هل تحتاج الدول العربية إلى عواصم جديدة؟

2021.05.05 | 05:53 دمشق

umayyad_square_damascus.jpg
+A
حجم الخط
-A

يغيب الحديث عن موقع العاصمة الجغرافي في الفكر السياسي العربي، بالرغم من كونه أحد الموضوعات التي تتناولها بكثرة أدبيات الجغرافية السياسية، ولكن هذه القضية التي كانت مجال تفكير ونقاش في نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، لم يتردد صداها في الكتابات السياسية اللاحقة حتى يوم الناس هذا.

بدأ الحديث عن هذه القضية مع بواكير عصر النهضة، وتحديدا عند واحد من أبرز مفكريها: جمال الدين الأفغاني الذي اقترح نقل عاصمة السلطنة العثمانية من إسطنبول إلى بغداد، لأسباب عديدة، يذكر الأفغاني من بينها موقع بغداد الذي يتوسط الدولة العثمانية. فقد كان الأفغاني متشائما حيال القسطنطينية عاصمة للدولة العثمانية، ومنبع التشاؤم لديه من الظروف السياسية التي كانت تحيط بالدولة في نهاية القرن التاسع عشر.

وتتكرر الفكرة مرة أخرى عند الكواكبي الذي يبسط جملة أسباب، ترجح عنده أن يكون مركز الخلافة أو عاصمتها في مكة المكرمة، منها سبب ديني هو أنها الأصل الذي نشأ فيه الإسلام، والبقعة التي يتوجه إليها المسلمون بصلواتهم وأفئدتهم، ومن هذه الأسباب أيضا سبب جغرافي، حيث تتوسط الجزيرة العربية البلاد الإسلامية في أفريقيا وآسيا، إلى جملة أسباب أخرى يضيق المجال عن ذكرها.

كان رشيد رضا آخر من أثار القضية من جيل رواد النهضة، فمع إيمانه بأن الجزيرة العربية هي الأولى بأن تكون موطن الخلافة الإسلامية، دون سائر البلدان العربية والإسلامية الأخرى، ولكنه يقترح أن تكون العاصمة، أو مركز الخلافة بتعبيره، في منطقة تتوسط الشعوب الإسلامية: العرب والترك والكرد. والمدينة التي تحقق هذا الشرط هي الموصل، فهي تشكل حلا وسطا يرضي الأطراف كلها، لأنها أرض متنازع عليها بين العراق وسوريا والأناضول (تركيا حاليا). وهي فكرة ستجد تحققها الكوميدي فيما بعد على يد "أبو بكر البغدادي"، حين يصعد منبر الجامع النوري في الموصل بعد مئة عام تقريبا.

دخلت هذه القضية فيما بعد نطاق اللامفكَر فيه عند العرب، وهو تحول جاء على خلفية التراجع في خطاب النهضة، لصالح تمدد خطاب الأصالة الذي أزاح خطاب التقدم عن الصدارة، وصعد نتيجة النكسة الأولى التي تعرضت لها حركة النهضة العربية، متمثلة بالاحتلال الأجنبي، ثم تلا ذلك صعود الخطاب القومي الذي حال بيننا وبين التفكير الهادئ السليم. وفي ظل هذا الخطاب، اتخذ العرب عواصمهم القديمة لتكون عواصم لدولهم الوليدة.

الإشكال أن العواصم الحالية التي كانت مراكز لدول قديمة لا تصلح لتأدية الدور السابق نفسه، نظرا لوقوع كثير منها على أطراف الدولة الحديثة، وهو ما أدى إلى نتائج بالغة الخطورة

تنتمي العواصم العربية القديمة إلى نمط تطلق عليه الجغرافيا السياسية اصطلاح العواصم الطبيعية، حيث تتطور مدينة ما تبعا لعوامل اقتصادية وتاريخية وجغرافية معينة، لتصبح عاصمة للدولة. وهذا النمط من العواصم يجمع إلى جانب الدور السياسي والدبلوماسي النشاطات الاقتصادية والثقافية... إلخ. ولكن الإشكال أن العواصم الحالية التي كانت مراكزا لدول قديمة لا تصلح لتأدية الدور السابق نفسه، نظرا لوقوع كثير منها على أطراف الدولة الحديثة، وهو ما أدى إلى نتائج بالغة الخطورة، لأن صاحب القرار السياسي لم يتعامل مع المناطق المختلفة التي تتكون منها الدولة بالأهمية نفسها، وانحصر جل اهتمامه بالمناطق القريبة من العاصمة.

استعراض حالة التفاوت في التنمية في الدول العربية يوضح ما نقصده. وهذا مثلا ما تجنبته الدولة السعودية، حين اتخذت الرياض الواقعة في وسط الدولة عاصمة لها، بعيدا عن مكة المكرمة والمدينة المنورة اللتين كانتا خيارا أول بسبب رمزيتهما الدينية.

