«الكابوس» يدير الإعلام الشعبي في الشمال المحرر

2022.04.18 | 11:53 دمشق

download.jpg
+A
حجم الخط
-A

شهدت وسائل الإعلام التي واكبت الثورة السورية تقلبات عديدة وسريعة خلال السنوات الإحدى عشرة الماضية. ومن المثير مراقبة هذه التحولات بالتوازي مع الأوضاع العامة للبلد. فمن المعروف أن صفحات الفيس بوك كانت المنصة الأبرز التي تولت نقل أخبار الثورة ومقاطعها المصورة، بالتضافر مع اليوتيوب، بشكل مركزي خلال الأشهر، وربما الأعوام، المبكرة الأولى. قبل أن تشهد الساحة طفرة في إنشاء القنوات التلفزيونية المعارضة، في فضاءٍ كان الخطاب فيه يتوجه إلى عموم السوريين لإدخالهم في السجال الدائر بين أنصار الثورة وخصومها ومتجنبي الانحياز، حثاً لهم على اتخاذ موقف يؤيدها بشكل أو بآخر. وفي مقابل هذه القنوات، المركزية والتي تبث من الخارج طبعاً، اهتم الناشطون المحليون بإصدار صحف، موضعية في الغالب، تستفيد من مناخ خلخلة السيطرة الأمنية وتقدّم لمواطنيها أخبار مناطقهم، وشهدائهم ومعتقليهم، بشكل مفصّل. وقد تناغم هذا النشاط، بشكل مطّرد، مع تداعي خدمات الكهرباء والإنترنت، أو قطعها، في البلدات الثائرة أو المحاصرة. وما ليس معروفاً على نطاق واسع هو أن التجارب الصحفية الورقية بلغت المئات في ذروتها، قبل أن تتعثر نتيجة ظروف متعددة، أمنية ومالية ورغبة في مواكبة سريعة للتطورات.

شاع مصطلح «المواطن الصحفي» للتعبير عن آلاف الشبان والشابات الذين زجّت بهم الثورة في غمار عمل لم يكن ضمن مخططاتهم غالباً

واستجابة لجمهور غير مغرم بالقراءة في الأصل تنامت أفكار إنشاء إذاعات محلية محدودة البث، مع بداية ظهور مناطق محررة واسعة ومفتوحة على منافذ حدودية تحت السيطرة بهذا القدر أو ذاك لاستيراد المعدات وتلقي التدريب. وهنا شاع مصطلح «المواطن الصحفي» للتعبير عن آلاف الشبان والشابات الذين زجّت بهم الثورة في غمار عمل لم يكن ضمن مخططاتهم غالباً. وها هم يعبرون الحدود؛ من الشمال إلى تركيا، ومن الجنوب إلى الأردن، ومن حمص والقلمون ودمشق وريفها إلى لبنان، فيخضعون لدورات سريعة في الأوليات المتعددة للإعلام، ويتلقون الدعم لمشاريعهم الورقية والإذاعية. ومع اضطرار بعض هذه المؤسسات الوليدة إلى الهجرة، نتيجة ظروف الملاحقة أو البحث عن بنية تحتية مستقرة مواتية للعمل؛ بدأ الصحافيون الثوريون يتلقون ما هو أبعد من الألف باء، ودخلت إلى بيئتهم مفاهيم التحقق ونبذ عبارات التحريض وخطاب الكراهية، مما لا يمكن للداعم الغربي التساهل فيه. ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا كان أحد أسباب تراجع شعبية وسائل الإعلام هذه وسط جمهور كانت الكراهية تسمّمه يوماً بعد يوم فيما يتلقى البراميل المتفجرة على رأسه. وضمن أسباب مركّبة كثيرة تراجعت الصحف المحلية حتى لم يبق منها الآن سوى بضع جرائد ومجلات تكافح للصدور بانتظام. وكان طريق الإذاعات إلى الانهيار أسرع إلا في حالات نادرة. أما القنوات الفضائية فقد تعثرت التمويلات المرتجلة لأكثرها فأغلقت أبوابها.

