مجازر إدلب وموت السوريين

2020.01.02 | 16:47 دمشق

emqsw_cwsaiz-3r.jpeg
+A
حجم الخط
-A

كأنما الموتُ قد أصبح كائناً مثلنا. مخلوقاً ما، بمواصفات خلقية ما. مخلوقاً يعرفُنا ـ نحن السوريين ـ أكثر من معرفته بغيرنا من البشر. كأنما الموت يحاول إجبارنا على أشياء كثيرة ننكرها؛ على رأسها الاعتراف به، وبـ "عاديَّته" وتلقائيته.

الموت كان دائماً "شيئاً طبيعياً" في حياة كل البشر. لم ينكره أحدٌ يوماً. لكن جميع البشر تعاملوا معه، في مختلف العصور، بكونه شيئاً لا يخصهم هم، قدر ما يخص "الآخرين غيرهم"، ويختص بهم. أما نحن السوريين، فيبدو أنه ـ أي الموت ـ ظل يلح على مبدأ أنْ نُقِرَّه كواقع يخصنا نحن فقط، دون الآخرين، وأن نعترف به كشيء "هو لنا" دون العالمين.

وسواءٌ كان البشر، منذ نزوعاتهم الأولى، يُلِحُّون على التوكيد دوماً، بأن الحياة "حلوة"، أو هي شيء يندرج تحت مضامين هذه الحلاوة، فإن الموت السوري، أو الموت ذا الطبيعة الخاصة بالسوريين، لا يحاول أن ينتزع منا معرفتنا القديمة به، بل الأصوب أنه يُمَحِّصُها من جديد، ويعيد النظر والتدقيق فيها، ويوجهها بطريقته. الموت له أساليبه الخاصة في التبصير والترشيد، وهو ينتزع منا اعترافنا به، كسوريين، انتزاعاً فظاً أحياناً، ورفيقاً سهلاً أحياناً أخرى.

الآخرون يتصرفون مع الموت، على أنه شيء يمكن إنكاره مؤقتاً. إنه شيء " يسمعون بأخباره، لا أكثر". أو هو شيء " يتفرجون عليه، وليس غير". أما معنا، كسوريين، فهو دائماً في واقع إلحاح وإرغام لنا؛ إننا " نحن وحدنا أخباره"، لا غيرنا، وإننا نحن من يجب أن يعيشه ويتمثله، بل وأن نتذوق طعمه، صباح مساء، مهما كان مريراً. بكونه هو وصفة الحياة الوحيدة المقررة لنا حصةً، والمعدة لنا نصيباً.

الحياة التي تمَّ الاعتراف بها، منذ بداية نشأة الخليقة الإنسانية، بأنها شيءٌ ممتعٌ، بطريقة ما لا يُدرَى ما هي، ولا يُدرى أيضاً كيف تمَّ التوافق على هذا الانطباع الجماعي العام تُجاهها. مع ذلك، فإن الموتَ يريد منا كسوريين، أن نحدث تغييراً وتقييماً جديداً، تقييماً يحقق بأنه، هو وحده المخصوص لنا، لا للآخرين. هذه معضلة تقنية. يدرك الموت، وندرك كسوريين، أننا على الدوام، إنما نبذل جهداً في تفكيكها، ومحاولة صياغتها لتجاوزها، وتجليتها في حلة جديدة، بصورة مستمرة.

موت السوريين إذن ليس موتاً عادياً. ليس موتاً بشرياً روتينياً ورتيباً مثل موت الآخرين. بل لعل له خصوصيات، وما علينا إلا إعادة اكتشاف تلك الخصائص "الموتية" السورية

موت السوريين إذن ليس موتاً عادياً. ليس موتاً بشرياً روتينياً ورتيباً مثل موت الآخرين. بل لعل له خصوصيات، وما علينا إلا إعادة اكتشاف تلك الخصائص "الموتية" السورية.. وأبرزها بشكل عام؛ النسيان أو التغاضي عن الموت نفسه، كواحدة من تلك الخصائص.       

غالباً ما تكون فكرتُنا ـ كبشر ـ عن الموت مبهمةً، وغيرَ مطابقة لحرفية الواقع، ففي الموت وحدَه، وبحضوره يتداخلُ الشخصي بالعام، أو غير الشخصي، والتجريبي الملموس بالميتافيزيقي واللاشعوري. إن الموتَ، على الأغلب، هو ذلك الشيء الذي نتوقع أن يأتي فجأة على الآخرين الأبعدين وليس علينا. إذ لا يُتوقع أن يحدث لنا بعد دقائق أو ساعات مثلاً. إنه واقعيٌ دائماً. ممكنٌ دائماً. عادلٌ دائماً، مهما كان ميقات وهيئة حضوره لكل من عرفناهم أو سمعنا بهم في حياتنا. لكنه مستبعدٌ أيما استبعادٍ للـ"أنا" الشخصية لذواتنا. حتى لو كان صاحب هذه الأنا متقدماً في العمر، وعلى مشارف الموت وحافته. بل وحتى لو كان مريضاً بعضالٍ ميؤوسٍ من شفائِهِ، فالموت، في قرارة وعيه، لا يبقى عادة على الباب، إلا لينتظر غيره ليسمع بموتهم هم، مع ترحيلٍ وإرجاءٍ لدوره المنتظر، إلى أجل غير مسمى.

كذلك يحمل الموت صفة عاتمة المعنى من "تطهيرٍ"، لا ماهيّة له في الحقيقة. فهوـ كما يبتغي شعورنا المباشر به أن يُفهِمَنَا ـ "راحةٌ بعد تعب"، و" ارتواءٌ وشبعٌ بعدَ سغب"، ونقاءٌ بعد تلوث، وسفرٌ إلى الخلود والجنة، فكلُّ ميْتٍ هو "مرحومٌ ومغفورٌ له". هذا إطراء وتعزية للموتى الذين نعتقد بأنهم ليسوا "نحن"، ولا يتوقع أن نكون "نحن".