إن موقع مدينة تونس العاصمة على ساحل المتوسط دفع صاحب القرار السياسي إلى الاهتمام بالساحل، والعناية بقطاع السياحة، في مقابل مناطق الداخل المهمشة والمحرومة، والتي انطلقت منها شرارة الربيع العربي. ويبدو أن عوامل التهميش والإقصاء ماتزال مستمرة حتى الآن. والحق أنها لن تختفي في ظل بقاء مركز العاصمة في أطراف البلاد، واستمرار نهج التعامل بمنطق المركز والأطراف البعيدة أو المهمشة في النظر إلى أقاليم البلاد وولاياتها.

ويتخذ الطابع الجهوي تعبيرا أقرب إلى الخطاب الهوياتي في ليبيا، حيث ينقسم البلد إلى ثلاث مناطق، تقع العاصمة على طرف إحداها، وهو ما لاحظنا نتائجه في التقسيمات التي أسفرت عنها المحادثات الأخيرة، إذ قُسمت الوظائف العليا والحقائب السيادية بين المناطق الثلاث.

وليست مصر –وهي الدولة العريقة- أفضل حالا من أخواتها، فالقاهرة التي أُنشأت لتكون عاصمة للدولة الفاطمية في محاولتها مد نفوذها إلى المشرق العربي، لا تصلح بحكم طبيعة موقعها الجغرافي، واعتماد المركزية في إدارة الدولة، عاصمة لمصر؛ ولهذا ظل الصعيد طرفا بعيدا ينظر إليه على أنه منطقة ذات أهمية ثانوية قياسا بمنطقة القاهرة والدلتا، أما سيناء فإن الدولة المصرية تتعامل معها على أنها منطقة ضائعة بين بلاد الشام ومصر، ولهذا تتكرر فيها الاضطرابات الناتجة عن تمييز جهوي، يتعرض له أهل سيناء الذين لا يرون أنفسهم مصريين، ولعل حالة سيناء حالة فريدة في ظل تشكل دولة -أمة في مصر منذ آلاف السنين.

كانت دمشق تتوسط سوريا التاريخية الممتدة من طوروس إلى العريش، غير أن هذا الموقع المتوسط فقد ميزته مع توالي اقتطاع الأطراف عن الجسد الأم

في الحالة السورية، اتخذت الدولة الوليدة في عام 1918م، مدفوعة بخطاب قومي يستحضر "الأمجاد" الغابرة، وخصوصا الحقبة الأموية، دمشق عاصمة لها (هل كان بإمكانها أن تفعل غير هذا؟). كانت دمشق تتوسط سوريا التاريخية الممتدة من طوروس إلى العريش، غير أن هذا الموقع المتوسط فقد ميزته مع توالي اقتطاع الأطراف عن الجسد الأم: تأسيس دولة لبنان الكبير، ونشوء الإمارة الهاشمية، والانتداب البريطاني على فلسطين، وقيام دولة "إسرائيل". هكذا غدت العاصمة على أطراف البلاد، وأصبحت غير قادرة على التعامل المتساوي مع المناطق المختلفة، ويظهر هذا جليا في أن منطقة الجزيرة والفرات سقطت من اهتمام صانع القرار، إلا بوصفها مكانا لنفي المعارضين في عهد الانتداب الفرنسي، ومخزنا لنهب الثروات في مرحلة الحكم البعثي، ولاسيما مع الحقبة الأسدية. بمعنى أن الدولة تعاملت مع تلك المنطقة بمنطق أنها جزء ملحق بسوريا، فلهجاتها وعاداتها وأنماط عيشها لا تنتمي إلى النمط العام السائد في بلاد الشام. وهي وضعية تشبه وضعية سيناء في مصر.

لقد قامت دول كثيرة في العصر الحديث بتغيير عواصمها: الباكستان، البرازيل، نيجريا، كازاخستان...إلخ. وربما كانت الحالة التركية بسبب قربها من عالمنا العربي على مختلف الأصعدة تلقي الضوء على الأسباب التي دفعت تركيا إلى تغيير عاصمتها، من إسطنبول إلى أنقرة، لوقوعها على أطراف الدولة، وسهولة الوصول إليها من طريق البحر...إلخ. أما المحاولات الترقيعية، مثل: إنشاء عاصمة إدارية، فلن تكون ذات جدوى، لأنها تتعامى عن أساس المعضلة، وربما يكون الحل الجزئي أو المؤقت في بعض البلدان هو منح الأطراف حرية أكبر في إدارة شؤونها عبر نظام لا مركزي موسع.

في حالتنا السورية، مهما كانت نتيجة الصراع الدائر اليوم، فإن سوريا المركزية انتهت إلى الأبد، وإذا كان لا بد من العيش في سوريا حرة تقوم على العدالة والتنمية المتساوية، فإن التفكير الجدي بنقل العاصمة من دمشق إلى مكان آخر، أو إلى مدينة جديدة يتم بناؤها في موقع متوسط في سوريا، هو من الأولويات التي ينبغي أن تخرج من دائرة المحرمات (التابو) إلى دائرة النقاش الموسع، بعيدا عن الانغلاق في رؤى تاريخية ثبت بالدليل أنها كانت وبالاً على السوريين.