حين يدفع السجينُ ثمنَ القفل

2020.05.29 | 00:03 دمشق

293994.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يحدث في سجن تدمر العسكري منذ بداية الثمانينيات وحتى شهر آب من العام 2001 ، أنْ غابت ممارسات التعذيب غياباً تاماً، بل ما هو ثابتٌ أن استمرار تعذيب السجناء هو القاعدة (الأصل)، أمّا الاستثناءات فهي ازدياد وتيرة التعذيب أو خفوتها، وذلك وفقاً للبرامج التي تتلقاها إدارة السجن من الجهات المسؤولة في إدارة المخابرات العامة، لذلك كان يوم 19 أيلول من العام 1999، يوماً مشهوداً، حين قرع مساعد الانضباط في السجن باب المهجع رقم 16 في الباحة الثالثة صارخاً: (ولاه، رئيس المهجع، اسمعني منيح، مدير السجن تكرّم عليكن، ووقّف عليكن القتْل، يعني هلّق أبقا نقتلْكن، لكن بشرط تنضبطو وتصيروا أوادم، واللي ما رح يصير آدمي وينضبط رح أملص رقبتو، سماع ولاه: كمان مدير السجن سمحلكن تسجلوا فواتير من كل شي بدكن ياه، خضرة فواكه وووو ولك كلشي ، حتى الكازوز إزا بدكن رح يجيكن، وهي التعليمات رح نبلش نطبقها من هلق).

لم تمض سوى ساعة على انصراف مساعد الانضباط، حتى جاء أحد الرقباء حاملاً في يده رزمة من الأوراق البيضاء، وحزمة من الأقلام، في جولة على جميع مهاجع السجن، يعطي لكل مهجع ورقة بيضاء واحدة وقلماً، طالباً من الجميع أن يسجّلوا ما يريدون، مردفاً بالقول: هاي الفاتورة خاصة بالخضرة فقط، أما طلباتكم الأخرى، فلها وقت آخر، وعليكم أن تجهزوا الفواتير خلال ساعة فقط.

لم ينشغل السجناء أبداً بما يودون شراءه من الخضار، بقدر ما انشغلوا بحديث المساعد، عن أسبابه وبواعثه، وما الخطوات التالية له، إذ لا حدثَ مجانياً في سجن تدمر، فكل تصرّف أو سلوك خارج عن المعتاد، لا بدّ أن يخضع للتحليل والتفسير، فتحوّل المهجع بسجنائه الخمسين إلى جوقة من الأحاديث المتداخلة والسجالات والتأويلات، وحده رئيس المهجع لم يشارك في تلك التحليلات بسبب الحرج الكبير، بل المأزق الذي وقع فيه، إذ شارفت الساعة المعطاة له كحدّ أقصى لتسجيل الفاتورة على الانتهاء، ولكن لا أحد من السجناء يشاركه هذا الهمّ بسبب انشغال الجميع بالقضية الأكثر أهميةً: ما الذي دعا إدارة السجن، بل إدارة المخابرات العامة، إلى المبادرة بهذه الخطوة غير المتوقعة تجاه السجناء؟ وعلى الرغم من تنوّع التفسيرات والتأويلات وتعدّدها إلّا أن القاسم المشترك بينها جميعاً يتجه إلى أن هذه المبادرة تخفي وراءها قراراً هامّاً بشان مصير السجناء، ولعله إخلاء سبيلهم في وقت قريب جداً، إذ لا يمكن لهذا الحدث النوعي أن يكون من بنات أفكار مدير السجن، وهو الذي ينفّذ تعليمات الجهات الأمنية بدقة فائقة، ولعل ما يدعم هذا المنحى من التأويل هو كثرة المنامات التي رآها السجناء في ذلك الشهر، إذ كلّها كانت توحي بحدوث أمر هام جداً، وفقاً لمفسّري الرؤيا في السجن، إذ تنبغي الإشارة إلى أن المنامات في سجن تدمر هي مصدر أساسي للمعلومة، في ظل غياب كامل لأي صلة أخرى بما يجري في الحياة خارج السجن. وبناء عليه، فلا وجود لأي رؤيا بلا تفسير ذي صلة بالواقع، وكذلك لا وجود مطلقاً لشيء اسمه كابوس أو تهيؤات أو ما إلى ذلك، أمّا ما مدى مصداقية هذه المنامات، فذلك يتعلق بمهارة المفسِّرين، وهم يتوزعون على مدارس ومذاهب ومرجعيات مختلفة.

ولعل ما يدعم هذا المنحى من التأويل هو كثرة المنامات التي رآها السجناء في ذلك الشهر، إذ كلّها كانت توحي بحدوث أمر هام جداً، وفقاً لمفسّري الرؤيا في السجن

بعد يومين من حديث المساعد، وفي الساعة الثامنة مساء، على غير المعتاد، علتْ أصوات الشرطة وعناصر البلديّة في باحات السجن، منذرةً بمجيء فاتورة الخضرة، وسرعان ما جاءت التعليمات إلى رئيس المهجع بتجهيز ثلاثة سجناء فقط (عناصر سخرة) لاستلام الخضار، وبقية السجناء يجب أن يكونوا نياما كالمعتاد في مثل تلك الساعة، إلّا أنه في واقع الحال، قليل من السجناء من نام في تلك الليلة، إذ الأغلبية ينتظر ساعة الاستيقاظ الإجباري (السادسة صباحاً) حتى يكحّل عينيه برؤية الخضار التي لم يرها معظم معتقلي تدمر منذ خمسة عشر عاماً.

