لم تمضِ أسابيع قليلة على عودة النظام السوري واستحواذه على مقعده في الجامعة العربية، قبل أن نقطف ثمار تلك العودة الميمونة _مثلما حاول العالم إيهامنا_.
زمان طويل مرّ قبل إعلان عودة الأسد ممثلاً للسوريين، ليبدأ بعدها بالعمل الحثيث الذي يصب في مصلحة عودة السوريين إلى ديارهم وتحسين صورتهم الدولية والعالمية، وتهيئة الظروف لإعادة استقرارهم في وطنهم.
قد ينفع السطران الأخيران مقدمة لنشرة أخبار تُبث على التلفزيون الرسمي الذي لم يعد يتابعه أحد حتى مؤيدي النظام أنفسهم، لكن الجامعة العربية وممثلي الدول ورؤساءها أرادوا لنا أن نصدق تلك الكذبة الكبيرة، المشكلة فقط أننا اختبرنا ذلك الكذب بالتجربة ولم نعد نصدق.
أعلن وزير الخارجية النظام السوري أن سوريا ترحب بعودة أبنائها جميعاً، لكنه في قرارة نفسه يعرف أن ذلك لن يتحقق، فالسوريون ما زالوا يستحضرون كيف كانت الحكومة السورية عراباً للتغيير الديمغرافي في المنطقة، وكيف اتضحت صفات النظام السوري الإجرامية بقدرته على تهجير نصف السوريين خارج حدود بلادهم، ليتحملوا ذلاًّ ومهانة وعنصرية لا مثيل لهم.
هنالك من يتوقون لسلام تنتهي فيه الأحقاد ليعاود أبناء الوطن الواحد العيش في طمأنينة، فصدقوا حكاية عودة المواطنين إلى ديارهم وتعهد النظام والمجتمع الدولي بفتح صفحة مختلفة لسوريا جديدة
ربما ما زال هناك من يصدق ذلك، فهنالك من السوريين من أوجعهم الحنين إلى البلاد ولم يفلحوا في غرس جذورهم في أرض أخرى مهما بذلوا جهداً في ذلك، وهنالك من يتوقون لسلام تنتهي فيه الأحقاد ليعاود أبناء الوطن الواحد العيش في طمأنينة، فصدقوا حكاية عودة المواطنين إلى ديارهم وتعهد النظام والمجتمع الدولي بفتح صفحة مختلفة لسوريا جديدة، فمن منا لا يتمنى أن تكون بلاده هي مأواه الأخير؟
لكن الأسباب التي تمنع سوريين آخرين من الانجراف مع ذلك الحنين كثيرة، بداية من التجنيد الإجباري الذي يجبر السوريين على الذهاب إلى الموت صاغرين ليصبحوا قتلة ومقتولين في آن، مروراً بعدم وجود بنية تحتية والانهيار الاقتصادي والفساد الاجتماعي والدمار الذي طال مساكن المواطنين، إضافة إلى القوانين التي صدرت لتسهيل استملاك العقارات من أصحابها لصالح الدولة فانتزعت منهم حقوقهم المدنية بالتملك في بلادهم، وليس نهاية بتسهيل توطين الميليشيات الإيرانية.
تغاضى العالم العربي عن ذلك كله إذن مصدّرين قضية تسهيل إجراءات عودة السوريين، بالاتفاق مع من حوّل البلاد إلى مزارع لتجارة المخدرات من أجل تمويل عمليات القتل والاعتقال والتوقيف والإخفاء القسري.
يصر المجتمع الدولي بما فيه الدول العربية على حل أزمة اللاجئين على الرغم من أنه ووفقاً لأرقام وإحصاءات رسمية صادرة من منظمات حقوقية، فإن سوريا لا تزال غير آمنة لعودة اللاجئين السوريين، حيث يعيش أكثر من 80% من السكان تحت فقر مدقع، وعلى الرغم أيضاً من أن القرارات الدولية تضع في أولويتها إحداث انتقال سياسي في سوريا قبل عودة السوريين، لكن ذلك يصبح بأعجوبة غير ذي أهمية لتبقى الأولوية للتخلص من السوريين من الدول المستضيفة حتى وإن كان المصير الذي يذهبون إليه موتاً أو جحيماً محتوماً على أفضل تقدير.
