icon
التغطية الحية

نازحو دير الزور..الفرار من الجحيم إلى سجون الصحراء

2019.02.05 | 18:29 دمشق

نازحون فارون من المعارك بين قسد وتنظيم الدولة شرقي دير الزور(إنترنت)
عائشة صبري - تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

جثةٌ هنا، وجريحٌ هناك، مفقودون تحت الأنقاض، ويتيمٌ بلا عائلة، أما الناجون بأرواحهم فهم أسرى في مخيمات الصحراء، تخنقهم الرمال وروائح الدخان، ولم يعد أمامهم سوى فتح أبواب الدعاء.

هكذا تتلخص حياةُ نازحي ريف دير الزور الشرقي الذين تتفاقم معاناتهم بعيدًا عن عدسات الإعلام، فلا أحد يستطيعُ توثيقَ عددِ الضحايا أو أن يعالجَ الجرحى، فغبارُ المعاركِ يطغى على المشهد، ليغدو الطفلُ ذا شيبٍ، وكأنّها أهوالُ يومِ القيامة.

 

وعندما يُحالفك الحظ، وتلتقط شبكة اتصالٍ مع أحد المدنيين النازحين، تتسارع العبرات منهم، لتسأل أحدهم؛ كم عمرك؟ فيجيب "عمري كان لحظاتٍ، لكنَّ اليوم أصبح عمري سبعينَ سنةً"، وهل تراها مأساة يا عماه؟ "حتمًا، فمأساة الحياة ليس الموت والتشرُّد، بل هي ما يموت في دواخلنا ونحن أحياء"، وماذا تريد أن تقول لنا؟ أقول"نحن عابرون فهل بلغتكم رائحة الدماء، وهل سمعتم أنّاتِ أطفالنا تحت الركامِ، ولمن التاريخُ الآن؟".

جثةٌ هنا، وجريحٌ هناك، مفقودون تحت الأنقاض، ويتيمٌ بلا عائلة، أما الناجون بأرواحهم فهم أسرى في مخيمات الصحراء

وماذا تعني لك دير الزور؟ "هي أرضٌ كأيِّ أرضٍ، غير أنَّ فيها مسلمين بات الموتُ طعامَهم وشرابَهم، غطاءهم وفراشَهم، دونما صوتٍ يعلو لهم سوى "صورة هنا أو رسالة صوتية هناك"، تخرج خلسةً كي لا يفضح صوتُها مصدرها فيُصيبه بسببها ما أخطأه قبلها، تموتُ بصمتٍ، كما مات من قبلها، ما أغاثهم استجداء، وما ضرّهم استغناء، فالموتُ هو ذاته في كلتا الحالتين". هكذا وصف أحد الناجين من مدينة هجين حاله في حديث مع موقع تلفزيون سوريا.

نازح آخر أعرب عن استياءِ جميع المحاصرين، بسبب عدم السماح لهم بالحديث عبر وسائل الإعلام، متسائلا؛ هل تعلمون أنَّ الصواريخَ والقذائفَ، وكلَّ أنواعِ الموت التي تصبُّ علينا "أرحم من صمتكم لأنّها تقطف أروحنا دونَ مجاملة وكذب"، فهذا واقع حقيقي نعيشه، هل تعلمون أنَّ عشرات العائلات تحت الأنقاض، وأنّنا نسمع صراخهم، ونقف عاجزين!

وأضاف"رأيتُ امرأةً شبهَ عاريَّةٍ تنزفُ أقدامها، وتُحاول إخراجَ أطفالها العالقين تحت الأنقاض، حيث جلبتُ لها ثوبًا أنا وأحد الجيران، وهنا اختلط صوتُ بكائها بصوت أنين أطفالها، فأخرجنا طفلًا وفتاةً على قيد الحياة، واستشهد طفلان، فما يحدث أفقد الحكيم عقله".

ووصف شاهدٌ ثالث الحياةَ تحت القصفِ والحصار قائلًا "ما زلنا نقتات على الحشائش إنْ وُجدتْ "طعمها علقم"، فالحربُ غير عادلةٍ، إذ تأكل طائرات التحالف الدولي، الأخضر واليابس، وكلّما هطلت الأمطار تجدُ المياهَ المتجمعة في الشوارع أشبه ببحيرات من الدماء، لتشعر بأنّ "الحياة معدومة والزمن متوقف"، ولولا صوت القصف والاشتباكات لظننا أنّنا "وحدنا نعيش على وجه الأرض".

