أبناء البطّة السوداء

2022.04.12 | 08:11 دمشق

ga-730x438.jpg
+A
حجم الخط
-A

صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان بسبب جرائم الحرب التي ارتكبتها في أوكرانيا، وقد كان التصويت لصالح القرار بفارق شاسع 93 صوتًا مقابل 24 صوتًا، ويُذكر في هذا الصدد أنّ روسيا صوتت دومًا لصالح نظام الأسد في مجلس حقوق الإنسان، وطلبت من الدول التابعة لها الأمر ذاته، ولعلّ هذا الخبر يثلج صدور المناهضين لروسيا وعلى رأسهم السوريون الذين عانوا الويلات من دعمها النظام السوريّ، حيث لم تتورّع عن مؤازرة الأسد في قتل السوريين، بالإضافة إلى استخدامها حقّ الفيتو لنقض كلّ قرار يُتّخذ ضدّ الأسد أو يندّد بجرائمه المستمرّة منذ عام 2011 بحقّ السوريين.

في وقت سابق أثارت مقاطع مصوّرة لشوارع في بلدة "بوتشا" ممتلئة بجثث المدنيين عقب انسحاب الجنود الروس منها، وبالرغم من نفي روسيا مسؤولية قواتها عن فعل كهذا، أثارت صور تلك الجثث حملة من استنكار دولية ودعواتٍ من قِبل دول وأطراف عديدة لتشديد العقوبات على روسيا وردعها عن عدوانها.

لا ريب أنّ قرارًا كهذا يثلج صدورنا كسوريين؛ إذ شكّل ضربة لروسيا التي لم تتوقف عن عدوانها على السوريين؛ إلّا أنه يبدو محزنًا من جانب آخر وكاشفًا لزيف إنسانية العالم المتحضّر وانتقائيّتها، فقرار الإدانة هذا أتى بعد فترة قصيرة من شنّ النظام الروسيّ حربه الظالمة على أوكرانيا، في حين أن قراراً كهذا لم يُتّخذ رغم مرور ما يزيد على عقدٍ من الزمن على الحرب التي شنها نظام الأسد بمؤازرة حليفه الروسيّ على الشعب السوريّ.

لو كان المجتمع الدوليّ والحلفاء صادقين في وعودهم ولا تعتري إنسانيتهم نوبات من الخلل؛ لأوقفوا مجازر فظيعة حدثت في أماكن أخرى من العالم

 في الوقت الذي توالت فيه ردود الفعل العالميّة الغاضبة على العدوان الروسيّ على أوكرانيا، أدرك الأوكرانيون أنّ ردود الفعل تلك لن تنفعهم أو تمنع العدوان عنهم ما دامت لا تتخطّى حدود التصريحات ولا تتجاوزها إلى مرحلة الفعل الجاد، وهذا الإدراك للحقيقة المرّة لم يثنيهم عن المضيّ قدمًا في خوض المعركة والاتكال على أنفسهم، فلو كان المجتمع الدوليّ والحلفاء صادقين في وعودهم ولا يعتري إنسانيتهم نوبات من الخلل؛ لأوقفوا مجازر فظيعة حدثت في أماكن أخرى من العالم، بحسب تصريح الرئيس (زيلينسكي): "كان مفترضًا أن تتوقف المذابح في سوريا والصومال واليمن وليبيا قبل زمن بعيد، لأننا إن عاقبنا طاغيةً فإنّ جميع الطغاة سيرتدعون".

نعم! كان من المفترض أن يحدث ذلك قبل زمن طويل، لكنه يبقى مجرّد افتراض، وصور الجثث التي دفعت الجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت لصالح تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان بسبب جرائم الحرب التي ارتكبتها في أوكرانيا؛ لم يتمّ التأكّد من صحّتها بحسب من صوّتوا ضدّ القرار أو امتنعوا عن التصويت، فالتحقيقات ما تزال جارية بخصوص جرائم الحرب التي ما تزال مجرّد افتراضٍ بنظرهم، وقرار تعليق عضوية روسيا سيقوّض صدقيّة مجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة، ويظهر ما وصفوه بالنفاق الغربي ونزعاتهم الانتقائية بشأن حقوق الإنسان.

إذاً؛ الصور والأدلّة بحسب تبرير هؤلاء لعدم تصويتهم غير كافية ليحكموا بأنها جرائم ضدّ الإنسانية! وهنا يخطر لنا أن نسأل: ما هو الحدّ أو المنسوب الذي يجب أن يبلغه العنف والإجرام الذي يمارسه طرف ما بحقّ الآخر ليرقى إلى مستوى التوصيف بأنه جرائم ضدّ الإنسانية أوّلًا، ثمّ إدانتها في مرحلة تالية والمطالبة بإيقافها؟

هل يحتاج الأوكرانيون أن يحدث لهم ما حدث للسوريين؛ أن تُرتكب بحقهم مئات المجازر، وتُباد مدنهم وقراهم بالأسلحة الكيماوية، وأن يغيّب آلاف منهم في المعتقلات ويقضون تحت آلة التعذيب الوحشية التي لم تعد تقتصر على مشاهدات بعض الأفراد وشهاداتهم؛ بل سرّب "قيصر" صورًا وثقت آثار التعذيب الوحشي ورماها في وجه العالم المتحضّر كدليل لا يمكن إنكاره أو التشكيك به، ومع هذا دفن العالم بعد فترة قصيرة رأسه في التراب كنعامة هربًا من المواجهة والعمل على إيقاف الانتهاكات والجرائم الوحشية المستمرة بحقّ شعبٍ أعزل، بالإضافة إلى آلاف الصور والمشاهد المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي التي توثق موت السوريين المعلن منذ ما يزيد على عقد من الزمن، ومع هذا وذاك لم تكفِ تلك المجازر ليتحرّك ضمير العالم المتحضّر ويصدر قرارًا كهذا يردع روسيا عن دعمها نظام الأسد المجرم عن المقتلة التي لم يتوقّف عن ممارستها بحقّ السوريين، فمنذ أيام قليلة فقط حصدت الطائرات الروسيّة المجرمة أرواح أطفال بريئة كانوا في طريقهم إلى مدارسهم.

