آخر تجليات "العهد القوي".. شاحنات محملة بقهر السوريين وبقايا خيامهم

2022.11.08 | 07:20 دمشق

مخيم للسوريين في بر الياس ـ رويترز
+A
حجم الخط
-A

يبدو أن هوس "ميشيل عون" للوصول إلى موقع الرئاسة اللبنانية، والذي دفعه لتقديم كل التنازلات التي طلبها منه المتحكمون بالقرار اللبناني، بدءاً من حزب الله وسوريا ووصولاً إلى إيران، لا يقل أبداً عن هوس صهره "جبران باسيل"، فكلاهما يريان "قصر بعبدا" موقعاً للسلطة والاستثمار، وليس موقعاً للمسؤولية.

لا يختلف عون وصهره في رؤيتهما لموقع الرئاسة عن معظم الحكام العرب، ولا يختلف لبنان عن غيره كثيراً، فهذه المنطقة من العالم لم تعرف الشرعية الحقيقية للوصول إلى السلطة، ولم تكن السلطة موقعاً لتحمّل المسؤولية في تاريخها الحديث إلا نادراً،  لكن ما يختلف في لبنان هو أنه لايزال قادراً على استبدال رؤسائه، ولم يعرف حتى اليوم شعار "إلى الأبد"، ومع هذا فإن المشهد السياسي يكاد يتطابق في كل هذا المشرق العربي.

ست سنوات أمضاها "ميشال عون" في قصر "بعبدا"، كان بارعاً خلالها في الانتقال من فشل إلى آخر، ومن تنازل إلى تنازل، ورغم أنه أطلق على فترة رئاسته اسم "العهد القوي"، إلا أن الوقائع كلّها أثبتت بوضوح أنه من أضعف العهود التي عرفها لبنان.

أمران حاول عون وصهره وأنصارهما تصويرهما على أنهما إنجازان  كبيران "للعهد القوي"، ورغم أنهما جاءا في الأيام الأخيرة من سنواته الست، إلا أنهما حاولا إخراجهما وكأنهما  مفصلان في تاريخ لبنان الحديث، أولهما هو ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والاحتلال الاسرائيلي، والذي كان من الممكن أن يوقعه لبنان منذ عقود، وبشروط هي أفضل بكثير للبنان من الاتفاق الحالي، والذي لم يكن للبنان أي دور فيه سوى في التوقيع، أما الثاني فهو إرغام اللاجئين السوريين على العودة الى سوريا.. أي إلى مقصلة قاتلهم.

ست سنوات أمضاها "ميشال عون" في قصر "بعبدا"، كان بارعاً خلالها في الانتقال من فشل إلى آخر، ومن تنازل إلى تنازل، ورغم أنه أطلق على فترة رئاسته اسم "العهد القوي"، إلا أن الوقائع كلّها أثبتت بوضوح أنه من أضعف العهود التي عرفها لبنان

باختصار، لم يكن عهد "عون" قوياً، إلا على المواطنين اللبنانين والسوريين، فأفقر وأفلس اللبنانيين، وتاجر بالسوريين اللاجئين، وجعل منهم مادته التي اجتّرها إلى حدَّ الابتذال، وتحول "جبران باسيل" إلى نخاس يتاجر بمعاناة السوريين في لبنان، ويتسول عليهم في أروقة الدول المانحة، وفي اجتماعات المنظمات الدولية والأمم المتحدة.

في تقارير لوكالات أنباء ومحطات تلفزيونية، تنقل تفاصيل عودة السوريين من لبنان، يُمكن لمن يريد أن يتلمس حقيقة هذه الإعادة وجوهرها، أن يتمعن في الوجوه اليائسة للسوريين، سيرى كم من الخوف في عيونهم، وكم من الضياع، لايجرؤون على الكلام، فهم عائدون إلى المقصلة، ولايجرؤون حتى على النظر طويلاً إلى عدسات الصحفيين، ويحيط بهم عناصر الأمن العام اللبناني، وعناصر من المخابرات السورية.

