بلة صورة صبية يزيّن العلمان خدّيها وقد رسمت على الجبين بيرق جبل الدروز بألوانه الخمسة.

احتدم النقاش وعلّق الناس عل مواقع التواصل الاجتماعي. منهم من ذهب لوصف جمع العلمين بمحاولات متشنجة لربط ما لا يمكن ربطه، فلا يستوي الجلاد بالضحية، ولا يجوز تمييع القضية وتعويم النظام وتبرئته من جرائمه بهذه الطريقة. بينما رأى آخرون أن هذه دعوة للارتقاء فوق التفاصيل التافهة والسعي نحو المصالحة الوطنية، بكل بساطة.

دعونا نجري تجربة جديدة. هذه المرة لن نعرض صور أعلام على مواطن أجنبي، سنقعد نحن، أنا وأنت على كرسي العرض وننتظر. سيقوم مساعد بمسح الأعلام الثلاثة على وجه الصبية ورسم ثلاثة أعلام جديدة. ثم يسمح لنا برؤية وجهه الباسم مرة أخرى. سنرى علم إسرائيل على خدّ وعلم فلسطين على الخد الثاني وبيرق فصيل فلسطيني على جبينها، بماذا نشعر الآن؟ وهل نرحب بفكرتها الإبداعية لخلق السلام؟ هل علم إسرائيل مجرد تفصيل لا يستحق الوقوف عنده، أم أنه قارب على فقئ أعيننا وهو يرفرف على سفوح الجولان؟

ما يميز الإنسان عن دونه من الكائنات الحية هو قدرته على التجريد وخلق وفهم المنظومات الرمزية. من هنا حصل الفصيل البشري على لقب animal symbolicum. بعد وصفه بالمنتصب Homo erectus والعاقل Homo sapiens.

ينتمي الرمز إلى العالم المادي ولكنه يتجاوز وجوده الفيزيائي البسيط إلى بُعْد معنوي ويذوب البعدين معاً ليصبح الرمز حاملاً في ثناياه سلسلة معقدة وطويلة من الأحداث والظروف. العلم هو أكثر الرموز رفعة وحضوراً في الوعي الجمعي لأن دلالاته تلخّص ما يحتاج سرده وشرحه إلى مئات الكتب. قطعة قماش خفيف الوزن تشكّل ثقلاً في السياسة والتاريخ والجغرافيا والثقافة، تلخص كفاح ونضال شعب وبذلك يصبح للعلم قدسية كاللغة، لكونه جوهريا بالنسبة للهوية والانتماء. هذه المعاني اللاشعورية والعميقة المخزَّنة والمتراكمة عبر سنين هي سرّ عجز معظمنا عن تجاوز نقاش العلمين، رغم تسفيه البعض له. فالمسألة تتعلق بكيان وطن خلال قرن كامل من الزمن وتاريخ شعب ومأساته المعاصرة ومخاضاته وآلامه، وكذلك تطلعاته وآماله وأحلامه المستقبلية.

نحن أمام علم يمثل الاستبداد في مواجهة علم يمثل الحرية. أم أننا أمام علم يمثل الوطن في مواجهة علم يرمز للعمالة والزحف الإسلاموي السياسي والثقافي والقضاء على التعددية والتنوع؟ ليس ثمة حكم واحد أو موحّد بل يتبع الحكم موقف الناظر من القضية الوطنية ومكانه على إحدى طرفي الخندق. هناك أمر واحد مؤكد في هذه الأرض الضبابية المزروعة بالألغام والتي يستتر فيها المعنى وتُحجب الحقيقة ويكثر تراشق الاتهامات وتتشكل سرديات مختلفة للوطن والأمة والولاء والخيانة والحليف والعدو: هذا الأمر الوحيد الذي لا شك فيه هو قدرة العلمين على تحريك المشاعر القوية، وربما العنيفة في صفوف الجماهير.

نادراً ما يتم اختيار أو تبديل علم وطني في فترة استقرار، فالعلم الذي ظهر تاريخياً في ساحات المعارك للتمييز بين الموالي والعدو، وأرضنا وأرض الخصم، هو هدف تُرمى نحوه السهام ويسعى كل طرف لحيازته والدوس عليه أو حرقه إعلاناً عن انتصاره. تنتهي قصص حرب الأعلام في فترات تاريخية مصيرية وحاسمة بسيادة علم على آخر، أو الدمج بين ألوان ورموز علمين للتعبير عن تحالفات أو انتدابات كما حصل كمثال في الممالك الاسكندنافية القديمة، أو وضع أعلام حقبةٍ برمّتها في الأرشيف التاريخي وفتح صفحة زمن جديد. بعد إسقاط نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا لم يرد الشعب استعمال أعلام قديمة وطلب ممثلون عن السلطة الديمقراطية الجديدة من الناس اقتراح علم جديد للدولة. أكثر من 7000 تصميم وضع على الطاولة!! وحاز واحد على القبول في عام 1994 هو اليوم علم جنوب أفريقيا. ثمة محاولة اليوم لتجاوز النقاش السوري عبر خلق علم بديل من قبل الدكتور كمال اللبواني، وأرى أنه بذلك يقفز فوق مسار وطني ضروري ومهم ويستبق الأحداث. أي علم جديد في المرحلة الحالية سيضيع وسط الضجيج.

لا يمكن اختصار مسافات طويلة في مشوار شعب مهما تمنينا توفير الوقت والألم وإخراجه من صحراء التيه.

نقاشات العلم ليست ضياعاً في متاهات جانبية وتشتيتاً للتركيز والطاقات، بل هي برأيي خوضٌ في نقاط أساسية وجوهرية لا مفر من التفاوض عليها بشكل أو بآخر. ولعل ساحات التواصل الاجتماعي المكان الأكثر ملائمة لهذا النوع من القضايا التي ينبغي أن يدلي فيها كل منّا بدلوه. الخلاف على العلم ليس قضية ثانوية مؤجلة بل يتضمن القضايا الأساسية المستعجلة وتلخيصها المكثّف: أي وطن تريد؟ أي سوريا تقبل؟ هذا السؤال ليس عن الألوان ولا يحتمل التأجيل.