الميّت، ما إن يُذكرْ، أو تذكرْ سيرةُ وفاتِهِ أمامَنا، حتى نستحضرَ أميزَ ما يختصُّ به من خصائصَ، وما اعتدنا أن نَعُدَّها ذكرياتٍ جميلة ومواقفَ نبيلة وأشياء تُدخل البهجة ويُفَاخَرُ بها مما أُثِر عن "المرحوم" أو عرفت عنه وعُهِدت به، وبالطبع مع إسقاط كلِّ الصفات والمزايا السيئة التي كان يُذكرُ بها، والتي كان يتأذى من ذكرها الأدنون والأبعدون، فالموت يُخَلِّقُ استعداداتٍ لدى الأحياءِ للصفح والمغفرة، وطيِّ خصائصَ شخصيةٍ وإحياءِ مبالغاتٍ لم يكن أحدنُا يلحظُها أثناء تواجد "المرحوم" بيننا، لتواضعها وعاديتها.

وامتداحُ الميت كأنما هو لومٌ وتقريعٌ غير مباشرَين لذواتنا: (إنه قرَّرَ أن يموتَ ويترَكنا وحيدين، نحن السيئين الملوثين. لقد اختار القرارَ الشُجاعَ والصعب الذي جَبُنَّا عنه نحن معشرَ الأحياء الجبناء، ولوكنا شجعاناً بما فيه الكفاية لما تخلفنا عن الرفقة والسير معه.. إنه، هو وكلُّ ميتٍ معه باختصار: أشخاصٌ يستحقون إعجابنا دون أن نفهم سبباً لمبعث هذا الإعجاب).

فَقَدَ الموتُ كثيراً من هيبته وسمعته، وأهدر من رصانته الشيء الكثير بسبب هذا الهولوكست السوري والمجازر الجماعية، (التي كانت مرعبة). ولحضوره اليومي بالدقائق والساعات

كما يمكنُ تسجيلُه وملاحظتُه في البنية النفسية العامة عن الموت أنها انكسرت لدى السوريين، أو لدى كثيرٍ من السوريين. فلقدْ فَقَدَ الموتُ كثيراً من هيبته وسمعته، وأهدر من رصانته الشيء الكثير بسبب هذا الهولوكست السوري والمجازر الجماعية، (التي كانت مرعبة). ولحضوره اليومي بالدقائق والساعات. ودون مناسباتٍ رتيبة، وعَوْدٍ بطيءٍ كعادته حين يزور كلَّ مرة. لقد أصبح الموتُ أكثر تواضعاً وشعبية، وأقل نخبوية وانتماء إلى دوائر مقدسة لا تسنح ولا تسمح. وإلى عوالم تطهيرية وغسيل تعب الحياة وأدرانها. يمكننا القول إن الموت قد تأنسنَ وأصبح جاراً وصديقاً، ورفيق سفرٍ وزميلَ مقعدِ دراسة للسوريين، ولم تعد تلك الحاجات المُكْلفة لاستقباله قائمة إلا نادراً، ولا ضرورة للاحتفاء بواجباته ومكانته المميزة وسمعته، بل وخلوده الأسطوري.

إنه ليس أرفع مكانة وأعلى مقاماً من صديقنا الذي اعتدنا أن نلعب معه (دق طاولة) في المقهى كل يوم. ليس أكثر وفادة وحضوراً، وشرف مكانة من مهربٍ أو بَحَّارٍ يحملنا معه عبر زورقٍ إلى اليونان، ولا يُستبعَدُ أن يكون الموت نفسه يعمل "أجيراً خادماً على ظهر ذلك الزورق". وقد يكون قريبَ الملازمة اليومية من كوة الفرن الذي نشتري منه أرغفتنا كلَّ صباحٍ. قد يكون مزروعاً في لغم على طريقنا أثناء الهروب منه، ونحن نقطع الحدود أو نجتاز أحد البحار. قد يكون قصفاً "عادياً وروتينياً" من مدفعية أو حمولة طائرات تلقى على قرى ومخيمات، تخلف عشرات الضحايا من نساء وأطفال وشيوخ. وقد يكون سيارة مفخخة، زرعت لنا في الطريق، شأنه شأن المارين والعابرين من السابلة، ممن حولنا.

إنه قريب قريب.. في الباص. وفي الشارع. على مقاعد الدراسة، وعلى الشريط الحدودي الشائك.. لقد سامحَنا الموتُ بكثيرٍ من واجبات العزاء، وتنازلَ عن حقه المقيِّد بالوقوف أمامه دائماً دقيقة صمت، أو هنيهة لقراءة الفاتحة بخشوع وهيبة واستعداد، كما تنازل أكثر عن ترداد نفس الكلمات والعبارات التي اعتدنا فيما مضى أن نرددَّها في حضرته، وأن نقول فيه ما يليق وما لا يليق.. كلُّ ذلك أصبح شكلياً ولا معنى له..

لعل الموت لن يطالبنا، نحن السوريين، بأكثر مما يطالب به بشراً آخرين. ولعله بدأ هو الآخر يتعايش معنا. و لعله بات يُقَدِّرُ بحكمته وخبرته القديمة أسباب برودتنا الزائدة و"تطنيشنا" واستخفافنا به. ولعله قدَّر أيضاً أن لا يغضب أو "يزعل" من السوريين، وأن يتعايش مع هذا الواقع الذي فرضناه عليه، وفرضه علينا.. بعيداً عن أي بروتوكول مألوف من بروتوكولات الموت المعهودة لدى سائر البشر.