وخلال سنوات إسعافية ليست قصيرة، ومتفاوتة المدة باختلاف المناطق، صارت «القبضة» اللاسلكية هي الوسيلة التي لم يكد يخلو منها بيت، طالما أن «الإعلام» المطلوب هو ما يحافظ على الحياة مباشرة، أي ما تبثه «المراصد» عن حركة الطيران الحربي والمروحي باتجاه المناطق التي يسارع أهلها إلى اتخاذ ما تيسر من احتياطات. وفي أوقات الهدوء لم يستنكف بعض رجال المراصد المحلية من إذاعة خبر عن مفقود أو ضائع أو مسروقات. وفي بعض الحالات قدّموا ما يشبه نشرة أخبار، دون تأهيل يُذكر.

وانحسر دور المراصد مع تراجع العمليات الحربية التي أسفرت عن تآكل مساحة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بشكل مريع، واكتظاظ الشمال بملايين يقيمون في المخيمات أو في مساكن غير مناسبة. وقد تعاضد هذا مع ضعف الكهرباء العامة وغلاء بدائلها ليقصيا أداتين؛ التلفزيون واللابتوب، ويعليا من شأن الموبايل كجهاز تلقٍّ، وأحياناً بث. وقد عمد إعلاميو المناطق المحررة، المواطنون الصحفيون وقد خضرمتهم التجارب بهذا القدر أو ذاك، إلى تنظيم أنفسهم في مواقع إخبارية على الإنترنت مرتبطة بصفحة على الفيس بوك هي مدخلها الرئيسي. فيما تنامت «وسائل الإعلام الرديف» المتشكل من قنوات إخبارية مجهولة، اتخذت من التلغرام موطناً رئيسياً لها بسبب ضعف الرقابة عليه، وخاضت معاركها يميناً وشمالاً دون أي معايير إعلامية أو أخلاقية. وفي أجواء الاحتقان والفراغ وانسداد الأفق، والبحث المحموم عن الأعداء الداخليين المفترضين المسؤولين عن كل هذا الخراب؛ شغلت هذه القنوات الصدارة.

ليس من الضروري أن تتخذ القناة اسم «الكابوس» لكنه الأشيع بينها: «كابوس الثورة»؛ «كابوس الهيئة»؛ «كابوس اعزاز»؛ «كابوس جرابلس»؛ «كابوس تل رفعت»... إلخ. ولا يشترط أن يسمّي القائم عليها نفسه بلقب «مزمجر» ولكنه وارد كتعبير مناسب عن الغضب الضاري. الأخبار المفضّلة لديها هي «سرقات» منظمات الإغاثة و«اختلاسات» مديري المخيمات، و«خيانة» الفصائل وتواطؤها مع النظام أو مع قوات سوريا الديمقراطية أو مع هيئة تحرير الشام... إلخ، في سبيل جمع الأموال التي تتحول إلى مزارع، وشركات خاصة، ومخدرات، وموائد، وسهرات حمراء. وفي سبيل هذا يفتح صاحب القناة بابه لتلقي الرسائل وتبنيها، فتتطاير الاتهامات العامة والشخصية دون حاجة إلى تقديم دليل جاد، طالما أن المدّعي من «المظلومين» الذين تنبري القناة لنصرتهم. ويأتي كل هذا بلغة مكسّرة تتخللها شتائم جنسية دون تحفظ.

رغم استخدامها لغة الشارع العامية بأرذل تعبيراتها فإن مضمون الموقف الذي تتخذه هذه القنوات متشدد وذكوري

أما «السبق» الذي تحققه قناة على أخرى فهو مشهد وجبة معتبرة يتناولها مدير إحدى المنظمات، أو مقطع عري تبثه مع أسماء، على ذمتها، لمن يظهر أو تظهر فيه، وما يصاحب ذلك من تعميم الدياثة على أبناء المنطقة التي يُفترض أن صاحبة المقطع منها إن لم يبادروا إلى «حسابها». ورغم استخدامها لغة الشارع العامية بأرذل تعبيراتها فإن مضمون الموقف الذي تتخذه هذه القنوات متشدد وذكوري على العموم، فهي تعيب على هيئة تحرير الشام ظهور فتيات بحجاب متساهل نسبياً في شوارع إدلب، داعية إلى إحياء «الحسبة». ورغم عدم التزامها بمنهج سوى العدمية الفضائحية، إلا أن هذه القنوات تبدي تعاطفاً مع داعش، لا عن قناعة ولكن لأنها تجد فيها أقصى درجات العدوانية في مواجهة العالم.