أزمة إسرائيل.. أبعد من عناد نتنياهو

2023.07.28 | 05:11 دمشق

آخر تحديث: 28.07.2023 | 05:11 دمشق

أزمة إسرائيل.. أبعد من عناد نتنياهو
+A
حجم الخط
-A

تمرُّ دولة الاحتلال بنقطة تحوُّل عميقة؛ نتيجة إصرار الائتلاف الحكومي على إقرار مجموعة من التعديلات القضائية التي من شأنها تعظيم صلاحيات الحكومة، على حساب المحكمة العليا؛ وقد نجح الائتلاف الحاكم، في تمرير "قانون المعقولية"، في الكنيست، ويهدف إلى الحدِّ من قدرة المحكمة العليا على إبطال قرارات من الحكومة والوزراء، إذا ما اعتبرتها اتُّخذِت «على أساس غير معقول».

والخلاف بين المعارضة الرافضة للانتقاص من صلاحيات المحكمة، والحكومة التي تعدُّ الأكثر تطرُّفًا في تاريخ إسرائيل، ناجم، إجرائيًّا، ودستوريًّا، عن تحديد الجهة المخوَّلة بإقرار هذا النوع من التعديلات العميقة التي تطول نظام الدولة، وسلطاتها: هل تكفي الأكثرية (أو حتى الأكثرية البسيطة، كتلك التي تحقَّقت في الكنيست، مؤخَّرًا) للتصديق عليها، أم أنها تفتقر إلى توافق أوسع، يتجاوز أعضاء الحكومة والكنيست إلى عموم الشعب، وأحزابه، ونُخَبه؟

مع إصرار المعارضة على خطوط حُمْرٍ ثابتة تستبقي التوازن بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية. 

وهذه الفجوة الدستورية تعود إلى خلوّ إسرائيل من دستور، أساسًا، يفصّل آليَّات، تتعلق بأساس القوانين. ولأسباب سياسية، وشخصية، وأيديولوجية، تقاطعت فيها، إرادة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، مع أجندات الأحزاب الدينية المتطرفة، يعمد هؤلاء إلى استغلال هذه الفجوة الدستورية، بالمغالطة، أو بالتعسُّف، حين يقولون: إن الديمقراطية حكم الأغلبية، وإننا نملك الحق في التعديل، لأننا أغلبية برلمانية منتخَبة من الشعب؛ فلا يحق للمعترضين عليه الرفض والتمرُّد؛ وهنا يسوّي نتنياهو وائتلافُه بين هذا التعديل الأساسي، وأيِّ قانون فرعي.

 ومشروع القانون هذا يُعْلِي أعضاء الحكومة والحكومة بأكملها فوق المراجعة القضائية، فيما يتعلَّق بأيِّ تعيين يقومون به، بغضِّ النظر عن مدى تهوُّرهم، أو تحيُّزهم.

هدّد أكثر من 1100 جندي من قوات الاحتياط في سلاح الجو الإسرائيلي بينهم طيَّارون بتعليق الخدمة التطوعية، وما يستتبعه ذلك من مخاوف تفكُّك الجيش، وإلحاق ضرر فادح بالأمن

وقد ظلَّ نتنياهو مُصِرًّا على تمرير القانون، مرجِّحًا، اعتبارات الحفاظ على ائتلافه، من الانهيار، وإطلاق مزيد من العِنان للحكومة، فيما يتعلق بسياسات داخلية، وفي المتعلِّق بالدور الاحتلالي الاستيطاني، بالإضافة إلى طموحاته بطوق نجاة من الملاحقة القضائية التي تهدِّد مستقبله السياسي. يبدو مصرًّا، على مواجهة شكلين من أشكال التحدّي الداخلي، هما المظاهرات والإضرابات والاحتجاجات الواسعة النطاق، (وما يعنيه هذا من التسبُّب في  شرخ مجتمعي يصعب جَسْرُه، حتى الاقتراب من حافّة حرب أهلية)، بما فيها إرباك الحياة اليومية والخدمات الحيوية، والثاني رفض الخدمة العسكرية، إذ هدّد أكثر من 1100 جندي من قوات الاحتياط في سلاح الجو الإسرائيلي بينهم طيَّارون بتعليق الخدمة التطوعية، وما يستتبعه ذلك من مخاوف تفكُّك الجيش، وإلحاق ضرر فادح بالأمن، بالإضافة إلى مخاوف التداعيات الاقتصادية؛ إذ سبق لوكالة "موديز"، إحدى أهم وكالات التصنيف الائتماني في العالم، أن حذَرت من الأضرار التي قد تُلحقها خطة حكومة نتنياهو لإضعاف جهاز القضاء، بالاقتصاد الإسرائيلي. وجاء في بيان الوكالة أن "الإصلاحات المقترحة قد تُضعِف المؤسسات، ويكون لها تأثير سلبي على التصنيف الائتماني لإسرائيل". مضيفًا أنه "على المدى الطويل، قد تضرُّ التغييرات القضائية بإمكانيات النموِّ القوية لإسرائيل، وتزيد من المخاطر الجيوسياسية".

