icon
التغطية الحية

أحاديث ثقافية.. مهرجان الرقة وعبد النبي حجازي

2020.11.06 | 09:32 دمشق

1-492-660x330.jpg
إسطنبول - خطيب بدلة
+A
حجم الخط
-A

حينما أتحدث عن نفسي بضمير المتكلم، لا أرى داعياً لاستخدام عبارات التواضع، من قبيل: أخوكم، أو كاتب هذه الأسطر، أو محسوبكم، أو خدام الطيبين.. فـ (أنا) إنسان متواضع بطبيعة الحال، ولو أردت أن أكون متعجرفاً لما استطعت، فالتخلق بخلق حقير في هذا السن المتأخر غير ممكن، أضف إلى ذلك أنني لا أمتلك مقومات الغرور والعجرفة.

(أنا)، دخلت عالم الكتابة في سنة 1978. بدأتُ بكتابة زوايا صحفية بطريقة حكائية ساخرة، وأنشرها في جريدة تشرين. كان يدير القسم الثقافي بتشرين آنذاك الصحفي اللامع المحترم تميم دعبول. ينشر تميم على صفحته الفيسبوكية، في هذه الأيام، بحثاً متسلسلاً جديراً بالقراءة يوثق لمرحلة طويلة وصاخبة عنوانُه "شاهد على الصحافة السورية".. وقد سرني، بالمناسبة، نبأ شفائه من السرطان، بعد أن زرع له أطباء كنديون كبد شاب كندي توفي بحادث سير، وكان الشاب قد أوصى بالاستفادة من أعضائه في حال وفاته.

صديقي من أيام العسكرية، الشاعر حسان عزت، كان يتابع كتاباتي في تشرين، ونصحني بكتابة القصة القصيرة، قائلاً إن الكتابات الصحفية المتفرقة لا تصنع اسماً، فالمرء يُعْرَفُ من خلال كونه شاعراً، أو روائياً، أو قاصاً، أو كاتباً مسرحياً. اقتنعت طبعاً، وكتبت قصتي القصيرة الأولى، بعنوان "قرص الفاليوم" 1983.

اشتغلت في بناء تلك القصة بتأن، وجلد، وأذكر أنني أعدت كتابتها وتنقيحها خمسين مرة!.. كتبتها وأنا خائف، أريد أن أعطي صورة لمن سيقرؤها بأنني متمكن، وعندي مهارات تقترب من مستوى "المعلمية" التي تشبه معلمية أساتذتي الكبار أمثال حسيب كيالي وعبد السلام العجيلي وسعيد حورانية وشوقي بغدادي وزكريا تامر! تنتمي القصة، بالطبع، إلى "الواقعية الاشتراكية" التي كانت، في تلك الأيام، ضاربة أطنابَها في الأدب، وفيها، أيضاً، نوع من الفانتازيا، إذ يرى بطلُ القصة في حلم يقظته أنه يتشاجر مع رب العمل، ويلقي عليه، بحضور الإخوة العمال، خطبةً وطنية نارية! (شيء مضحك يجعلني أتساءل، الآن: أنا أيش علاقتي بالعمل والعمال وآلات التصنيع وهذا العلاك؟).

لم تكن لدي فكرة عن أوساط الأدباء والمثقفين والفنانين، ولكن الحظ ابتسم لي، في تلك السنة (1983)، حين أقام اتحاد الكتاب العرب، بالتعاون مع اتحاد الشبيبة، مهرجاناً للشعر والقصة القصيرة في مدينة الرقة، ودعيت للمشاركة فيه..

قد يظن بعض القراء أنني كنت على علاقة باتحاد شبيبة الثورة. الحقيقة، لا، ولكنهم، يومها، كانوا يبحثون (بالفتيل السراج) عن أي كاتب في نطاق محافظة إدلب ليشارك باسمهم في مهرجان الرقة، حتى ولو كان رصيده الأدبي ربع قصيدة، أو نصف قصة قصيرة، لأن اتحاد الشبيبة المركزي كان قد طلب من فروع الشبيبة بالمحافظات أن يرسلوا عدداً محدداً من المشاركين إلى مهرجان الرقة، وإدلب، يومها، كانت فقيرة بالكتاب، كما كانت منذ الأزل.

(ملاحظة: هناك، في الرقة، طلبوا منا ملء استمارات لمصلحة الشبيبة، فيها بند اسمه "الرقم الشبيبي"، وكان معظم المشاركين مثلي، ليسوا أعضاء في الشبيبة، فوقعنا في حيص بيص.. أذكر أنني ذهبت إلى المسؤولة المرافقة لوفد إدلب، وسألتها عن الأرقام الشبيبية، على مستوى سورية، كم عددهم؟ فقالت: أكثر من 200 ألف، فشكرتها، وعدت إلى حيث يجلس الأصدقاء، وقلت لهم إنني حللت مشكلة الرقم الشبيبي، إذ اخترعت رقماً هو (127817)! وصار الأصدقاء يطلبون مني أن أقترح عليهم أرقاماً، فقلت: اكتب رقم 127 ألف، وحط فوقه اللي بيطلع من خاطرك)!

