التعليم الديني وتبعاته الفكرية

2021.08.20 | 06:47 دمشق

thumbs_b_c_7a852a4cb6820825cecadde498e0d089.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يمر أسبوع تقريبا إلا وتطالعنا وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات للتبرع ببناء "معهد شرعي"، أو بصور حفلات تخرج لطلبة أتموا حفظ القرآن الكريم. وقد تزايدت الإعلانات في الفترة الأخيرة، الأمر الذي يشير إلى أن التعليم الديني بات ظاهرة واضحة في مناطق الشمال السوري. ويلاحظ في هذا الصدد بروز المدارس الخاصة التي تتباهى بأن من بين ميزاتها العناية بالعلوم الدينية، ولا سيما قراءة القرآن الكريم والحديث النبوي. يأتي هذا كله في سياق انهيار التعليم العام، والاتجاه نحو خصخصته التي لم تعد تقتصر على المناطق الخارجة على سلطة النظام، بل تشمل المناطق الواقعة تحت سلطته، وخصوصا مع تردي الواقع التعليمي على امتداد الجغرافيا السورية.

لا يختلف اثنان في أن الحملة الفرنسية على مصر كانت الزلزال الذي صحا بفعله العالم العربي من سباته الحضاري الطويل. فقد قضت الحملة على فكرة "الاصطفاء الديني" التي كانت تهيمن على الوعي الجمعي العربي آنذاك، ومفادها أن حالة دار الإسلام أفضل من سواها من بلاد "الكفر" في كل المجالات، لأن الإنسان المسلم يعتنق الدين الذي يعد من وجهة نظره خاتم الديانات السماوية وأكملها. ترسخ في وعي الطبقة المثقفة في القرن التاسع عشر أن تعويض هذا الفوات الحضاري لا يتحقق من خلال الاستمرار بانتهاج النظام التعليمي الذي كان معمولا به من قبل، أي: الاقتصار على علوم اللغة العربية، وعلوم الدين وخصوصا التفسير والفقه والحديث.

منذ تلك اللحظة، بدا واضحا أن التقدم الذي حققته الحضارة الغربية يكمن في أنها قامت بتجديد نظامها التعليمي، ولهذا بدأت محاولات حثيثة للخروج من نمط التعليم التقليدي إلى نمط حداثي، لا يهمل علوم الدين واللغة، ولكنه يولي أهمية كبرى لعلوم الدنيا التي استطاعت الحضارة الغربية بفضلها تحقيق قفزتها المعرفية، وكذلك بدأت العناية بالفلسفة التي كان لهزيمتها على يد الغزالي أثر سلبي أدخل الحضارة العربية في سبات طويل.

تشعبت عملية تحديث التعليم في اتجاهين: البعثات التعليمية إلى الغرب، ولا سيما فرنسا، ومحاولات إصلاح نظام التعليم التقليدي، ويبرز في هذا الجانب الجهد الذي بذله محمد عبده في تحديث التعليم في الأزهر الشريف. وكان لهذا الإصلاح آثاره الواضحة على الحياة الثقافية العربية، والتي بدأنا نحصد نتائجها في وعي عام متطلع إلى كل ما هو جديد، وحركات فكرية أغنت الحياة الثقافية بأدوات ومناهج تقدمت بها أشواطا في فهم العالم المحيط بها عما كانت عليه من قبل، وتيارات أدبية رفدت الحياة الأدبية بكثير من الشعراء والكتاب والأدباء الذين يشكلون علامات فارقة في الثقافة العربية.

ولكن هذا المسار الصاعد شهد تراجعا حادا منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، إذ طغى سؤال الأصالة والانكفاء على الذات على خطاب التقدم والتحديث، بعد أزيد من قرن على هيمنة هذا الخطاب على الساحة الفكرية والثقافية، ولهذا بدأ التوجه نحو التعليم الديني الصرف، وازداد الأمر وضوحا في سوريا مع وصول نظام أقلوي، حارب الأكثرية المجتمعية، وهو ما زاد من توجه الأكثرية نحو التعليم الديني بوصفه محاولة لإثبات الذات في وجه استبداد النظام.  

