icon
التغطية الحية

"أخو الحفيانة"..صراع بين أحذية الحضارة وأقدام الطبيعة

2024.03.24 | 08:10 دمشق

آخر تحديث: 28.03.2024 | 06:41 دمشق

jhfyyb
جزء من لوحة امرأة حافية القدمين لـ جيوفاني سيبرياني
+A
حجم الخط
-A

أحد زملاء الدراسة الجامعية كانت تراوده كوابيس غريبة، منها أن يكون جالسا في محاضرة وينظر إلى أسفل ساقيه، فيفاجأ بأنه نسي ارتداء حذائه وأصبح حافي القدمين. يحدثنا ذلك الزميل بإسهاب عن تفاصيل الآلام النفسية وخشيته من افتضاح أمره إذا ما نظر بقية الزملاء إلى قدميه.

تبدأ معاناته بعد انتهاء المحاضرة وخروج الطلاب من المدرج، حيث كان حريصا بأن يكون آخر طالب يترك مقعده، وعند باب المدرج الخالي من الطلاب يتلصص على الممر، فإذا رأى زملاءه ما يزالون في الممرات، كان يعود إلى مقعده خائبا. يكرر المحاولة بعد بضع دقائق، فيجد عدد الطلاب يزداد في الممرات، ليصل به الحال في نهاية المطاف إلى أن ينام داخل المدرج.

شعوره بالخزي والعار يثير استغرابي، لأن المشي حافيا لا يعتبر عيبا في الأرياف، حتى كبار السن يمارسونه، فأثناء سقاية الأرض غالبا ما يكونون حفاة، إضافة إلى أن عملية عجن الوحل في أثناء بناء البيوت الطينية تكون بقدمين عاريتين من كل مخلّفات الحضارة كالأحذية والجوارب. وزميلي كان ينحدر من قرية وادعة مطلة على نهر الفرات.

وبما أنني أنا الآخر أنحدر من منطقة تقع على أطراف البادية الشامية، فقد جربت هذه الرياضة قبل تعلّمي القراءة والكتابة؛ متعة لا تضاهيها متعة أن تمشي حافيا في الأراضي المنبسطة حيث لا طائر يطير ولا وحش يسير.

يروى أن "اعتماد الرُميكية" زوجة حاكم إشبيلية المعتمد بن عباد، اشتاقت إلى أيامها الأولى حين كانت جارية تعجن الوحل بقدميها الحافيتين، وهذا لا يتناسب مع هيبة السلطان. فأمر المعتمد أن يُسحَق لها الطيب ويُمزج مع ماء الورد في باحة القصر حتى يغدو كالطين، فتعجنه بقدميها.

في أواخر حياتهما، بعد نفيهما من قبل المرابطين إلى المغرب، وزوال أُبْهَة الملك والغنى ورغد العيش، قالت له في لحظة غضب: "والله ما رأيتُ يوماً منك خيراً قط!". فأجابها: "ولا يوم الطين؟"، يوم حفاء الأقدام في ظل السلطان العظيم، ويا لها من ذكرى خالدة في العقل والوجدان رغم بساطتها، فكل الملذات والسهرات ومجالس الشعراء والغناء ذهبت، وعلقت هذه اللحظة في ذاكرتهما المرهقة.

***

كلما طرق ذاكرتي حلم صديقي، أتعجّب من عدم إدراكه لذة المشي حافيا. بحثت كثيرا عن كتب أو مقالات تتحدث عن ذلك "الطقس"، وبكل أسف، لم أجد ما يساعدني على التمحيص والبحث في هذه السعادة الغامرة التي تنتاب المشّائين الحفاة.

بعد مرور سنوات على حلم صديقي البائس، قرأت مقالةً للإعلامي فيصل القاسم يسرد قصته مع بنطال جينز جديد اشتراه بعد فترة طويلة من الاعتماد على الملابس المستعملة. تمزق ذلك البنطال في منطقة الركبة بعد سقوطه في حفرة، ما جعله يعاني من الإحراج الشديد. وهنا يتخيل القاسم لو أن صرعات الموضة الحديثة كانت سائدة حينذاك، كم ستوفر عليه من المعاناة وزيارة راقعي الملابس المهترئة (الرتائين)، حيث أصبحت البناطيل الممزقة موضة رائجة، وأصبحت صرعات الموضة تستخدم عذابات الفقراء في زينة الأغنياء.

لو امتلك زميلي -صاحب الحلم عينه- ملكة الكتابة كما امتلكها القاسم، لكان بمقدوره أن يصف لنا مشاعره المضطربة وهلوساته الليلية المتكررة.

