آفاق العدالة في سوريا

2020.02.12 | 14:57 دمشق

31ipj8.jpg.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما عاناه السوريون من مظالم ولا يزالون.. يستحق فعلًا لا قولًا تشكيل محكمة خاصة لتحقيق الحد الأدنى من العدالة للسوريين من نظام مارس بحقهم شتى صنوف التعذيب والإهانات والقتل بمختلف صنوف الأسلحة وصولاً إلى استخدام السلاح الكيماوي ولأكثر من مرة، لكن عنجهية روسيا بنظامها المافيوي الديكتاتوري لم تكتفِ بمنع إصدار قرار على مستوى الأمم المتحدة يدين نظام العائلة الأسدي القاتل، بل تدخلت عسكريًا وبشكل مباشر لتشارك في قتل السوريين، حيث يصبح من الطبيعي جدًا بالنسبة لها في ظل تخبط وتردد الإدارة الأميركية ألا تسمح بإحالة قضية السوريين ومظالمهم إلى محكمة الجنايات أو العدل الدولية أو السماح بتشكيل آلية لمحاكمة مجرمي النظام من خلال مؤسسات الأمم المتحدة.

ما جرى مؤخرًا في أواخر الشهر الماضي، وتحديدًا في 23 كانون الثاني/ يناير، حيث أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي، وهي الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة، أمرًا بالقضية التي قدمتها غامبيا (وهي جمهورية أفريقية صغيرة تحولت نحو الديمقراطية منذ ثلاثة أعوام) ضد جمهورية ميانمار بشأن الانتهاكات التي ارتكبتها بحق المسلمين على أساس ديني في ولاية راخين، بموجب اتفاقية حظر الإبادة الجماعية، التي تجرمها المحكمة المذكورة. وبعد مداولات طالت من تشرين الأول/ أكتوبر وهو تاريخ تقديم غامبيا بتفويض من منظمة المؤتمر الإسلامي طلبها إلى المحكمة وردود ميانمار التي رفضت هذا الاتهام، واعتمادًا على تقرير البعثة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان  في شهر آب/ أغسطس 2019، والتي أكدت أن ميانمار تتحمل المسؤولية كدولة بموجب اتفاقية حظر الإبادة الجماعية، وأن ميانمار سواء تحت إشرافها أو بيد سلطاتها مباشرة مارست الضرب والتعذيب والاضطهاد الجنسي والحرمان من الغذاء والمأوى، مما أقنع المحكمة برفض حجج ميانمار، وبالتالي دراسة القضية والوصول إلى قرار أو أمر يقضي بأن تقوم ميانمار بمنع جميع الأفعال التي تدخل في نطاق المادة الثانية من هذه الاتفاقية (اتفاقية منع  الإبادة الجماعية)، وقررت بالإجماع أنه يتوجب على ميانمار ألا ترتكب قواتها النظامية أو أي قوات تخضع

في سوريا، مورست أشكال القتل كافة، من الحصار والتجويع بغرض الإخضاع، والاعتقالات والممارسات الشنيعة بحق المعتقلين والمعتقلات من قتل وتعذيب واغتصاب وحرق وغيره من الصنوف المذلة بحق البشر

لسيطرتها أو نفوذها أعمالًا تقع ضمن توصيف الإبادة الجماعية، أو تأمر بها أو تحرض عليها. وطالبتها بالاجماع أيضًا باتخاذ تدابير لمنع إتلاف الأدلة والحفاظ عليها، وأن تقدم تقريرًا إلى المحكمة بشأن جميع التدابير المتخذة لتنفيذ هذا الأمر في غضون أربعة أشهر، ومن ثم دوريًا كل ستة أشهر، ريثما تأخذ المحكمة القرار النهائي.

في سوريا، مورست أشكال القتل كافة، من الحصار والتجويع بغرض الإخضاع، والاعتقالات والممارسات الشنيعة بحق المعتقلين والمعتقلات من قتل وتعذيب واغتصاب وحرق وغيره من الصنوف المذلة بحق البشر، إلى عمليات القتل المباشر بمختلف الأسلحة البرية والجوية، تلك العمليات التي سببت عمليات تهجير جماعية واسعة لم يشهد التاريخ مثيلًا لها في التاريخ، توزع فيها السوريون عبر مختلف دول العالم، وأكثرهم في الدول المحيطة مثل تركيا والأردن ولبنان، وفي أوروبا، حيث استوعبت ألمانيا الحصة الأكبر، ناهيك عن المهجرين في الداخل، والأعداد في كلا المجموعتين بالملايين. ومن بين المهجرين، كثير من المعتقلين الذين شهدوا مختلف صنوف التعذيب بقصد القتل، ناهيك عن عمليات الاغتصاب المؤكدة بحق النساء والرجال، وما الصور التي هربها المصور الشجاع "قيصر" والتي تمكنت من خلالها مجموعات مدافعة عن حقوق الإنسان بالتعاون مع أعضاء من الكونغرس الأميركي من إصدار قانون قيصر الذي يفرض مزيدًا من العقوبات على النظام السوري وداعميه، هذا القانون الذي يمكن أن يستخدم كعامل قوي في الدفع نحو محاكمة مجرمي النظام وداعميه. والأمر الثاني، المهجرون في دول الجوار وما تركوه من آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية على الدول المضيفة، ولكون أن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (ومنها النظام الأسدي) يُعتبرون أعضاء في محكمة العدل الدولية حسب المادة الثالثة من ميثاق المحكمة، ولكون الدول وحدها من يحق له رفع الدعاوي أمام هذه المحكمة، يمكن لهذه الدول اعتمادًا على هذا الوجود الكثيف للمهجرين في دولهم وما تتحمله هذه الدول جراءه الاستفادة من الروايات والوثائق والشهود لرفع دعاوى ضد مجرمي النظام في تلك المحكمة.

يمكن للأردن ولتركيا بحكم الوجود الكثيف للسوريين فيهما، هذا إن استثنينا لبنان بسبب موقف حكومتها الخاضع لنفوذ طرف قاتل ضد السوريين، إضافة لألمانيا التي استوعبت أكثر من 700 ألف سوري أن تقوم برفع مثل هذه الدعوى، فضلاً عن أي دولة أخرى. فتجربة غامبيا في رفع دعوتها ضد ميانمار وهما من قارتين مختلفتين، والتي أثمرت في النهاية تشكل سابقة إيجابية في ملاحقة مجرمي الحرب، ومنهم نظام العائلة الأسدية، كما أنها تجربة مشجعة للسوريين من خلال المنظمات الحقوقية المهتمة بقضايا العدالة والمساءلة كي تدفع بهذا الاتجاه، فمحاكمة مجرمي الحرب في سوريا ضرورة لا بد منها لإرساء قواعد المصالحة والبدء في عملية سلام حقيقي ولو بعد حين، بغض النظر عن المآلات الحالية للثورة.