icon
التغطية الحية

أسئلة الذاكرة والحنين في ألبوم "سماء وعرة" للموسيقي كنان العظمة

2021.04.01 | 17:11 دمشق

fa6c8e9d-bee5-431a-8509-a02cb39468ae.jpg
علاء رشيدي
+A
حجم الخط
-A

يمكن ترجمة (Uneven Sky) عنوان الألبوم الموسيقي الأخير للفنان (كنان العظمة)، بـ "سماء وعرة، سماء غير مستوية، أو سماء متقطعة". الأساس أن المرادفات كلها تتعلق بوصف العلاقة مع المنفى، والحنين والذاكرة، وهي الموضوعات الأكثر استلهاماً في المقطوعات الموسيقية التي يتشكل منها الألبوم، والتي عمل عليها المؤلف الموسيقي وعازف الكلارينيت (كنان العظمة)، خمسة عشر عاماً، لتكون محطة أساسية في مسيرته التأليفية والأدائية.

لذلك، يجمع هذا الألبوم أبرع المقطوعات التي قدمها على آلة الكلارينيت خلال مسيرته الفنية، وكذلك أحدث مؤلفاته الموسيقية التي تأخذ للمرة الأولى شكل المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية من حيث البنية والشكل الموسيقي. وقد مُنح الألبوم من قبل لجنة Opus الكلاسيكية الألمانية جائزة العمل الفني للعام 2019.

الألبوم يتألف من جزأين، الأول يضم ثلاثة أعمال موسيقية من تأليف كنان العظمة، والثاني يضم ثلاثة مؤلفات لموسيقيين سوريين مخضرمين، هم: ضياء السكري، زيد جبري، كريم رستم.

من أصوات هارلم إلى الأعراس التراثية:

العمل الأول من تأليف الفنان نفسه، يحمل عنوان: "متتالية لآلة منفردة وأوركسترا" (2008). يبين المؤلف أن غايته في هذه المقطوعة هو تحقيق التوازن بين الكتابة الموسيقية والارتجال، فيكتب عنها: "تتناوب هذه المقطوعة بين التأليف والارتجال، وذلك لاعتقادي بأن أفضل كتابة موسيقية هي تلك التي توحي بالعفوية والارتجال، وأن أفضل ارتجال هو ذلك الذي يمتلك البنية والتماسك".

تستلهم الحركات الثلاثة التي تتألف منها المقطوعة أماكن وذكريات محددة. الحركة الأولى تحمل عنوان (الحب عند شارع 139)، وهي تجسد بألحانها التنوع الثقافي في منطقة هارلم في نيويورك الذي يعيش فيها المؤلف منذ سنوات. وفي الحركة الثانية (22 نوفمبر) فإن المؤلف يعود إلى أصوات طفولته، أصوات الحارات والدكاكين المجاورة لبيت العائلة في دمشق. أما الحركة الثالثة (أعراس) فتبدأ بإيقاع هادئ لتتصاعد بترددات صوتية سريعة، لتأخذ المستمع إلى العوالم الصوتية للأعراس التقليدية التراثية في القرى السورية.

 

 

تعبيرات الشوق من الشعر الصوفي:

العمل الثاني من تأليفه أيضاً، يحمل عنوان (متتالية ابن عربي، 2013). وهو يتألف من ثلاث حركات، ويستلهم عالم الفيلسوف والشاعر الصوفي، محيي الدين بن عربي، فيغني الصوت السوبرانو في المقطوعة بأداء الفنانة (ديمة أورشو)، من قصائده، المقتطفات التالية:

"السماع منشأ الوجود،، فإن كل موجود يهتزّ.

كل مشهد لا يريك الكثرة في العين الواحدة لا يعول عليه.

كل حب يكون معه طلب، لا يعول عليه.

كل شوق يسكن باللقاء، لا يعول عليه".

 

الحركة الأولى: (Prelude، مقدمة أو افتتاحية موسيقية) تبدأ مع الآلات الوترية وخاصة حضور آلة التشيلو، لتنتقل إلى الجمل الخاصة بالكلارينيت، ومن ثم يظهر الصوت السوبرانو، الذي يتم التعامل معه على مستوى باعتباره واحداً من الآلات الموسيقية، في حين تردد عبارات الغناء الصوتي مقتطفات من شعر ابن عربي تتعلق بالوجود، بامتداد السماء، بالزمان.