بينما قال أحدهم عن الأهوال التي رآها بعد خروجه من مدينة هجين "خرجنا قبل الفجر نركض تارةً، ونزحف تارةً  ننبطح مرَّةً، ونمشي أخرى نحمل أوجاعنا فما أثقلها علينا فكلُّ ما عشناه من جحيم بكفة، وهذا اليوم بكفة، كلّما نظرتُ خلفي أرى عدد الأشخاص يتناقص، والطائرات المُسيَّرة تحوم فوقنا، وتفرغ علينا ما بجعبتها من حمم".

كلّما عادت الطائرات انبطح الجميع مرددًا الشهادة، وأبو همام يجول بيننا ويقول لنا "ابقوا مكانكم قليلًا عصابات الـ PKK يُطلقون القنابل المضيئة"، سكن المشهدُ، ولم نعدْ نسمع سوى أنين الجرحى، وبكاء نساءٍ البعض منهن يُرضعن أطفالهن، بينما تقول فتاة لأمها لنبقَ حتّى الصباح، وإن أمسكوا بنا ماذا سيفعلون ؟ تُجيبها الأم "لن نسلِّم أنفسنا لقتلة والدك وأخوالك، فهؤلاء لن يرحمونا، والموت أهون عليَّ من سماع صراخكِ وهم (...)" أسكتتها الدموع عن قول تلك الكلمة القبيحة "الاغتصاب".

 

أطفال أيتام في المناطق المحاصرة

كشف مصدر محلِّي لموقع تلفزيون سوريا عن وجود عشرات الأطفال الأيتام ممن قُتل آباؤهم وأمهاتهم، وبقوا وحيدين، وما زالوا محاصرين في مناطق التنظيم الأخيرة وهي أجزاء من قرى "المراشدة والسفافنة والعرقوب وقسم بسيط من الباغوز فوقاني"، حيث يرفض أيّ شخص إخراج هؤلاء الأطفال معه، بسبب صعوبة الطريق، والمسؤوليَّة التي تقع عليه في حال تم قصفهم أو اعتقالهم.

 

أوضاع المخيمات في الصحراء

تُعاني المخيَّمات واقعًا مأساويًّا والبعض منها يُعتبر سجنًا من الصعب الخروج منه إلّا بدفع مبالغ ماليَّة ضخمة تصل إلى ألوف الدولارات أحيانًا.

وقال "فراس الفراتي" الناطق باسم مكتب دير الزور الإعلامي الموحد لموقع تلفزيون سوريا إنَّ عشرات المخيَّمات العشوائيَّة تنتشر على طول شريط نهر الفرات من الجهة الشرقيَّة الخاضعة لسيطرة قسد، بالقرب من بلدات وقرى ريف دير الزور الشرقي، وبناها الأهالي بجهودهم الخاصة، ولا أحد يُقدِّم لهم أدنى أنواع المساعدة لا منظمات ولا قسد ولا غيرهم.

وأضاف أنَّ كلَّ عائلةٍ تقومُ بشراءِ خيمةٍ، وأغلبهم نزحوا من مناطق الاشتباكات في مدينة هجين ومحيطها، وقد أجبرت قسد عددًا منهم على تفكيك تلك المخيمات، وساقتهم إلى مخيم الهول (جنوب شرقي الحسكة) "سيئ الصيت"، إذ وقعت حادثة قتل في مخيم مدينة البصيرة إثر رفض البعض من العائلات هدم الخيم والرحيل مع عناصر قسد، فقاموا بإطلاق النار مما أدى إلى مقتل شاب في العاشر من كانون الثاني، وذلك تحت ذريعة وجود خلايا نائمة لتنظيم الدولة في هذه المخيمات، والاعتقالات كثيرة لذات التهمة.