إذا كانت الطريق إلى قصر بعبدا تمرُّ عبر دمشق، فهل من الضروري أن تكون بكل هذا الابتذال، وهل يصعب على موقع الرئاسة اللبنانية أن يضع لبنان ولو قليلاً  قبل تبعيته لعائلة الأسد وعصابته المتغلغلة في لبنان، وأي عهد هذا الذي يُفَجَّر فيه أهم مرفق اقتصادي (مرفأ بيروت)، بسبب تسخير حزب الله وآل الأسد كل مقدرات لبنان وسوريا لخدمة مشروعهما، ولا يجرؤ رئيس هذا العهد على الإشارة ولو قليلاً إلى المجرم الحقيقي في هذه الكارثة الوطنية الكبرى؟؟!.

لم تستبح عائلة الأسد وحزب الله لبنان وإمكاناته فحسب، بل استباحت صوته في الخارج، ففي مؤتمر القمة العربية الأخير الذي عقد في الجزائر، كان وزير الخارجية اللبناني "عبد الله بوحبيب" ناطقاً باسم عائلة الأسد، أكثر بكثير مما كان ناطقاً باسم لبنان، وكأن لبنان الغارق في مشاكله والمهدد بانهيار شامل، ليس مهماً إلى الحد الذي يشغل وزير خارجيته فيه وقته، فالطريق إلى منصب جديد في لبنان لا يمر عبر الشعب اللبناني، ولا يمر عبر آلام هذا الشعب، ومعاناته، بل يمر حصراً بالخدمات المقدمة إلى عائلة الأسد وحليفه حزب الله.

لم تفضِ الديمقراطية اللبنانية، والتي -على علاتها- لاتزال تحتفظ ببعض مظاهر الديمقراطية في هذا المشرق العربي المقموع حتى آخره، إلّا إلى وجه آخر مشوّه لديكتاتورية ربما سيحسد اللبنانيون يوماً، شعوبَ الدول الأخرى في هذا الشرق على ديكتاتورياتهم مقارنة بها، ففي لبنان منعت نسخته الديمقراطية المشوّهة من إنتاج ديكتاتورية مباشرة وواضحة، وأفضت إلى صيغة أخرى تجلت بتشابك ديكتاتوريات ممسوخة ومتعددة، ومتراكبة، تبدأ من زعامات سياسية مهووسة بالسلطة والزعامة والمال، ترتهن لديكتاتورية أخرى أعلى منها، مدجّجة بسلاح يتفوق على سلاح الدولة، وتلك بدورها ترتهن لديكتاتورية خارجية، وهكذا نشأت ديكتاتورية متعددة الطبقات، طبقات من الديكتاتوريات المشوّهة والمأزومة والمفلسة، وكلّها على عداء مستفحل ودموي مع شعوبها، وكلّها قادرة على التحكم بلبنان، وبمصيره رغم أنها خارجه.

ماذا يمكن أن يقدم النظام السوري اليوم للبنان، سوى أن ينقل إليه أزمته المتفاقمة، وماذا يمكن أن تقدم إيران للبنان ولسوريا، إلا ما قدمته عبر عقود طويلة من دمار وخراب وتبعية، ومخدرات، رغم أنها كانت قوية، بينما هي اليوم غارقة في مظاهرات واستياء شعبي مستمر، منذ ما يقرب من شهر ونصف، وهل يحتاج ساسة لبنان وسوريا إلى عناء كبير، لكي ينتهجوا أبجدية الخراب الذي يسوقون بلدانهم ومواطنيهم إليه، أم أن للتبعية والاستزلام والاسترزاق غايات عصية على الفهم؟

لم يبقَ لكي تصبح مقولة "شعب واحد في بلدين" - كما يحلو للبعض أن يقول- واقعاً معاشاً، إلا أن يستقدم "باسيل" ميليشيات إيرانية وعراقية كلواء أبو الفضل العباس، وعصائب أهل الحق، وجيش المهدي، وفيلق بدر، وحزب الله العراقي، ولواء ذو الفقار .. كتائب سيد الشهداء  ... لواء الامام الحسين... الخ، لقمع الشعب اللبناني، ثم يعلن من طهران أن لبنان أصبح محافظة أخرى تتبع للولي الفقيه، عندها سيضطر السيد باسيل سليل العهد القوي لتقديم أوراقه اعتماده في طهران، وليس في دمشق، أما في حال لم يستقدم باسيل كل هؤلاء، فإن العهد القوي لم ينتهِ وحسب، بل وانتهت معه كل "العونية" السياسية.