الحركة الثانية: (Ricitation ، ترتيلة) هي أيضاً لأوركسترا وصوت إنساني، تردد خلاله الأبيات المذكورة أعلاه من نصوص ابن عربي، وتركز في غنائها على العبارة الأخيرة: "كل شوق يسكن باللقاء، لا يعول عليه".

وتأتي الحركة الأخيرة: (Postlude، ملحق ختامي) لتنسج اللحن بين الكلارينيت والوتريات، وتبرز آلة التشيلو في علاقتها مع الأوركسترا، لتنتهي القطعة على تناوب بين الصوت الإنساني والنفخيات.

نلاحظ من الأبيات المختارة من قصائد ابن عربي حضور موضوعة الشوق، فالحنين واحد من الموضوعات الطاغية في الألبوم. فالذاكرة استلهمت أصوات الأماكن في المقطوعة السابقة، وها هو الشعر يتحدث عن الشوق واللقاء، وهنا يمكن ذكر العبارات الافتتاحية في البروشور المرافق للألبوم، وهي مقتبسة من كتاب (تأملات في المنفى، إدوارد سعيد، 1984)، فيقتبس منه: "بالنسبة للمنفي، فإن عادات الحياة، الأنشطة، والتجارب الشعورية التي يعيشها في المجتمع الجديد تتحرك وتنشط بعكس الذاكرة المتعلقة بالمكان السابق-المكان الأصل الذي تركه المنفي. ومع ذلك، فإن العالمين القديم والجديد يبقيان فاعليين، مؤثرين، حيويين في ذهن المنفي في الآن عينه وبشكل متزامن".

العمل الثالث هو أحدث المؤلفات التي كتبها الفنان، وذلك في العام 2017، وهي بعنوان (السياج، سطح البيت والبحر البعيد)، وهي سوناتا لآلتي التشيلو والكلارينيت، تتألف من خمسة حركات: (استهلال، صدفة بحرية، مونولوج، رقصة، وخاتمة شعرية).

يشرح الفنان العظمة بأنه كتبها في بيروت، عام 2016، بينما كان يفكر بازدواجية شعوره بأن بلده قريب عليه, تبعد بيروت عن دمشق ساعتين من الزمن، لكنه لم يقم بزيارة وطنه منذ خمس سنوات، هي ازدواجية قرب الوطن لكن صعوبة الوصول إليه التي يعاني منها المنفي.

يكتب الفنان: "هذا العمل الموسيقي يعبر عن عشوائية ذاكرة الأفراد، وبالأدق هي مقطوعة تروي حكاية صديقين يحاولان استذكار تفاصيل الوطن، يستحضران الذكريات التي تتقافز في ذهنهما بعشوائية، ليكتشفا في نهاية التجربة أن أقوى الذكريات هي تلك الأكثر بساطة".

العمل الرابع كونشيرتو لآلة الكلارينيت والأوركسترا من تأليف (كريم رستم) يحمل عنوان: "الانجراف مع البحر الأسود" (2017)، وهو مستلهم من عملين أدبيين يفصل بينهما آلاف السنين، لكنهما يجتمعان في معالجة موضوعة الارتحال والتنقل. الأول (الأوديسة، هوميروس)، والثاني (الأمل أكثر قوةً من البحر، دعاء الزامل) وهو يوميات شابة سورية هاربة من الحرب، عبر قوارب الموت العابرة للبحر المتوسط.

يتضمن الكتاب تفاصيل الصراع من أجل البقاء، كما أنه يحتوي على لحظات من الأمل بمقدار ما تعكس صعوبة الرحلة بين الحياة والموت، في قارب حمل 500 شخص وانجرف مع مياه البحر، لينجو منهم فقط 11 شخصاً، كانت دعاء واحدة منهم. تم العثور عليها بعد خمسة أيام وهي تتهادى مع أمواج البحر، بعد أن رأت أمامها أجساد أقربائها وخطيبها يغرقون في البحر.

