الغزو الإيراني وأفقه المسدود

2021.10.25 | 06:13 دمشق

x31.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تكن علاقتنا –نحن العرب- بإيران علاقة حسنة على امتداد القرن العشرين، فناهيك عن ضم الأحواز العربية إلى إيران مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وقف نظام الشاه في مواجهة المد القومي العربي. لنتذكر في هذا الصدد المعركة حول تسمية الخليج العربي بهذا الاسم، وحصول البحرين على استقلالها...إلخ.  ولكن نظام الشاه كان يتعامل مع محيطه بمنطق الدولة، بمعنى أنه لم يرفع شعار الثورة ولا تصديرها، على الرغم من محاولاته المتعثرة في مد نفوذه نحو الأقليات الشيعية في البلدان العربية. كذلك لم يكن نظام الشاه على الرغم من انتمائه إلى أقلية دينية في وسط العالم الإسلامي معنيا بالماضي، لقد كان مشغولا ككل نظام حكم مستبد بتثبيت أركانه من جهة، وبالبحث عن موقع لإيران في قلب المعادلات الإقليمية والدولية من جهة ثانية، ناهيك عن رغبته في تحقيق قدر معقول من التنمية للشعب الإيراني.

ما حصل بعد مجيء الملالي إلى الحكم أن نظام الحكم الديني بدأ ينظر إلى محيطه الإقليمي، وخصوصا البلاد العربية، من زاوية أحقاد الماضي وخلافاته. وهي خلافات لا تعني النظام في شيء إلا بوصفها وسيلة لتدمير الجوار الإقليمي، انطلاقا من أحلام إمبراطورية يجري استثمار الخلافات الدينية في الوصول إليها. ومع كل أخطاء النظام العراقي السابق، ينبغي الاعتراف بأن العراق كان سدا أمام محاولات النظام الإيراني التغلغل في البلاد العربية، ولكن الغزو الأميركي للعراق فتح المشرق العربي على عاصفة إيرانية تحمل ميليشياتها الموت والدمار في كل منطقة تمر بها. وقد ساعدت إيران على ذلك الهشاشة التي تتسم بها الدولة العربية في المشرق، وعقود طويلة من الاستبداد السياسي، الأمر الذي أدى إلى عزل المواطنين الشيعة في البلدان العربية، وإلحاقهم بالمشروع الإيراني بوصفه "حامي الشيعة" في العالم.

ثمة كثير من الأسباب الوجيهة التي تجيز المقارنة بين الغزو المغولي للمشرق العربي في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، وما تبعه من القضاء على الخلافة العباسية، وتدمير المدن والمراكز الحضارية والبشرية، وما يقوم به الغزو الإيراني للمشرق العربي في الوقت الحالي. ولكن حظ عرب المشرق آنذاك كان أفضل من حالهم اليوم، فالمشروع الإيراني في تدمير المشرق العربي جاء بمباركة ضمنية من القوى العالمية وبمساهمة منها كما في حالة روسيا واشتراكها في المعركة إلى جانب إيران في سوريا. هذا التحالف الضمني لم يكن محبة بإيران الشيعية، ولا كرها بالمشرق العربي السني، ولكنه هدف إلى إيجاد معركة طائفية في قلب العالم الإسلامي، تستنزف موارده وطاقات أبنائه بمساعدة نظام متخلف ينتمي إلى عالم القرون الوسطى. كان القضاء على أي مشروع حضاري شامل في صلب السياسات الدولية في منطقتنا، بغية استمرار السيطرة على المنطقة ومواردها الهائلة.

نلاحظ بدلا من مواجهة هذا الغزو صعود تيار الانكفاء والانعزال والدعوات إلى الوطنية، والبحث عن إنجازات اقتصادية وتنموية، للتدليل على صواب الخيارات السياسية لهذه الدول

على خلاف القوة العسكرية التي شكلها المماليك في مواجهة الغزو المغولي، والتي ساهمت في كسر الهجمة المغولية الشرسة، والتخفيف من آثارها على منطقة بلاد الشام، فإن عرب المشرق اليوم يواجهون معركتهم وحدهم، دون أي مساعدة من الدول العربية التي يفترض بها أن تقف في مواجهة هذه الهجمة المتوحشة. لم يستدع هذا التوحش الإيراني أي رد فعل، بما في ذلك رد الفعل السياسي أو الديني، بل نلاحظ بدلا من مواجهة هذا الغزو صعود تيار الانكفاء والانعزال والدعوات إلى الوطنية، والبحث عن إنجازات اقتصادية وتنموية، للتدليل على صواب الخيارات السياسية لهذه الدول، وكأن من الممكن استمرار المشروع التنموي في ظل الحرب الدموية الشرسة التي تستهدف اقتلاع عرب المشرق من أرضهم، وتحويلهم إلى أقليات في بلدانهم، أو لاجئين ينتشرون على خريطة العالم.

