icon
التغطية الحية

"أنا البحر.. لآلئ العربية وأصدافها"

2023.05.07 | 07:20 دمشق

حجاوي
+A
حجم الخط
-A

من منا لم يعرف عارف حجاوي المعلم الحكّاء، الذي يسوق إليك عبر حكاياته ومحاوراته معارف متنوعة، وينتقل بك من باب إلى باب، دون أن يكون بينها رابط واضح سوى إيقاع الحكاية، وهو بهذا كأنما يتسكع مصطحبا إياك في منعرجات الطرقات، في بلدة قديمة، ما إن تنتهي من أرصفتها القديمة وشوارعها المرصوفة بالأحجار البازلتية، حتى تفاجئك بعمارة من القرن الحادي والعشرين، تتواشج فيها قضبان الألمنيوم والفولاذ بألواح الزجاج الملون، وأنت تنتقل عبر حكاياته التي لا تتوقف، من معارك الفرزدق وجرير، إلى حكايات السيدة الحديدية مارغريت تاتشر.

ولأن الرجل عاش ردحا من عمره في بريطانيا العظمى، وتشرب بلغتها وثقافتها، فهو إلى ولعه بالعربية واجتهاده المستمر في تبسيطها، وتقريبها وإحيائها ورد أبنائها إليها دون تقعر، ما يفتأ يسكب لك عصائر من ثقافات متنوعة، شيء من فقه اللغة وشيء من أصول الكلمات وتحريفها وشيء من المعرفة الحديثة المدهشة.

هل سمعته وهو يحدثك في برنامجه سيداتي سادتي، عن الكتاب الذي لم يجد له نظيراً وعن فتح جديد في فيزياء الخلية الحية، وعن علاقة الأسيتون بوعد بلفور، وعن البطاطا في المملكة المتحدة، وعن التاريخ والسياسة والإعلام... وعن شيء في نفسه؟

ومن المفارقات التي تلمسها بمعاشرة هذا الرجل الموسوعي الغني، أنه يجمع بين القدرة السلسة في الانتقال، من موضوع إلى آخر دون انقطاع، وبين قدرته على الجلوس صامتاً يصغي باهتمام غير متصنع، لحديث بعض من هم بمقام تلامذته، دون أن يشعرهم بملله.

وإنك لن تستطيع بسهولة الحديث عن كتاب لعارف حجاوي، دون أن تغرق بالحديث عنه وعن عاداته، فكأنه وما يكتب كيان واحد لا ينفصلان، والأمر كذلك فعلاً، فهو يوظف معارفه وقراءاته في عمله كمعلم للإعلاميين، وكحكاء لسائر متابعيه في برامجه التي يعدها ويقدمها وفي كتبه التي تزداد كل عام.

كتب الشاعر المصري حافظ إبراهيم:

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ       فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

وكتب الفلسطيني عارف حجاوي:

"أنا البحر.. لآلئ العربية وأصدافها". أو لنقل تسكعٌ في واحات اللغة العربية

بصحبة بحّار من خيرة البحارة، ينقلك عبر حكاياته أو موجاته من عمق إلى عمق ويسلمك من موجة إلى أخرى، وربما جاز بك القارات السبع في فصلٍ واحد.

تجد في فصول كتابه الجديد، لغتنا العربية العظيمة- أصول الكلمات- الأخطاء الشائعة- تعدد الصواب- عامي وفصيح- دقائق العربية.

يحدثنا في فصله الأول عن الكلمة التي تصنع الصورة لأن الأحرف العربية تشكل بتشابكها وحدة بصرية يلتقطها عقل القارئ دونما حاجة لتفكيكها، وهو يحكي لنا تجربته في حساب عدد أحرف نص لميكافيللي، كان قد ترجمه عن الإنجليزية إلى العربية، لقد كان النص الإنجليزي بحسب الحاسوب يقع في 100 كلمة، وإن النص العربي بلغ 49 كلمة. هذا والترجمة صحيحة ودقيقة ووافية. وهو دليل شيخنا الحجاوي على أن اللغة العربية يمكن أن تؤدي المعاني بإحكام ووضوح و"بإيجاز".

يصحبنا حجاوي، في هذا البحر الذي لن تجد له قرارا بين حكايات تاريخية ووقائع يومية طريفة ورحلات عابرة للقارات والقوميات والأعراق تقطعها الكلمات والعبارات لتكتسي معاني جديدة

يعرض لك عشرات الكلمات ويعود بك إلى أصولها ويكشف مختلفها ومتشابهها، فيغني بهذا ذخيرتك التعبيرية، ويقربك إلى فقه اللغة الذي كان إلى زمن قريب حكراً على المتخصصين. وهو إلى ولوعه بالعربية، يجد أهمية أن يكون المثقف أو الكاتب ملماً بأكثر من لغة، لما لذلك من تأثير واسع على تعدد مصادر المعارف واتساع مدى الرؤية، فهو يرى أننا نعيش عصر "اللغتين لكل لسان"، ولا يكاد مثقف عربي يستغنيِ عن الإنجليزية لاستكمال ثقافته.