لحظة الاستيقاظ، وعلى غير المعتاد، لم يهرع السجناء إلى دورة المياه، ولم يهرع البعض إلى التيمّم ليصلّي خلسة صلاة الفجر قبل شروق الشمس كما كانوا يفعلون، بل تحلق الجميع متدافعين حول أكوام البندورة والخيار والبصل والثوم والبقدونس، التي وُضعت في مدخل المهجع، وتحسّباً من رئيس المهجع لحدوث أي شكل من أشكال الفوضى، كان قد كلّف اثنين من السجناء بحراسة الخضار، وعدم العبث بها، ريثما يتم توزيعها على الجميع بالتساوي، إلّا أن درجة الفضول قد ألغت الانتظار، إذ أمسك البعض بحبات البندورة وراحوا يتفحصونها وينظرون إليها بإمعان ودهشة، كالذي يمسك بكائن غريب، ومنهم من أمسك بباقة البقدونس وراح يشمّها بعمق مردّداً: ما شاء الله، ريحتها تشق الراس، منذ ثمانية عشر عاماً لم أر البقدونس، ما دفع أحد حرّاس الخضرة للقول بصوت مرتفع: يا شباب ممنوع اللمس، انتظروا عملية التوزيع.

أمسك البعض بحبات البندورة وراحوا يتفحصونها وينظرون إليها بإمعان ودهشة، كالذي يمسك بكائن غريب، ومنهم من أمسك بباقة البقدونس وراح يشمّها

الجدير ذكره، أن كميّات الخضار التي دخلت المهجع، هي نصف الكمية المسجلة في الفاتورة، أو أقل، أمّا ثمن تلك الخضار فهو أكثر من سعرها الحقيقي بضعفين أو أكثر، وهذا كلّه لا اعتراض عليه، ومن يستطيع الاعتراض بالأصل؟ بل ربما كان البديل المكافئ لذلك، بالنسبة إلى السجناء، هو طعام شهر، أشبه ما يكون بشهر العسل لعروسين في أحد المطاعم الفخمة، فرأس بندورة متوسط الحجم، وحبة خيار ورأس بصل، إذا قُطِّعت تقطيعاً ناعماً، يضاف إليها قليلٌ من الملح، وقليل من الخلّ المُصنَّع محلّياً، مع الإكثار من نسبة المياه المضافة إليهما، نكون أمام وجبة من السلطة الشهية التي يلتفّ حولها مجموعة من أربعة أشخاص،( سجناء تدمر مبدعون في فنّ الادّخار وتقسيط الطعام) لا شكّ أنه طبق شهيّ إلى حدّ النشوة، إذ لا تجوز المقارنة بين طبق كهذا، وبين البرغل المسلوق المختلط بالبحص والتراب، والمرقة التي تطوف على وجهها الحشرات الطائرة والقذارات، وغالباً ما تنبعث منها رائحة بول السجانين وعناصر البلدية.

فواتير الخضار ازدادت وتيرتها، وباتت تتكرر مرتين في الأسبوع، وبإلحاح من إدارة السجن، وهل بوسع أحد الاعتراض؟ ولم تنخفض وتيرتها إلّا بانخفاض كمية النقود لدى السجناء، تلك النقود المودعة لدى موظف الذاتية في إدارة السجن، إذ إن إدارة السجن تعرف بدقة ما بقي من تلك النقود التي حصل عليها بعض السجناء، الذين تمكّن ذووهم من زيارتهم، بوساطة مباشرة، أو مقابل رشوة مالية كبيرة.

وكما كان شهر أيلول من ذاك العام شهراً مشهوداً، كان كذلك شهر تشرين الثاني من العام ذاته شهراً مشهوداً أيضاً، فذات صباحٍ، وعلى حين غرة، عادت أصوات الكرابيج والهراوات تلعلع في باحات السجن، كما عادت صيحات السجناء واستغاثاتهم تملأ الآفاق، ما الذي حدث؟ هل انتهى شهر العسل؟ وعادت حليمة إلى عادتها القديمة؟

ما هو مؤكدٌ، أنْ لا أحد من السجناء على الإطلاق، أفلح في تأويل أو تفسير المكرمة التي بادر بها مدير السجن، وتلا بشارتها مساعد الانضباط، كما أنه لا أحد على الإطلاق اعتقد أن تلك (الهدنة) تنطوي على أسلوب نفسي احترافي في استدراج السجناء، من خلال توفير شيء من الراحة النفسية (توقّف مؤقت للتعذيب) تجعلهم يصرفون بسخاء، وقد انتهت تلك الهدنة بنفاد النقود.

لعلها من المفارقات التي لا تُنسى، أنه مع كرّة التعذيب ثانيةً، واشتداد وتيرته، أجرى محاسب الذاتية جرداً لما تبقى من أموال عائدة للسجناء، ولم يكن قد بقي آنذاك، سوى مئات من الليرات في كل مهجع، فأوعزت إدارة السجن إلى أحد الرقباء بالمرور على جميع المهاجع طالباً من كل مهجع مبلغ (500) ليرة، ثمن أقفال للأبواب، ومصابيح كهرباء (لنبات).