يتصدر لبنان المشهد بهذا الخصوص بعد حملات العنصرية التي يتعرض لها سوريون مقيمون هناك، فعلى الرغم من التاريخ السيئ الذي تشهده العلاقات السورية اللبنانية دبلوماسياً أو على الصعيد الاجتماعي، وعلى الرغم من أن النظام السوري وفيالق الجيش السوري التي احتلت لبنان في عهد الأسد الأب كانت سبباً رئيساً لتصدع العلاقات بين الشعبين، غير أن ذلك قد يصبح مكسوّاً بصبغة دبلوماسية في حال تلاقي المصالح بين المسؤولين على طرفي الحدود التي كانت شاهداً في هذه المرة على تعاون الجانبين السوري واللبناني، بطريقة قد تصب في مصلحة الأطراف جميعاً وتستثني السوريين الذين تتقاذفهم البلاد وتلفظهم من دون منحهم الحق بموطئ قدم.
فقد ذكرت تقارير حقوقية بأن قوّات نظام الأسد قد أعادت لاجئين سوريّين مُرحّلين إلى لبنان بتسليمهم إلى مهرّبي البشر الموجودين على الحدود اللبنانيّة - السوريّة مقابل مبالغ ماليّة تراوحت بين 150 و3,000 دولار للفرد الواحد، بحسب 75 حالة وثّقها مركز «وصول».
سلّم الجيش اللبناني اللاجئين المُعتقلين إلى قوّات الفرقة الرابعة والأمن العسكري السوريّ مباشرةً عبر معابر المصنع ووادي خالد والقاع، حيث اعتقلت وأخفت قوّات الأسد عدداً منهم
وبحسب التقرير، فقد كان للجيش اللبناني حصته من المساهمة في إذلال اللاجئين وترويعهم إذ اعتقل الجيش اللبناني ومخابرات الجيش، بين نيسان/أبريل ومنتصف أيّار/مايو، 808 لاجئاً سوريّاً، بينهم 17 امتلكوا أوراقاً قانونيّة و24 قاصراً، تعرّضوا للضرب والتعنيف والمعاملة المُهينة. كما رحّل الجانب اللبناني 336 لاجئاً على الأقل، علماً أنَّ الأرقام المتداولة ترجّح ترحيل 900 إلى 1,400 لاجئ.
وقد ذكر التقرير أن عمليّات الاعتقال التعسّفي تركزت في البقاع الغربي وزحلة وعاليه، كما سلّم الجيش اللبناني اللاجئين المُعتقلين إلى قوّات الفرقة الرابعة والأمن العسكري السوريّ مباشرةً عبر معابر المصنع ووادي خالد والقاع، حيث اعتقلت وأخفت قوّات الأسد عدداً منهم.
عمليات أقل ما يمكن وصفها بأنها منافية للإنسانية أسفرت عن تقاذف اللاجئين على الحدود الفاصلة بين الجانبين، بطريقة تشبه إلى حد كبير تقاذف كرة اللجوء السوري على طاولة المفاوضات وكأنها ورقة لعب يمكن التعامل بها وصرفها مقابل خدمات ومصالح مختلفة، مثلما حدث باستخدامها حجة الأسد الأخيرة لهرولته إلى مقعد الجامعة العربية التي صرح مراراً وتكراراً بأنها لا تعنيه، متهماً إياها بأنها حادت عن أهداف الدول العربية بعيد تجميد عضوية سوريا فيها في أعقاب الثورة السورية.
قبل ذلك سمعنا كثيراً من الحكايات عن اختفاء سوريين بمجرد وصولهم المنافذ الحدودية لسوريا، لكن ذلك لم يمنع كثيرين منا من الحلم بالعودة والرغبة بتحقيقه عاجلاً لا آجلاً، الفرق يكمن في أننا اليوم نعرف أننا ربما نضطر إلى تقبل حقيقة أن ذلك الحلم قد يصبح مستحيلاً، وربما قد يكون المستحيل الذي نجبر على اجتيازه إذا بقي الصمت الدولي شاهداً على موتنا الثاني بعد الموت الذي حاق بنا من القوات الروسية والسورية معاً، وربما نبقى عالقين على الحدود من غير أي بصيص أمل في وجود حلّ حقيقي لأزمة اللاجئين أو أزمة الدول المستضيفة.