نحو فهم أعمق للاستثمار في سوريا.. تقييم مؤتمر الاستثمار الأخير

2024.02.03 | 08:56 دمشق

نحو فهم أعمق للاستثمار في سوريا.. تقييم مؤتمر الاستثمار الأخير
+A
حجم الخط
-A

انتهى مؤتمر الاستثمار الأول في شمال غربي سوريا، ولم تتدفق الاستثمارات إلى المنطقة! انتهى المؤتمر بدون توقيع مذكرات تفاهم، وعقود، واتفاقيات بين الحضور! وخلص المؤتمر في النهاية إلى تأجيل حل المشاكل المستعصية في المنطقة على كافة الأصعدة. وربّ سائل ما الذي تحقق من المؤتمر إذن؟ ولمَ كل هذه الضجة والحماس من قبل الفعاليات الاقتصادية المحلية؟ خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية على مستوى الملف السوري وفي ظل العدوان الإسرائيلي على غزة.

في ظل الظروف الراهنة، يبدو المؤتمر محطة مهمة للتأمل والتحليل، ومن دون مقدمات رأيت المؤتمر أقرب إلى ورشة اقتصادية جرت بين الفعاليات الاقتصادية المحلية لعرض منتجاتها وأعمالها ومناقشة التحديات والمشاكل التي تعاني منها المنطقة، وأن هذه الورشة الكبيرة تشكل فرصة جيدة لتنظيم حدث كبير بحجم مؤتمر الاستثمار في المستقبل، بعد تطبيق ما تم نقاشه في الأوراق البحثية، وتعزيز قصص النجاح وتمكينها أكثر.

سأعرض فيما يلي مجموعة من محددات الاستثمار الأساسية التي يجب أن تتوفر لدى أي منطقة تحاول جذب المستثمرين إليها، حيث تتشكل هذه المحددات من مجموعة من العوامل المتداخلة والتي تؤثر بشكل مباشر على قرارات المستثمرين وتحديد الوجهات الاستثمارية. وسأسمح لنفسي بإعطاء علامة لكل محدد من ناحية توفره في المنطقة من 5 علامات.

الأمان والاستقرار يعطيان المستثمرين الثقة اللازمة لضخ رؤوس أموالهم في مشاريع محفوفة بالمخاطر بحاجة لسنوات طويلة من العمل لاستعادة رأس المال وجني الربح

أولى تلك المحددات هي الاستقرار السياسي والأمني، فمن نافلة القول إن هذا المحدد أحد أهم العوامل، إن لم يعتبر الأهم، لأنه يوفر بيئة آمنة للمستثمرين. هناك مؤشرات لقياس مستوى الاستقرار السياسي في الدول، لا ضرورة لمناقشتها هنا. طالما أن الحالة السياسية في البلد مستقرة أو شبه مستقرة نسبياً يتحمل المستثمرون العمل فيها، حتى تنزلق البلد في حرب وتدخل في حالة عدم اليقين السياسي سيخرج المستثمرون إلى بلد آخر. لتصبح الدول التي تعاني من نزاعات، واضطرابات سياسية، وعدم يقين سياسي، أقل جاذبية للاستثمارات. فالبيئة الآمنة هي الأساس في أي مناخ استثماري، فالأمان والاستقرار يعطيان المستثمرين الثقة اللازمة لضخ رؤوس أموالهم في مشاريع محفوفة بالمخاطر بحاجة لسنوات طويلة من العمل لاستعادة رأس المال وجني الربح.

في ظل الظروف المحيطة بالملف السياسي السوري لا يزال ريف حلب يكافح للوصول إلى الاستقرار السياسي والأمني، وبالنظر إلى عدم الاعتراف بالمنطقة من قبل المجتمع الدولي وحصول اضطرابات أمنية بين الحين والآخر. ستحصل من 5 علامات على علامتين.

ثاني تلك المحددات، هي الاستقرار الاقتصادي. يحتمل هذا العامل العديد من المؤشرات على رأسها الناتج المحلي الإجمالي، والميزان التجاري، والدين العام، والبطالة، والتضخم، والثقة، والإنتاجية، وسعر الصرف، والقوة الشرائية، والإنتاج الصناعي، والزراعي، وغيرها من المؤشرات التي تقيس الأداء الاقتصادي لبلد ما، وتوفر فهماً لحالة الاقتصاد العامة.

