ذكِّر؛ فإن الذكرى....

2019.12.08 | 19:10 دمشق

لنذكِّر، علَّ الذكرى تنفع السوريين. منذ لحظتها الأولى، كانت انتفاضة السوريين سلمية. وما كانوا بالوحشية أو الرخص أو الجهل الذي وصمهم به نظام الاستبداد. ظنوا أن مَن خرجوا عليه يعادي محتل الأرض إسرائيل؛ لأنه على الدوام حفّزهم في خطابه "المقاوم" وحرّضهم على العدو مغتصب الأرض، إسرائيل. وسرعان ما اكتشفوا ان الصهاينة حريصون على بقائه. وهو الذي ذكّرهم موسمياً بلواء اسكندرون؛ وفي الوقت ذاته هو الذي تنازل عنه لديميريل. وهو الذي اعتبر ذاته رائد القومية العربية والوطنية، والمنادي بوحدة سوريا أرضاً وشعباً وسيادة؛ وثبت لهم بالدليل القاطع أنه عدوٌ للقومية والوطنية ووحدة شعب سوريا. وهو الذي وضع شعار "الحرية" في ثالوثه المقدس: / وحدة حرية اشتراكية/؛ وتيقنوا أن "الحرية" عدوّه الأول. ومؤسس دولته "الحديثة" هو مَن أطلق شعار "الإنسان غاية الحياة ومنطلقها". وها هم السوريون يتيقنون أيضاً بالدليل القاطع أن لا قيمة للإنسان السوري في منظومة الاستبداد؛ يقتلهم بكل صنوف الأسلحة، يغتصبهم، يدمر بيوتهم ومشافيهم ومدارسهم؛ يستأجر الميليشيات لقتلهم؛ يجلب الاحتلال ليحمي كرسيّه. وتبقى كبيرة الكبائر أن ما من دولة تتحدث في "السيادة" مثله؛ ولكن مَن يتحكم بسيادة سوريا ليس إلا المحتل الايراني والروسي. 

 إضافة إلى شريان حياته القائم على القتل والتدمير المستمرين لتسعة أعوام، وإضافة إلى الفلتان الأمني من خطف واغتيال وتفجيرات في مناطقه، وجد لنفسه مؤخراً مهنة المتاجرة بالدولار؛ وكأن مليارات النفط السوري لعقود من الزمن لم تشبعه. الأغرب في هذه القصة أن يقول رئيسه إن الدولار شحّ مع السيطرة على بعض مناطق الشمال السوري؛ "فالإرهابيون لم يعودوا يضخوا دولارات في الشمال، فارتفع سعره". لقد نسي القناة اللبنانية التي كانت تذهب فيها دولارات سوريا؛ ونسي القناة الإماراتية والبيلاروسية واللندنية. نسي مطالبة بوتين بثمن قتله للسوريين بأكثر من مئتي صنف من الأسلحة التي استعرضها في سوريا. لا شك أن منظومة الاستبداد تعرف بأن الناتج السوري المحليGDP يكاد لا يذكر؛ وأن المركزي قد جُفِّفَت خزائنه؛ وأن حرب كرسي الدم قد أكلت كل شيء؛ وأن موارد البلاد الاستراتيجية من نفط وفوسفات وصناعة وزراعة وسياحة قد ماتت، وموانئ البلاد قد تم بيعها للمحتل حامي كرسي الدم.؛ تعرف تلك المنظومة كل ذلك وتستمر بمكابرتها وسحقها للجميع.

في ظل هذا الواقع السوري البائس المفكك؛ إلى أين؟ وما العمل؟ إلى أين، وما العمل؛ والسوري يرزح تحت أطنان من المواجع؟

في ظل هذا الواقع السوري البائس المفكك؛ إلى أين؟ وما العمل؟ إلى أين، وما العمل؛ والسوري يرزح تحت أطنان من المواجع؟ احتلالات تنتظر حصصها من الذبيحة السورية؛ شعب تبعثر في أصقاع الأرض وفي الداخل السوري ذاته؛ مَن مع النظام ومَن ضده في هذا الداخل يعيش ألف غصة وغصة يومياً؛ ومن خارج الوطن لا تقل معاناته عمن هم في مرجل الداخل. معارضة تتعرض إلى وابل من النقد والتجريح والإهانة أكثر من ذاك الذي يطال نظام الاستبداد الذي تسبب بكل هذه المآسي. أمم متحدة مشلولة يكبلها صراع ذوي القوة الغاشمة. دول تتسلى على المأساة السورية، ومسلكها أحياناً رفع العتب. الفاعلون في القضية السورية يتراقصون بين الفضيحة والجشع وتسجيل النقاط وأحدهم على الآخر، والقرارات الدولية تحتاج قوةً، والقوة غير متوفرة.

 أهم ما أمامنا الآن هو ملفات الإجرام التي تراكمت على منظومة الاستبداد وداعميها؛ والتي تحتاج إلى مؤسسات لا بد من خلقها أو تعزيز القائم منها. ما قام به المجلس السوري الأمريكي، الذي يبذل أقصى جهده في جعل قانون "سيزر" حقيقة تخنق منظومة الاستبداد، أمر غاية في الأهمية. على السوريين من جانب آخر التركيز على الأمور الإنسانية والاجتماعية والثقافية. لا بد من التركيز أيضاً على الاحتلال الإجرامي الروسي والغزو الأيديولوجي الإيراني. يجب ألا يشعر الروسي أو الإيراني بأمان في بلدنا. لتكن ثورة شعبية جديدة وخلايا مقاومة صغيرة تقتلع جذور الاحتلال والاستبداد. لا بد من تواصل مع الدول العربية بأن دورها حتماً آتٍ؛ ولا بد من مخاطبة شعوب تلك الدول. 

لنتخلَّ قليلاً عن الأنا المتضخمة المريضة في داخلنا؛ لنتواصل ونستجمع ونسترجع قوانا، لنشكّل خلايا تتشابك لتكون الجسد والجسر لعودة بلدنا إلى الحياة

والحال هكذا، فإن مفتاح العمل هو ذاك الإنسان السوري أينما كان، وكيفما كان حاله. نحن بداية 23 مليون إنسان. والمستفيدون من الحال القائم على الضفتين بالآلاف فقط. لينطلق كل من نفسه مصرّاً على سوريته، مؤمناً بأن سوريا لا بد باقية وعائدة إلى الحياة. 

عدونا فقط مَن على يديه دم سوري، مَن مدّ يده لعدو أو احتلال، من أهان كرامة سوري، مَن لا يريد أن يوقف القتل والتدمير، من يبيع الوطن كي يبقى، من لا يكترث لوجعنا وأنيننا. لنتخلَّ قليلاً عن الأنا المتضخمة المريضة في داخلنا؛ لنتواصل ونستجمع ونسترجع قوانا، لنشكّل خلايا تتشابك لتكون الجسد والجسر لعودة بلدنا إلى الحياة، لنجعل تفكيكنا أفراداً أو جماعات عصياً على كل عابث بمصيرنا؛ لننشط حيثما كنا وأينما كنا، لنميّز الصادق من الطامع المغرض، لنصمد كيفما كانت الأنواء. ليتوقف من هدفهم واحد عن طعن بعضهم البعض كيفما كان الحال، ونشير إلى الخلل بغية الإصلاح والبناء. لنضع سوريا وعودتها إلى الحياة فوق كل اعتبار.