أميركا وسليماني والجهاديون: مؤامرات وأساطير!

2020.01.07 | 16:32 دمشق

images_3.jpg
+A
حجم الخط
-A

بينما ينشغل الجميع في أنحاء العالم بخطورة وأهمية تصفية الرجل الثاني في إيران الجنرال قاسم سليماني، يصر بعضنا على التعاطي مع الحدث بالطريقة السطحية نفسها التي يتم النظر من خلالها إلى الأحداث الكبيرة في العالم.

"المؤامرة" هي النظرية التي يلوذ بها هؤلاء في كل مرة للهرب من مواجهة استحقاق فهم القضايا السياسية، في عودة مستمرة ودائمة إلى طفولة الإنسان الأولى، عندما كان يلجأ إلى التبسيط والتسطيح بمواجهة ظواهر الطبيعة، فيعمد إلى إنتاج تفسيرات خرافية ينقذ من خلالها عجزه عن فهم الأسباب والنتائج.

"لقد تخلصت منه أميركا لأن دوره انتهى"!..

هذا هو التفسير الأكثر شيوعاً لدى هذه الفئة من الجمهور، وهو التفسير الذي يتكرر في كل مرة يجري فيها اغتيال أو قتل شخصية جدلية على مستوى العالم.

حدث ذلك بالأمس عندما قتل زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي، وقبل ذلك عند مقتل

يستدعي هذا التفسير بالضرورة أن يكون ضحايا عمليات الاغتيال هذه قد اختاروا بكل بساطة أن يتخلوا عن العيش بأمان وأن يوقفوا حيواتهم من أجل أميركا، بانتظار أن تقرر الأخيرة ساعة موتهم

أسامة بن لادن، وقبلها أيضاً مرات كثيرة، وسيتكرر التفسير ذاته على الأغلب لاحقاً عند كل حدث مشابه، لأن هذا النوع من التفسيرات يبدو مريحاً، ويعفي من بذل الجهد!

"أميركا هي من صنعتهم، وعندما انتهت مهمتهم تخلصت منهم"..

يستدعي هذا التفسير بالضرورة أن يكون ضحايا عمليات الاغتيال هذه قد اختاروا بكل بساطة أن يتخلوا عن العيش بأمان وأن يوقفوا حيواتهم من أجل أميركا، بانتظار أن تقرر الأخيرة ساعة موتهم.. هكذا بكل بساطة وكأنهم مجرد ريبوتات تم إنتاجه في معمل تقني!

يعني ما سبق بالضرورة أن أسامة بن لادن قرر التخلي عن ثروته الضخمة والعيش في ظروف بدائية وقاسية في الكهوف وبين الجبال، وأن يكون مهدداً بالموت في كل لحظة فقط من أجل خدمة أميركا، وليس من أجل فكرة كان يؤمن بها وهدف يسعى لتحقيقه..!

الأمر ذاته ينطبق على البغدادي، وغيره أيضاً من قادة التنظيمات المشابهة، الذين يقرر أصحاب نظرية المؤامرة أنهم فعلوا كل ما فعلوه وتعرضوا لكل ما تعرضوا له من أجل تحقيق مصالح الولايات المتحدة، رغم أنهم يعلمون أنها ستقتلهم في النهاية!

بالنسبة لقاسم سليماني، وباعتباره أحد أهم ركائز النظام الإيراني، يفترض هذا السيناريو أيضاً أن هذا النظام الخميني اختار أن تضيق عليه واشنطن الخناق على مدار أربعين سنة، وأن تفرض عليه العقوبات الاقتصادية المدمرة، وأن تطارد مصالحه في كل مكان، ثم تبدأ بقتل قادته، لا لشيء إلا لأنه صنيعة أميركا...!

بل إن هذه النظرية تفترض أن الولايات المتحدة هي من كانت تطلب من كل هؤلاء قتل مواطنيها واستهداف مصالحها وتنفيذ الهجمات ضدها واستنزاف اقتصادها، من أجل تحقيق أهداف لا تبدو واضحة، بل وكان بإمكان واشنطن أن تحققها من دون كل ذلك، طالما أنها -وأيضاً بحسب أصحاب نظرية المؤامرة والتفوق الأميركي الحاسم- تستطيع الوصول إلى ما تشاء متى تشاء!

المدهش هو هذا النزوع الواضح من قبل طيف كبير نحو الأسطرة والأسطرة المضادة في الوقت نفسه، فيغدو عندهم قاسم سليماني وبن لادن والبغدادي وصدام حسين وغيرهم أساطير، ثم عندما تقتلهم أميركا يعودون لأسطورة أن هؤلاء لم يكونوا سوى أدوات بيد (الأسطورة) أمريكا.. وهكذا في دورة من الفكر الخرافي التي لا تنتهي!.

