حرب غزة والروح الصليبية

2024.02.02 | 06:16 دمشق

حرب غزة والروح الصليبية
+A
حجم الخط
-A

خلال حرب غزة الحالية، كان واضحا الاصطفاف الغربي شبه الأعمى مع العصبة المتطرفة التي تحكم إسرائيل، في كل ما تذهب إليه من إجراءات ومسالك خارجة عن كل عرف قانوني وإنساني بحق سكان قطاع غزة المستضعفين والمحاصرين في بقعة جغرافية ضيقة.

ولعل من المواقف المعبرة في هذا السياق، الاصطفاف الغربي السريع خلف المزاعم الإسرائيلية تجاه منظمة "إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة، حيث بادرت الولايات المتحدة، ونحو 10 دول أوروبية إلى قطع التمويل عن المنظمة، وهي الأهم على صعيد تقديم المساعدات لأهالي قطاع غزة، بزعم مشاركة 12 من موظفي الأونروا في هجوم 7 من أكتوبر ضد إسرائيل.

وتشير هذه الخطوة المنسقة إلى الأساس الرخو الذي تنهض عليه المزاعم الغربية بشأن الحرص على إيصال المساعدات للمنكوبين في قطاع غزة، بحيث تتم التضحية بأهم أداة لتقديم هذه المساعدات بناء على مزاعم هشة تستند إلى حسابات إسرائيلية ثأرية مع هذه المنظمة، والأمم المتحدة ككل، ليس على خلفية موقفها المتوازن نسبيا من العدوان على غزة وحسب، بل لرغبة إسرائيلية قديمة معروفة في إنهاء وجود "الأونروا" لما تمثله من تذكير مستمر بمحنة اللاجئين الفلسطينيين، بينما تريد إسرائيل طي هذا الملف، ودمج اللاجئين في الدول التي هُجروا إليها.

قيل الكثير في تفسير هذا الاصطفاف الغربي الشائن مع إسرائيل، غير أن القليل مما قيل تطرّق إلى ما نحسب أنه جوهر العلاقة بين الجانبين، والمتصل بالإرث الديني والتاريخي، وعقد التفوق الحضاري، وحتى العنصري

وطبعا، ليس هذا الموقف هو الوحيد الذي عبّرت فيه الدول الغربية عن اصطفافها الأعمى خلف إسرائيل خلال الحرب على غزة، وسبق ذلك بأيام مساندة تلك الدول لإسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، والتي هي منتوج غربي، لكنه بالطبع، غير مخصص لمحاكمة الغرب وامتداده إسرائيل.

لقد قيل الكثير في تفسير هذا الاصطفاف الغربي الشائن مع إسرائيل، غير أن القليل مما قيل تطرق إلى ما نحسب أنه جوهر العلاقة بين الجانبين، والمتصل بالإرث الديني والتاريخي، وعقد التفوق الحضاري، وحتى العنصري.

وسريعا بعد هجوم 7 من أكتوبر، طفت إلى السطح تصريحات "معبرة" عن الروح الجمعية للعالم الغربي، بوصف ما جرى ضربة غير متوقعة ليس لحليف سياسي أو استراتيجي المتمثل بإسرائيل، بل لـ"الحضارة الغربية" نفسها بإرثها التاريخي والديني المتداخل على نحو ما مع "الإرث اليهودي"، خاصة بالنسبة للمسيحيين البروتستانت الإنجيليين الذي شكلوا نواة الدولة الأميركية بعيد اكتشافها، وقاموا بدور رئيسي في تشكيل الثقافة والهوية الأميركية، ما يعني أن التوراة أسهمت بشكل كبير في تشكيل الهوية الأميركية، ما أدى إلى ظهور ثقافة مسيحية يهودية مشتركة، تؤمن بفكرة الشعب المختار ونظرية نهاية الحياة على الأرض ومعركة "هرمجدون" وعودة المسيح، والتي لن تتم إلا بعد عودة جميع يهود العالم للدولة اليهودية في فلسطين وإعادة بناء الهيكل في أورشليم (القدس) على أنقاض المسجد الأقصى.