راكمت إيران خلال العقدين الماضيين الكثير من الانتصارات، فقد أصبحت هي الفاعل السياسي الحقيقي في العراق، بعد الغزو الأميركي عام 2003م، ووقفت مع نظام الأسد في حربه على الشعب السوري، وفي لبنان أصبح ذراعها العسكري المتمثل بحزب الله هو المسيطر على الساحة اللبنانية. أما اليمن فهو مأساة حقيقية، فجماعة الحوثي المسيطرة هناك هي نظام متخلف، أعاد اليمن إلى ما قبل النظام الجمهوري، النظام الذي نقل اليمن حرفيا من عالم القرون الوسطى الذي كان يعيش فيه في ظل الحكم الإمامي الكهنوتي المتخلف.

التفوق العسكري الذي امتلكته إيران مكنها من تحقيق "انتصارات عسكرية" في كل الحروب التي خاضتها، وبخاصة مع دخولها شريكا في محاربة "الإرهاب السني". جاء هذا كله من خلال سياسة دولية راهنت على إيجاد توازن في المنطقة يهدف إلى تقوية أقلية مذهبية شيعية، ستبقى في حالة صدام مع أغلبية المجتمعات التي تهيمن عليها. لقد دمر المشروع الإيراني المنطقة وأحالها أرضا يبابا، ومن المستحيل في المدى المنظور أن تستعيد جزءا مما خسرته، بشريا واقتصاديا وتنمويا، ناهيك طبعا عن استحالة العيش بين مكوناتها بعد بحر الدم الذي خلفته عاصفة الخراب الإيرانية.

على الرغم من كل ما حققه الغزو الإيراني، فقد اصطدم بحقيقة ديمغرافية لا يمكن تجاهلها، وهي أنه مهما أحدث التشريد والقتل من تهجير للعرب السنة في المنطقة، فإنهم سيظلون الأغلبية فيها، يضاف إلى ذلك الموارد الهائلة التي احتاجتها آلة القتل والتدمير الإيرانية، والموارد التي يتطلبها استمرار المشروع على الأرض، فالمشروع الإيراني يشبه عمليا استزراع عضو غريب في جسد الإنسان، وهو يحتاج إلى رعاية دائمة، ودعم مالي، وحضور دائم على الأرض، لأن الابتعاد عنه سيؤدي إلى موته لا محالة.

وصل المشروع الإيراني اليوم إلى نقطة حاسمة، إلى الجدار الذي كان لا بد أن يصطدم به في نهاية المطاف

يضاف إلى الحقيقة الديمغرافية السابقة صحوة بدأت تتشكل في مختلف المناطق التي تسيطر عليها إيران وأتباعها، ففي وسط هذا الخراب الواسع الذي أحدثه الغزو الفارسي، ظهرت بعض الإرهاصات الإيجابية في الفترة الأخيرة، فالانتخابات العراقية الأخيرة أثبتت تراجع التأييد الشعبي للمشروع الإيراني وللقوى التي تدعمها إيران، وفي سوريا صحا المؤيدون على حقيقة عجز النظام عن تحقيق أي شيء إلا الموت والدمار، وفي لبنان، اكتشف حزب الله حدود القوة في بلد متعدد الطوائف...إلخ. فحين توقفت آلة الدمار الإيرانية قليلا، وجاء وقت تسديد جزء من فاتورة الوقوف إلى جانب إيران وميليشياتها في عموم المنطقة، اكتشف الموهومون بالمشروع الإيراني أن الخزانة كانت خاوية. ولهذا لاحظنا الخيبة التي تسيطر على أتباع المشروع الذين اكتشفوا هول الخسارة، بعد فوات الأوان.

وصل المشروع الإيراني اليوم إلى نقطة حاسمة، إلى الجدار الذي كان لا بد أن يصطدم به في نهاية المطاف: العجز التام عن بناء نموذج قادر على توفير أبسط متطلبات الحياة الكريمة لمناطق النفوذ التي يحكمها. فالتاريخ يعلمنا أن القوة المخربة تعجز عن البناء.