أفادني حضوري ذلك المهرجانَ بأشياء كثيرة. عرفتُ خلاله، عن قرب، الأدباء الشباب الذين سيكبرون لاحقاً، بنسب متفاوتة، ويصبحون مشهورين في عالم الأدب والفن والصحافة مثل حاتم علي، وصبحي دسوقي، وحسين درويش، وميسون شقير، وعبد النبي التلاوي، ومحمد وليد المصري (الذي قتله أحد براميل ابن حافظ الأسد لاحقاً)، والفلسطيني عبد الله عيسى، وآخرين.. وكذلك التقيت بأدباء مشهورين مثل علي خلقي، وفايز خضور، وقمر كيلاني، وعبد الله أبو هيف، وعبد النبي حجازي، ومحمد أبو معتوق، وكوليت خوري، وعبد النبي صطيف، وإبراهيم الجرادي، وحسام الخطيب. (صار معظمهم أصدقائي منذ ذلك التاريخ).

كان رئيس لجنة التحكيم للقصة القصيرة في المهرجان الأديب السوري المعروف عبد النبي حجازي، وهو من مواليد مدينة جيرود 1938، له ست روايات، ومجموعتان قصصيتان، وكتاب في السيرة الذاتية، إضافة لمسلسلات تلفزيونية أشهرها الهراس، إخراج علا كوكش، وهجرة القلوب إلى القلوب، إخراج هيثم حقي.. وعبد النبي رجل حسن السمعة عند معارضي النظام، وفي الوقت نفسه كان مقرباً من السلطة بشكل كبير، بدليل أنه تسلم أكثر من منصب رفيع، كرئاسة تحرير صحيفة اتحاد الكتاب العرب "الأسبوع الأدبي"، والمنصب الأكبر، المديرية العامة لهيئة الإذاعة والتلفزيون.

في ذلك المهرجان وجه الشاعر فايز خضور انتقاداً لاذعاً لعبد النبي وبقية أعضاء لجنة تحكيم القصة القصيرة لأنهم أعطوا الجائزة الأولى لحسن حميد، في حين كان ثمة نصوص متميزة أكثر منها بكثير، كقصة حاتم علي مثلاً وقصتي. وقد عرفنا، من بعد، أن حسن حميد مقرب من عبد النبي جداً، وقد عهد إليه بوظيفة مهمة في "الأسبوع الأدبي" التي تأسست بعد المهرجان بزمن قصير.

بعد سنتين، في سنة 1985، أقيم المهرجان نفسه، في حلب، وشاركت فيه، وفازت قصتي "عودة قاسم ناصيف الحق" المرتبة الأولى، ولكنني الآن أنظر إلى تلك المشاركات على أنها نوع من العبث، وحقيقة أنني أقلعت عن المشاركة في أية مسابقة أدبية، لأنني، خلال عشر سنوات تقريباً، أصبحت كاتباً معروفاً (ملاحظة: أن تكون معروفاً ليس دليل أهمية)، وتولد لدي اعتقاد أن المسابقات يجب أن تخصص للناشئين، وليس للكتاب البالغين الراشدين!

وأعود إلى الأديب عبد النبي حجازي، فقد جمعتني به الظروف، بعد مهرجان الرقة مرتين، في الأسبوع الأدبي حيث نشر لي مواد كثيرة، ثم في التلفزيون سنة 1995، حينما تقدمت بسيناريو فيلم "العاشق" المأخوذ عن قصة للكاتب الحلبي الرائع أديب النحوي عنوانها القشرة واللب منشورة ضمن مجموعته "مقصد العاصي"، وكان لعبد النبي موقف لا ينسى، وهو الذي سأرويه لكم في خاتمة هذا الحديث.

كان التلفزيون، في تلك الأيام، يدفع ثمن الفيلم حوالي 40 ألف ليرة سورية، تكون نسبة السيناريست 90% من إجمالي المبلغ، و10% تدفع لصاحب النص الأصلي. الأستاذ عبد النبي يحب أديب النحوي، ويعرف قيمته الأدبية، لذلك أعطى توجيهاً لمديرية الإنتاج بأن تدفع للسيناريست (أنا) المبلغ المستحق بموجب القانون (36 ألف ليرة)، وللأستاذ أديب النحوي مبلغ 75 ألف ليرة، بوصفها أجراً رمزياً، تقديرياً.

ملاحظة أولى: أنتج فيلم "العاشق" بعد سنتين من شرائه، بطولة فارس الحلو وجيهان عبد العظيم، إخراج حسن عويتي، وشارك في مهرجان القاهرة 1998، وحصل على الجائزة الذهبية للأفلام التلفزيونية.

ملاحظة ثانية: توفي عبد النبي حجازي سنة 2013. رحمه الله.

كلمات مفتاحية