يقوم التعليم الديني في كل الأديان على أن المعرفة قيلت سابقا، وأن كمالها قد تحقق في زمن الأنبياء والسلف الصالح، ولذا فإن جهد المتعلم ينصب على حفظها وتكرارها. فالتعليم الديني ينطلق من موقف نكوصي مؤداه أن صلاح هذه الأمة لا يتحقق إلا بما تحقق به صلاح "سلفها الصالح"، كما أنه لا يهدف إلى اكتشاف حقائق جديدة، ولا يطمح إلى أن يكسب الطالب معارف ومهارات تمكنه من التفاعل من العالم من حوله.

ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالتعليم الديني في بلادنا يطمح إلى تحويل الطلبة إلى أفراد منعزلين عن المجتمع، إذ تقوم المدارس الدينية كالكلتاوية والشعبانية وغيرهما بعزل الطلاب عن محيطهم الاجتماعي، وحجز حريتهم في سكن طلابي مجهز لاستقبالهم. فعادة، يحظر على الطلبة في المدارس الدينية السورية الخروج من السكن، إلا في عطلة نهاية الأسبوع التي يقضونها بين أهلهم وذويهم، والتي يعودون بعدها إلى المدرسة التي تمتد لتشمل المرحلتين الإعدادية والثانوية. نحن أمام نظام يشبه إلى حد بعيد النظام العسكري، باستثناء أن الأوامر العسكرية تتخذ داخل المدارس الدينية صيغة النواهي الدينية.

التعليم الديني، كما هو في المدارس التقليدية، يكرس قطيعة بين الإنسان والعالم من حوله؛ لأنه، بتركيزه على حفظ القرآن الكريم والحديث النبوي والتفسير والفقه، يعزل الطالب عن عالمه المعاصر، وعن قضاياه. فمناهج التعليم الديني تخلو من الاطلاع على قضايا الفكر والفلسفة المعاصر، فتتحول معرفة الطالب إلى معرفة تراثية، تتصل بالتراث العربي-الإسلامي. لهذا سنلاحظ ما يشبه القطيعة المعرفية بينه وبين العالم من حوله، وتتجلى في ضعف محصوله من الفكر المعاصر وتياراته، والأدب الحديث ومدارسه، ناهيك طبعا عن إهمال تام لآداب العالم كله. وسد هذه الفجوة غالبا ما يأتي عبر القفز عليها وإنكارها، فعلى سبيل المثال، اخترع الإسلاميون نظرية "الأدب الإسلامي"، وهي نظرية تقوم على أن الأدب الحديث أدب مستورد من الحضارة الغربية، لا يمت لروح حضارتنا العربية-الإسلامية بصلة، وأن الواجب هو استلهام روح الإسلام في الكتابة الأدبية عبر كتابة تستجيب لمتطلبات النص الديني وحده.

كان لتوجه الإسلاميين نحو التعليم الديني نتائج سلبية على التيارات الإسلامية نفسها، تتجلى في كثرة الفقهاء الفضائيين، ورجال الدين، والخطباء والوعاظ، وفي إنتاج معرفي يقوم على التكرار والشرح والتلخيص والتفسير والتحقيق. فقد أصاب تلك التيارات العقم، فلم تفلح في تقديم شعراء وأدباء وكتاب بمستوى أولئك الذين كانت تقدمهم تلك الحركات في لحظة انفتاحها على الفكر والفلسفة المعاصرة، أما الفنون المعاصرة كالمسرح والسينما والدراما وغيرها فغيابهم عنها غياب كلي.

لا يعني كل ما تقدم رفض التعليم الديني، فلا ينكر أحد أن تلقي العلوم الدينية يسهم في زرع القيم الروحية والأخلاقية في النفوس، ويعمل على تهذيبها، ولكن ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن أهم ما وضع حضارتنا العربية على خارطة الحضارات العظيمة هو إسهامها في نقل الأفكار وترجمتها، والتفاعل معها، اقتباسا ومحاكاة وحوارا.