أمَّا بما يخصّ الأحداث الجارية، فقد خرج قرابة ١٥ آلالف نازح من مناطق سيطرة التنظيم منذ بدء العملية الأخيرة (دحر الإرهاب في 11 من أيلول الماضي) إلى مناطق قسد التي تبتزهم ماليًّا، وأحيانًا تسرق أموالًا منهم، ويتم أخذهم بعد ذلك إلى قاعدة للتحالف الدولي في حقل العمر النفطي، يُشرف عليها الأميركان، حيث نصبت خيم كبيرة لاستيعابهم  والتحقيق معهم - بحسب الفراتي - ومن ثم يُنقلون إلى مخيم الهول ليُعتبر كلّ من بقي في مناطق سيطرة داعش ينتمي للتنظيم، وهو عبارة عن سجن كبير يُمنع الخروج منه، وتُمنع الزيارات إلّا من قبل الأقارب بعد تقديم إثبات بصلة القرابة، ومن يُريد الخروج عليه دفع مبالغ كبيرة، ورشاوى لقيادات وعناصر قسد وصلت أحيانا إلى عشرة آلاف دولار.

وأشار الفراتي، إلى أنَّ المخيم الوحيد المنظّم في دير الزور، يقع في منطقة أبو خشب التي تبعد "70كم" شمال غربي دير الزور، ويقطن فيه نازحون أغلبهم من مدن "موحسن والميادين والبوكمال وريفها" وهي مناطق خاضعة لسيطرة نظام الأسد.

تُعاني المخيَّمات واقعًا مأساويًّا وبعضها يُعتبر سجنًا من الصعب الخروج منه إلّا بدفع مبالغ ماليَّة ضخمة تصل إلى آلاف الدولارات أحيانًا

وأوضح أنَّ مخيم أبو خشب، هو الوحيد من بين المخيمات الواقعة ضمن الحدود الإدارية لدير الزور الذي تُوجد فيه مدرسة، وتُقدَّم فيه المساعدات القليلة من قبل منظمات لا تُغطي إلا جزءًا بسيطًا من الاحتياجات، وخاصَّة مواد التدفئة، ويقطنه حاليًّا حوالي530عائلةً أيّ ما يُقارب الـ 3000من المُهجّرين بعد أن غادر أكثر من نصف العدد مع حلول الشتاء، إمَّا نحو الشمال السوري الخاضع لسيطرة الجيش الحرّ، أو منهم عاد مضطرًا إلى مناطق النظام بعد أن عانى الأمرين في النزوح، والقليل عادوا إلى قراهم التي سيطرت عليها قسد مؤخرًا.

في حين، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي، مؤخرًا، صورًا تُظهر الفارّين من مناطق تنظيم الدولة وعلى وجوههم التعب والإرهاق، حيث اعتلت ملابسهم الأتربة والغبار، ومعظمهم يُعاني من أوضاع إنسانيَّة سيئة للغاية نتيجة الحصار لأشهر عديدة، وفقدان مقوَّمات الحياة، فهم يُعانون بصمت، دونَ تعاطفٍ من أحد، أو ضجيجٍ تصخبُ به مواقع التواصل الاجتماعي، فمناطقُ داعش محكومٌ عليها بالتعتيم الإعلامي، والسكوت على مرتكبي الجرائم بحجة "الإرهاب".

ومن جهتها، أعلنت اللجنة الدوليَّة للصليب الأحمر، (الثلاثاء 29 يناير)، فرار أكثر من 10 آلاف شخص معظمهم من الأطفال، من مواقع تحت سيطرة تنظيم الدولة شرقي سوريا، منذ يوم الجمعة (25 كانون الثاني)، كما طالبت المفوضية الساميَّة للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، (الجمعة 1 شباط)، "قسد" بتخصيص موقع على الطريق إلى مخيم الهول يُمكن فيه تقديم مساعدات للمدنيين الذين يفرُّون إلى المخيم في أجواء شديدة البرودة هربًا من المعارك.

يأتي هذا مع تواصل طائرات التحالف الدولي قصفها لجيب تنظيم الدولة المحاصر شرقي ديرالزور، وكانت آخر مجزرة للتحالف يوم (29 كانون الثاني) راح ضحيتها 12 مدنيًّا غالبيتهم نساء وأطفال من عائلة واحدة بمحيط بلدة الباغوز، بالإضافة إلى القصف المدفعي لقسد والنظام.