هذه التجربة هي التي استلهمها المؤلف كريم رستم في هذا الكونشرتو، والذي كتب عنه: "الكلارينيت يمثل شخصية أوديسيوس المهاجر، والأوركسترا تلعب دور البحر وكل العوائق التي تمنع أوديسيوس من العودة إلى الوطن".

تنتهي المقطوعة بلحن هادئ، يوحي بانسيابية مياه البحر. يصرح المؤلف بأنه أراد أن يوحي بها بوصول اللاجئ المرتحل إلى مكان الراحة، وربما لما بعد الموت، ذلك متروك لكل مستمع ليحدد رؤيته بشأن نهاية هذا الارتحال بين المنافي والأماكن. يكتب الناقد والموسيقي (علي موره لي) عن هذا الكونشرتو: "يقترب الكونشرتو من أن يكون عملاً أدبياً خالصاً؛ سبر أعماقٍ موسيقية، إسقاطاً شعرياً على أغوار النفس البشرية".

العمل التالي أيضاً كونشرتو لآلة كلارينيت وأوركسترا من تأليف (زيد جبري)، وهو من قطعة واحدة تنخرط فيها الأوركسترا بحركة أحادية مستمرة، لكنها تتضمن تعدداً في الأمزجة والعوالم، يتخللها أداء آلة الكلارينيت الفردي، لترد عليه الأوركسترا بالتصاعد نحو الذروة الموسيقية، لتبرز مجدداً ثنائية بين آلة البيانو وآلة الكلارينيت تنهي المقطوعة بما يشبه الجدلية الحوارية بينهما. أما العمل الأخير فهو للمؤلف (ضياء السكري 1938-2010)، ويحمل عنوان (كلام، كونيشرتو كلارينيت وأوركسترا، 2005)، ويتألف من ثلاث حركات: كلام الضباب للشمس، كلام الشجر للريح، كلام الصباح للزهر.

 

 

إن متابعة آراء وأفكار العظمة سواء تلك التي يقدمها في الحوارات الصحفية، أو في اللقاءات أو حتى في الشهادات النصية، يتلمس رؤى خاصة تتعلق بدور الفن لديه، فهو يكتب في هذا الخصوص: "ثمة مدرستان فكريتان أساسيتان فيما يتعلق بالفن ودور الفنان: تعتبر أولاهما أن واجب الفنان أن يعكس العالم من حوله. في حين تعتبر الثانية أن دور الفنان إعادة خلق العالم بشكل مثالي. لم أشعر يوماً بالانتماء إلى أي من هذين المعسكرين، ولطالما كانت فلسفتي الشخصية أننا نصنع الفن لنختبر المشاعر التي لا يتسنى لنا اختبارها في الحياة الواقعية".

الثورة ونظرة جديدة إلى الفن

كذلك يبين الفنان أن انتفاضة العام 2011، أكسبته نظرة مختلفة إلى الفن، فأصبح حاجة وأداة للتعبير عن الديمقراطية عن الرغبة في الحرية وعن الكرامة. ورغم قسوة التجربة السورية فإن الفنان يحث الجهود والمحاولات للتعبير بالفن عن هذه التجربة، ويعتبر أن التفاؤل ضرورة إبداعية للإنتاج: "التفاؤل واجب فلسفي يحفز على العمل". وفي اللقاء الذي عقده العام الماضي في الجامعة الأمريكية في بيروت ربط بين الفن والحرية، فاعتبر أن الفن ابتكار حر: "صنع الفن هو نوع من الحرية، فالابتكار هو عمل إبداعي يختبر الذهن عبره ممارسة الحرية".

لا شك أن مجموعة الآراء والأفكار الورادة سابقاً، هيأت للفنان كنان العظمة الإمكانات لينتج مقطوعات موسيقية تحمل أسئلة المرحلة السورية الحالية، من أسئلة المنفى، إلى العلاقة مع الذاكرة، والأماكن. وبهذا يكون قد افتتح إمكانات التعبير بالفن الموسيقي عن مفاهيم مستجدة في التجربة السورية، وقدم النموذج على إنتاج الأعمال الموسيقية القادرة على الكشف عن موضوعات جديدة ما يزال الفن السوري، وربما العالمي، يسعى لتجسيدها وإيجاد الأساليب الفنية الملائمة للتعبير عنها.