تعاني المنطقة في ريف حلب ظروفا اقتصادية سيئة من جراء احتكار سيادة الدولة من قبل نظام الأسد، ما يحرمها من الأوراق القانونية الاقتصادية، ويبقي قطاعاتها غير فعّالة وغير قادرة على الوصول للكثير من الميزات. كما أن اقتصادها يعاني من عدم قدرة على التنبؤ، وديناميكيات سوق مضطربة. ولهذا سأعطيها علامة واحدة من 5 علامات.

المحدد الثالث هو الحوكمة الرشيدة والشفافية لتعزيز الثقة في الأسواق المالية وبيئة الأعمال. فالدول التي تعاني من فساد، وسوء إدارة، وضعف الأنظمة القانونية تواجه تحديات كبيرة في جذب الاستثمارات الأجنبية. على الرغم من التحديات الكبيرة في المنطقة إلا أنها قطعت شوطاً مهماً في الحوكمة، وهناك مساع حثيثة من قبل منظمات المجتمع المدني في تعزيز هذه الحوكمة وتطويرها، وعليه سأعطي المنطقة 3 علامات.

الوصول إلى الأسواق والبنية التحتية، رابع المحددات الاستثمارية التي تجعل من المنطقة جاذبة للاستثمارات، فالوصول إلى الأسواق الإقليمية والدولية وتوافر بنية تحتية جيدة مثل الطرق والموانئ والاتصالات تعد عوامل حاسمة في هذا الإطار، كما أنها تقلل من تكاليف العمليات الإنتاجية وتسهّل الوصول إلى العملاء والموردين وسلاسل التوريد. لا تزال منتجات ريف حلب محرومة من الوصول إلى العالم إلا من بعض الدول التي تقبل بالأوضاع الراهنة، وتعمل المنظمات والمجالس المحلية بشكل كثيف لإعادة إحياء شبكة الطرقات والجسور والمرافق العامة التي دمرها النظام خلال السنوات الماضية، مع كل ذلك لا يزال هناك عمل كثير في هذا المحدد، وعليه سأعطيها علامتين من 5 علامات.

ن مؤتمر الاستثمار الذي عقد يعد خطوة جريئة من القائمين عليه لتسليط الضوء على المنطقة، وخطوة أولى في رحلة نحو إعادة البناء والتعافي الاقتصادي

الوصول إلى النظام المالي العالمي، وتوفر الأدوات المالية تعد عوامل جوهرية في تحفيز الاستثمار، وهذه كلها غير متوفرة في المنطقة، وتُبذل جهود مضنية لتطوير هذه الجوانب على الرغم من القيود الكبيرة المفروضة. سأعطيها علامة من 5 علامات.

بلغ مجموع العلامات في هذه المنهجية البسيطة، 9 علامات من 25 علامة وهي إشارة إلى أن المنطقة غير مستعدة بعد لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية. ومع ذلك هذه ليست دعوة للتشاؤم بل وقوف على الواقع والحقائق على الأرض، وهي دعوة للفواعل المحلية للنظر بكل ما سبق ذكره وإيجاد حلول لتجاوز العقبات والمشاكل التي تحول دون تنمية وتطوير المنطقة.

وأخيراً، يمكن القول إن مؤتمر الاستثمار الذي عقد يعد خطوة جريئة من القائمين عليه لتسليط الضوء على المنطقة، وخطوة أولى في رحلة نحو إعادة البناء والتعافي الاقتصادي، حتى لو كان الطريق محفوفاً بالتحديات، فالجهود المبذولة وقصص النجاح التي عرضت في المؤتمر، والمعرض، والصناعات القائمة، تستحق كل الاحترام والتقدير وتبعث على الأمل في إمكانية التغلب على هذه العقبات وخلق نموذج اقتصادي خاص بالمنطقة للنمو والتنمية، نغلق فيه آخر خيمة ونرسلها إلى الأمم المتحدة.