وهكذا يمضي بنا عارف حجاوي في بحره هذا، متنقلا على "هدىً" لتتفق معه في نهاية المطاف أن الإلمام باللغة وتاريخ تشكل مفرداتها وتحولاتها، يغمرك بسحر جديد ومعرفة ماتعة، وهو على غنى فقراته وموضوعاته أشبه بكتاب "الكشكول" للبهاء العاملي "1622" الذي يحوي خليطا عجيبا من المعارف والحكايات، لكنك لا تمل قراءته ولا تشبع من حكاياته.

وفي أصول الكلمات يحملنا إلى أصل (أدوبي) شركة البرمجيات، و"المسطول والقبضاي والعونطجي، والمصير والمصران"، وعشرات الكلمات التي تعبر في كلماتنا وكتبنا، دون أن نعرف الأصل الغريب وربما الفريد لأصلها، وما مرت به من تحولات، ويدهشك في أصل أشهر كلمة في العالم، وهل فعلا توجد كلمة يمكن أن نقول عنها أشهر كلمة في العالم؟ نعم إنها كلمة أوكي أو أوكيه "ok"، ويعود بها إلى اختصار كلمة (Oll Korrekt) أي "كل شيء تمام"

لكن بعضهم فتح القاموس اليوناني، ووجد عبارة "أولّا كالّا" (olla kalla)، بمعنى كل شيء جيد، وظن نفسه عثر على منجم ذهب. وبعضهم بحث في لغات الهنود الحمر ووجد شيئا مشابها، ولكن، كل ذلك بلا دليل، وهذا فصل من الصعوبة بمكان تركه من يدك وانصرافك إلى شأن مختلف، لما هو ممتع وغني وقصير ومتنوع، فأنت تمضي به متنقلا بين عشرات الكلمات وأصولها وحكايات تكونها.

ويتوقف في فصل الأخطاء الشائعة ليرينا كم ضلت كلماتنا وجملنا عن أصولها العربية، وقد كتب عارف حجاوي موجزات للعاملين في التحرير الصحفي والتلفزيوني، ثبتاً بجمل متكررة ومألوفة لكنها من الأخطاء الشائعة. إلا أنه في هذا الباب تحديدا نجد الحجاوي فقيها لغويا مترخصا، يجذب إليك من هنا وهناك عشرات المخارج لتنجو من حكم شيوخ اللغة الصارمين، ولهذا جاء الفصل التالي للكتاب بعنوان "صواب وصواب"، فنحن نقول " يتَذكَّر ويذَّكَّر" ونقول "تعاونوا وتتعاونوا" و" تنازعوا وتتنازعوا" وجميع هذا صحيح وفصيح.

ثم ما يلبث أن يهمي عليك منه مطر، من العامي والفصيح، فيقرب الكلمة العامية إلى أصلها الفصيح، وربما اتخذت الكلمة في العامية معنى مختلفا، أو منزاحا قليلا عن أصلها الفصيح، لكن اللغة على سنة الأحياء تتكيف وتتبدل، وتتوسع وتختزل بحسب إيقاع بيئتها المتغيرة، فهي في النهاية نتاج بشري تتعاوره على مرِّ الأيام قوانين التطور والتحول والزوال والتغيير والتشوه، بخلاف من يرونها سفرا منزّلا.

وهكذا يصحبنا حجاوي، في هذا البحر الذي لن تجد له قرارا، بين حكايات تاريخية، ووقائع يومية طريفة، ورحلات عابرة للقارات والقوميات والأعراق، تقطعها الكلمات والعبارات لتكتسي معاني جديدة، أو تنزاح قليلا لتزداد غنى في المبنى والمعنى، ولا يمتنع عن دوره كمعلم ينبهنا عن الصحيح والخطأ وعن الصواب والصواب، وعن حصص موجزة في النحو الذي أجد مذهبه فيه، أقرب إلى مذهب الفيلسوف العراقي "علي الوردي"، الذي يرثي لتحميل الأجيال الشابة، عبء نحوٍ تقعري ومفرط في تخصصه، ولا يفيد منه الدارسون في غير علوم اللغة، فهو أشبه بتعليم فقه الزكاة لفقير مفرط في فقره، لا يكاد يجد قوت يومه.

كتاب أنا البحر، كشكول غني ومعاصر يمتع ويغني، ويضيف إلى ذائقة قارئه وذخيرته اللغوية والمعرفية، لطائف التفاصيل والمعاني، ولا يلزم قارئه بالتسلسل في قراءته، فأنت تستطيع القراءة في الصفحة الخمسين، ثم لا تلبث أن تنتقل عشر صفحات للأمام أو الخلف، دون أن تشعر أنك خرجت من هذا البستان الدانية قطافه. هل سمعت برجل يجمع إليك البحر بين دفتي كتاب؟ إنه عارف حجاوي الذي يذكرنا بالشيخ والبحر.