ومن المفهوم أن إسرائيل تبتهج لهذا التوصيف، ولم يكفّ نتنياهو طوال الأشهر الماضية عن الصراخ عاليا بأن هجوم حماس لم يستهدف إسرائيل فقط، بل الحضارة الغربية برمتها، وهو يريد بطبيعة الحال توسيع المعركة، ليشارك فيها الغرب كله، وألا تظل محصورة بإسرائيل وحدها.

ومنذ الأيام الأولى للحرب، قال السيناتور الأميركي ليندسي غراهام: "نحن في حرب دينية"، داعيا إسرائيل إلى "تسوية الأرض" للدفاع عن نفسها، ثم أعلن الرئيس الأميركي نفسه جو بايدن "ليس ضروريا أن تكون يهوديا حتى تصبح صهيونيا، وأنا صهيوني وهذه حقيقة لا أعتذر عنها" بينما عبر وزير خارجيته بلينكن بوضوح خلال زيارته التضامنية لإسرائيل "أنه لم يأتِ لإسرائيل كونه وزيرا لخارجية الولايات المتحدة فقط، ولكن بوصفه يهوديا".

وفي إسرائيل نفسها، وبعد سيل من تبريكات الحاخامات والساسة المتطرفين للحرب على غزة ودعواتهم للثأر من كل سكان القطاع، وهدمه فوق رؤوس سكانه، جرى استبدال اسم الحرب على غزة بـ"حرب التكوين" بدل "السيوف الحديدية"، وهو اسم يشير إلى الكتاب التوراتي. 

ومنذ الأيام الأولى للحرب، اعتبر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ أنه "لا يوجد أبرياء في قطاع غزة" بينما استذكر رئيس الحكومة نتنياهو الحرب مع "العمالقة" الذين كانوا يسكنون فلسطين حين قدوم اليهود إليها قبل 3000 عام، وهو استشهاد تطرق إليه المحامون من جنوب إفريقيا خلال مرافعاتهم أمام محكمة العدل الدولية، واتهام إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية في غزة.

لا سبيل لجمع اليهودي العراقي والمغربي مع الروسي والإثيوبي والبولندي، إلا بهذه الفكرة الخرافية والمصلحية

ورغم أن إسرائيل اتبعت رسميا سياسات "علمانية" منذ تأسيسها في عام 1948، بهدف الحصول على دعم دولي، والحفاظ على وحدتها الداخلية، إلا أنها تعرف نفسها كدولة يهودية، بمعنى أن سكانها يتألفون بشكل أساسي من العنصر اليهودي، وفق القانون الذي أقره الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) في يوليو تموز 2018. واليهود، لم يكونوا يوما أمة جامعة ذات هوية موحدة، لذلك يتم التركيز على "الفكرة الصهيونية" المثقلة بالخرافات التاريخية كهوية فكرية عقائدية توحد هذه الأعراق المتعددة، حيث لا سبيل لجمع اليهودي العراقي والمغربي مع الروسي والإثيوبي والبولندي، إلا بهذه الفكرة الخرافية والمصلحية في آن، إذ يمكن لأي متشرد يهودي في العالم أن يصبح مالكا ومتحكما، بمجرد وصوله لإسرائيل، ونيله جنسيتها.

ولا شك أن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، بمباركة علنية أو ضمنية من مجمل الطبقة السياسية- الإيدلوجية المتحكمة في دول الغرب، قد عرّت النفاق الرسمي الغربي المديد بشأن مبادئ المساواة بين البشر وحقوق الإنسان، وكشفت حقيقة المواقف الغربية حين توضع على المحكّ، وهو ما شكل صدمة لكثير من النخب في الغرب، وللشارع الأوروبي والأميركي، عبر المظاهرات الكبيرة التي تخرج بشكل شبه يومي في المدن الأوروبية والأميركية.