إنّ ازدواجيّة المعايير أو النفاق في التعامل مع القضايا الإنسانيّة ليس حكرًا على الغرب المتحضّر الذي نهاجمه في كلّ مناسبة، ففي كلّ مكان من العالم تحضر ثنائيّة أبناء البطة السوداء والبيضاء، ولعلّنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إننا لا نكاد نجد مجتمعًا ذا خلفيّة حضارية تاريخية إلّا وله من هذه الآفة نصيب؛ لذا آن لنا أن نتعلم من تجارب سابقة أننا لسنا مشمولين بهذه القوانين الإنسانية معظمها ولا بالتعاطف إلا بالحد الأدنى، ما دام هذا التعاطف لا يتعارض مع مصلحة ما لواحدة من تلك الدول؛ علينا أن ندرك أننا كسوريين ومثلنا دول عربية أخرى تعاني ما نعانيه لسنا مشمولين بتغطيتهم الإنسانية، ولا تمتد إلينا شبكات الضمير العالمي.

يدعم الغرب أنظمة مستبدة تؤدي دورها كخادم مطيع تحت ستار التحالفات والمصالح الاستراتيجية، ويأتي نظام الأسد على رأسها والذي بقي بمنأىً عن المحاسبة وعصيًا على التغيير

قد يفرح السوريون بلا ريب بقرارٍ كهذا؛ لكنهم في الوقت نفسه سيعودون مجددًا لسؤال أنفسهم عن السبب الذي حال دون اتخاذ قرار كهذا لصالحهم، المؤلم فعلًا أن تسأل نفسك سؤالًا تعلم جوابه؛ فالأمر برمّته يمكن ردّه إلى قاعدة المصالح المشتركة؛ إذ لا تتعامل دول الغرب مع بعضها بعضًا بنفس طريقة تعاملها مع بلدان العالم الثاني والثالث؛ فالجانب الإنسانيّ لدى الغرب الذي تربط دوله روابط مشتركة ترتكز على القومية والعرق والدين؛ يُعدّ عاملًا أساسيًا ومحرّكًا للرأي العام في تلك الدول، لكن الأمر يصبح مختلفًا عند الحديث عن السياسات الخارجية والتعامل مع كوارث وأزمات البلدان الواقعة في جزء آخر بعيد عنها، لكن هناك مصالح مشتركة ومتبادلة مع تلك البلدان؛ فتضطرّ في بعض الأحيان إلى غضّ الطرف عن بعض الممارسات غير المقبولة لتلك الدول؛ لأنّ اهتمامها سينصبّ على حماية مصالحها، ولن ترى غضاضة في ذلك أو تعدّه نفاقًا، بل ربّما ستنسب إدانتها وشجبها لتلك الممارسات إلى التدخّل السافر في الشؤون الداخلية لتلك الدول، وهذا ما يمكن اعتباره وفق القانون الدوليّ خروجًا عن المعاهدات الدولية التي تنصّ عليها معاهدات ومواثيق الأمم المتحدة.

بمثل هذا المنطق يدعم الغرب أنظمة مستبدة تؤدي دورها كخادم مطيع تحت ستار التحالفات والمصالح الاستراتيجية، ويأتي نظام الأسد على رأسها والذي بقي بمنأىً عن المحاسبة وعصيًا على التغيير؛ إذ صرحت دول كثيرة أنه لا يوجد بديل له، وكانت تقصد ذلك بالفعل، فالحفاظ على أمن إسرائيل يأتي في سلّم أولويات تلك الدول، من أين سيأتي الغرب بمثل هذا الجار الذي يستحق لقب الحمل الوديع بجدارة، وأن يجرّد من لقبه الأصليّ لأنه فضفاضٌ وأكبر من مقاسه بكثير؛ اللهمّ إلّا في قتل شعبه والتنكيل به فهو أسدٌ ووحشٌ كاسرُ لا يشقّ له غبار.

سيبقى السوريون في نظر أنفسهم وفي نظر العالم أبناء البطة السوداء، وستستمر الانتهاكات من قِبل النظام المجرم وحليفه الروسيّ العتيد، في الوقت نفسه تفشل كلّ النخب التي تدّعي تمثيلنا، وكذلك المجتمع الدولي الذي يزعم تمثيل الإنسانية، عن اتخاذ قرار يصبّ في مصلحة السوريين ويشعرهم بتعاطف العالم معهم ومع قضيّتهم، فربما يمنحهم ذلك بعض الأمل ويدفعهم لمواصلة ما بدؤوه قبل ما يزيد على عقدٍ من الزمن محاذرين من ارتكاب الأخطاء التي أفضت بهم إلى طريق مسدود.