وجّه اثنان من السفراء الأميركيين السابقين في إسرائيل الدعوة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن، لتقليص المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل

هذا فضلًا عن انعكاسات هذه التغييرات، وفي مثل هذه الظروف الداخلية غير المؤاتية، بالمرَّة، على صورة إسرائيل، في العالم، كدولة ديمقراطية، وانعكاسات ذلك على علاقتها بالولايات المتحدة، حيث القلق المتزايد من دعوات أميركية، لوقف أو تقليص الدعم الأميركي لإسرائيل، التي تلتزم بها الإدارات المتعاقبة تجاه دولة الاحتلال. إذ وجّه اثنان من السفراء الأميركيين السابقين في إسرائيل الدعوة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن، لتقليص المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل. وفي مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز»، قال دان كرتسر ومارتن إنديك: إن العلاقات بين البلدين ستكون أفضل إذا لم تكن قائمة على الاعتماد الاقتصادي. هذه الدعوات التي لا تأتي من خصوم إسرائيل، في الإدارة الأميركية أو الكونغرس، كما ذكرت مصادر لصحيفة هآرتس، بل إنها تشمل أيضًا عددًا من القيادات اليهودية في الولايات المتحدة.

يقع هذا، برغم موقف بايدن الذاهب إلى أنه "ليس من المنطقي المُضيُّ قدُمًا في التشريع بشكله الحالي، بالنظر إلى حجم التهديدات والتحديات التي تواجهها إسرائيل، ويتوجَّب على قادة إسرائيل التركيز على توحيد الجميع من أجل تحقيق إجماع واسع".

وبعد تصويت الكنيست الإسرائيلي لمصلحة إقرار القانون، وصَف مسؤول كبير في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض الأمر بأنه مؤسف، وأكّدت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيار موقف إدارة بادين؛ بأن التغييرات الرئيسية في الديمقراطية يجب أن تحظى بإجماع واسع، قدر الإمكان، مرجِّحةً أن تستمر المحادثات، خلال الأسابيع والأشهر المقبلة؛ للتوصل إلى حلٍّ وسط أوسع.

ويعدُّ إقرار هذا القانون، بداية لتعديلات أخرى، ستفجّر مزيدًا من الخلافات والمواجهات، وبرغم دعوة نتنياهو خصومه السياسيين إلى الحوار، فإن الشرخ وقع؛ لأن هذا الإقرار، تمّ بالإكراه، والإقصاء، وهو ما يعزِّز الاحتقان، ويفاقم التوجُّس المجتمعي، وأجواء عدم الثقة، حتى الوصول إلى اتهامات بتدبير انقلاب، كما جاء على لسان الجنرال غرشون هكوهن، عضو مجلس «الأمنيين» اليميني المقرب من نتنياهو، إذ خرج بتحذير شديد اللهجة من انقلاب عسكري يدبِّره سياسيو المعارضة مع بعض القيادات العسكرية.

واللازمة التي لا يكفُّ المعارضون عنها، بمن فيهم ضباط وجنود في الجيش، أن هذه التغييرات التي تضعف الديمقراطية، وتزيد من صلاحيات الحكومة، على حساب القضاء والمساءلة، (حتى الاقتراب من الحُكْم الدكتاتوري) تفصلهم شعوريًّا عن هذه الدولة، وأنهم تبَعًا لذلك، غير مستعدِّين للتضحية بأرواحهم، بعد ذلك، من أجلها.

وهذا يحيلنا، مرَّة أخرى، إلى الخطر الأمني، في وقت ليس عاديًّا، أو هادئًا، إذ التوتُّرات في الضفة الغربية المحتلة، وخطر المواجهة القائم مع غزة، وكذلك التوترات الحدودية مع لبنان، وحزب الله، بالإضافة إلى خطر مُضِيّ إيران في برنامجها النووي.

وليس بعيدًا عن أزمة إسرائيل الراهنة الأساسُ الذي قامت عليه، وهو الاحتلال، وما تطلَّبه من هُوية غير نهائية؛ وسَطية، قادرة على تأليف اليهود الصهاينة وتأليبهم، للتوطُّن فيها، (على تبايُناتهم الفكرية والثقافية) وَفق قواسم مشتركة، لكن اليوم ترجِّح كفَّة اليمين الديني؛ مستفيدةً من أغلبية في الكنسيت، غير آبهةٍ بالمكوِّنات الصهيونية المغايرة، نحو قومية علمانية، وهذه اللحظة السانحة هي التي تغري أمثال المتطرّف، إيتمار بن غفير، باقتناصها؛ لتوطيد حكم اليمين، في الدولة والمجتمع. 

وأخيرا، إن هذه التحوُّلات المتعجِّلة، وغير التوافقية، ستثير التصدُّعات المجتمعية، بعد أن كانت كامنة، إذ لم يكن المجتمع قبلها متوحِّدًا متجانسًا، بما يكفي، فهذه التغييرات ستظهر وتفعِّل تلك التصدُّعات التي كانت مؤجَّلة، أو مهمَّشة؛ بفعل الشعور بالتهديدات الأمنية الوجودية، واليوم، لم تعد تلك التهديدات قادرة على لجْمها.