والحقيقة فإن طبيعة العلاقة بين التنظيمات الجهادية والولايات المتحدة من جهة، وبين النظام الإيراني والولايات المتحدة من جهة ثانية، تعتبر إحدى أهم القضايا التي تخضع للأسطرة والاختزال بالنسبة لجزء غير يسير من العرب، الذين وبسبب عدم القدرة على مواجهة طبيعة هذه العلاقة أو حتى فهمها، يلجؤون إلى تفسيرات هذا النوع.

وكما يرفض هؤلاء فكرة أن التنظيمات الراديكالية السنية حقيقية وليست مجرد مجاميع مخابراتية (رغم اختراقها الاستخباراتي) وأن هذه التنظيمات تعتقد بضرورة تدمير قوة الولايات المتحدة كشرط لإسقاط أنظمة الحكم (الكافرة والمرتدة) وإقامة الدولة الإسلامية التي يتصورونها، ويستدلون على ذلك بتعاونهما والتقاء مصالحهم يوماً في محاربة الاتحاد السوفياتي السابق، على أنها مجرد تنظيمات وظيفية بشكل كامل، فإن أصحاب هذه النظرية يعتقدون أيضاً أن النظام الإيراني هو مجرد أداة بيد أميركا، بدليل استفادة كل منهما من الآخر في بعض الملفات، كالعراق مثلاً، وأن الأضرار التي يلحقها أحدهما بالآخر ليست سوى ألاعيب، مهما كانت مؤلمة وقاسية !.

لا يقبل هؤلاء بحقيقة أن إيران دولة تبحث عن بناء إمبراطورية قوية تسيطر من خلالها على المنطقة، وأنها تبذل جهوداً وتنفق ميزانيات كبيرة من أجل ذلك، وأنها بسبب هذا الطموح تواجه من قبل إسرائيل التي لا تقبل بنشوء قوة أخرى في الشرق الأوسط تكون منافسة لها، وكذلك من أميركا التي لن تقبل بأي تهديد لهيمنتها المطلقة على العالم من أي جهة كانت، سواء الصين أو روسيا أو إيران، بل وحتى أوروبا ذاتها، التي يعرف قادتها أن واشنطن تريد دولهم خاضعة لها بأقصى قدر ممكن.

دعنا نقر أن قتل قاسم سليمان مثل صدمة كبيرة ليس فقط للإيرانيين، بل وحتى لخصومهم من السنة العرب، الذين اعتادوا أن يتساءلوا في كل مرة: لماذا لا تستهدف أميركا التنظيمات الراديكالية الشيعية على الرغم من خطابها المعادي لأميركا وإسرائيل؟!

وأمام قتل شخصية بجحم وأهمية سليماني لم يجد هؤلاء

كل التنظيمات الجهادية السنية، ما كان لواشنطن أن تستهدفها لولا الهجمات التي نفذتها ضد أميركا والغرب

سوى الإصرار على نظريتهم المؤبدة، والقول "إنه تجاوز الحدود المرسومة له أميركياً" فكان لا بد من قتله...!

طبعاً وبغض النظر عن عدم توضيح تلك الحدود، إلا أن من الأهمية بمكان القول إن كل التنظيمات الجهادية السنية، ما كان لواشنطن أن تستهدفها لولا الهجمات التي نفذتها ضد أميركا والغرب، وإن هذه التنظيمات لو بقيت ألف سنة أخرى تقاتل وتقتل في حدود المجتمعات والدول الإسلامية لكان ذلك أدعى للفرجة عند أميركا، التي لا يمكن التصور وقتها أن تكون حزينة من جراء تأجيج نار الطائفية في المنطقة، هذه النار التي تشترك إيران في تسعيرها، والأمر نفسه ينطبق على الطرف الآخر، وبالتالي فإن إيران وكل الجماعات الشيعية المرتبطة بها ستكون هدفاً للولايات المتحدة فقط عندما تمس بمصالحها أو تقتل مواطنيها، وليس لأن أميركا مهتمة بالصراع السني الشيعي أو الوقف في صف هذا الطرف أو ذاك كما يتصور كثيرون.

في تعليقه على الضربات الأميركية الأخيرة يقول الكاتب اللبناني المعروف حازم صاغية: إذا ضربت أميركا تكون متهورة وخرقاء، وإذا لم تضرب تكون جبانة!.. وأضيف:

إذا ضربت أميركا فهي مؤامرة، وإذا لم تضرب فهي مؤامرة..!