لاحقا، عثرت على مدونة لشاب حمصي يتحدث فيها عن تبسيط الحياة، تضمنت مقالة يتيمة عن المشي حافيا. لم ترو المدونة ظمئي لهذه الرياضة الغريبة، فتابعت البحث في دهاليز وغياهب الإنترنت عن كل ما كتب حول الموضوع في المحتوى الأجنبي لأكتشف أن هذا الطقس من المشي معروف منذ زمن سقراط، الفيلسوف الإغريقي الذي اشتُهر به!

كان الفلاسفة يعتبرون ذلك الطقس نوعا من التأمل؛ فالشخص الذي يمشي حافيًا يكون حذرًا من المكان الذي يخطو فيه، خوفاً من الدعس على ما يؤذيه. هذا المعنى وجِد أيضا في إحدى محاضرات المعلم الروحي إيكارت تول، فهو يفسر سر السعادة الغامرة لممارسي رياضات خطرة، كتسلق الجبال على سبيل المثال، بأن تركيز ممارس الرياضة يكون على أشده فأي خطأ قد يودي بالحياة فتكون الحواس والذهن منصرفين عن كل المشتتات باستثناء اللحظة الحالية.

ولدنا حفاة، وسنغادر الحياة حفاة أيضا، وبين الولادة والموت نعقد هذه الحياة كما يقول كوزان إيكيو: "خالي الوفاض دخلت العالم، حافيًا أغادره. مجيئي، رحيلي حدثان بسيطان. تشابكا في مسار الحياة". إضافة إلى ذلك، خاضت بعض المؤلَّفات في محاولات تفسير كثرة تعرضنا للإصابات أثناء الجري رغم استخدامنا لأفضل وأجود الماركات العالمية للأحذية الرياضية بخلاف أجدادنا الحفاة.

"وُلد لكي يركض"، الفكرة الأساسية لهذا الكتاب تتمحور حول أن البشر هم أفضل عدائي المسافات الطويلة، وذلك لامتلاكهم إمكانيات بيولوجية تميزهم عن الأحياء الأخرى، فالتعرق يمنع ارتفاع درجة حرارة الجسم أثناء الجري، كما أن الحركة على ساقين توفر للإنسان توازناً أفضل.

أما كتابا "ممارسة الرياضة " و"علم الجسد"، فإنهما يبحثان في طرق بديلة عن الركض والمشي تكون أكثر سلامة وأمانا، فقد ثبت أن الطريقة التقليدية حيث نهبط على الكعب أولاً، هي المسبب الرئيسي للإصابات، لأن الصدمة تنتقل مباشرةً إلى الركبتين والمفاصل.

الطريقة المقترحة الجديدة التي يؤكد عليها الكتابان هي محاولة تقليد طريقة المشي والركض حافيا من خلال الهبوط على الجزء الأمامي من القدم أو منتصف القدم، مما يوزع الضغط بشكل أكثر توازنا على القدم، ويقلل من الضغط على المفاصل. ويقوي عضلات الساق ويحسن سرعة الجري.

***

طبعا لا تخلو هذه الكتب من بهارات درامية بزيارات مكوكية لقرى نائية منسية لم تصلها مخالب الحضارة، ومقارنة طرق مشيهم وركضهم بطرقنا التي شوهتها الأحذية المريحة، تمهيدا للوصول إلى الاكتشاف الخطير وهو أن نقلد الحفاة بطريقة جريهم.

الاستنتاج البديهي لقارئ هذه الكتب هو أن نمشي حفاة، على الأقل في مسارات آمنة وملاعب مخصصة، إلا أن حضارة التسليع ترفض هذا الاستنتاج المنطقي البسيط، لتستخدم هذه الكتب بنصائح لاستخدام الأحذية العارية، أو ما يُعرف بـ "بيرفوت، "Barefoot، وتعلم تقنيات المشي الحديثة، وتغييب نصيحة المشي والركض حفاة، بدون تقنيات وبدون أحذية خاصة وبدون شراء وقراءة تلك الكتب المصنفة من بين "الأعلى مبيعا" في العالم.

تساءلت: ما سبب غياب فكرة العودة إلى الطبيعة وضرورة اتصال الإنسان الحافي بأمنا الأرض، التي جئنا منها حفاة عراة وإليها نعود بذات الهيئة ولو بعد حين؟

لم أجد إلا حلم زميلي الذي كان يتملكه شعور العار والانتقاص الاجتماعي والاحتقار من حالة "الحافي/ أخو الحفيانة"، فالبشرية تعاني من التصنّع المؤذي؛ كمعاناة حديثي النعمة الذين تقع على كاهلهم أعباء الالتزام ببروتوكولات ليست من طبعهم ولم يتربوا عليها فتراهم مأزومين، مضطربين، مشتتين ومتناقضين.

ثم، ألم يستمع أولئك إلى المطرب العراقي الشهير كاظم الساهر وهو يغني ما جاء في قصيدة الشاعر (الدمشقي) نزار قباني: "قاتلتي.. ترقص حافية القدمين"؟