شهوة الرئاسة

2018.09.19 | 11:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

(الرئيس) نهاية حلم الشخصية القيادية، النفخة الأخيرة في بالون الذات، بداية ممارسة السلطة، قلق المستبد، خوف العادل، استحقاق الجريمة واستحقاق الشرف، خضوع القطيع. رحلة المعنى من زعيم القبيلة إلى الأمير والملك، إلى الخليفة والإمبراطور ليطوف في نهاية الأمر حول كعبة الأبوة، وفي استثناء نادر في التاريخ الحديث ينصبه المنتفعون منه رباً كما رأينا في بدايات الثورة السورية.

انزياح المعنى وتوالده ضمن هذا النسق الثقافي الذي شكل الوعي وبلور الشخصية حتى غدا بين المسلمات عند بني البشر جميعاً، أسهمت في تكريسه الأديان وكل المفكرين والفلاسفة والشعراء، انطلاقاً من كونه ضرورة تنسحق من خلالها الذوات المنقادة، قد يكون ضرورة بالفعل ضمن المفاهيم القبلية والمفاهيم العسكرية، وقد يكون ضرورة _على مضض_ في حقل السياسة شرط أن يكون الرئيس ضمن الحدود الدنيا من الصلاحيات كما هو معمول به في بعض الديمقراطيات العالمية، فالحكم في نهاية المطاف إدارة وليس رسالة أيديولوجية ويستطيع أي مجلس إدارة أن يقوم بكافة المهام والأعباء الموكلة إليه، بغض النظر عن وجود مدير عام أو رئيس.

السياق التاريخي الذي أنجب شيخ القبيلة أو زعيمها أضحى بعيداً جداً ونحن نعيش الألفية الثالثة

أما أن ينسحب المعنى الرئاسي على منظمات حزبية أو اجتماعية أو ثقافية فهذا ما يجب أن يعاد النظر فيه جملة وتفصيلاً إن كنا نؤمن بأهمية العمل الديمقراطي ونجلّ مكانة العقل الإنساني، فالسياق التاريخي الذي أنجب شيخ القبيلة أو زعيمها أضحى بعيداً جداً ونحن نعيش الألفية الثالثة ألفية العولمة والقرية الواحدة التي أنجبت لنا ما يشبه الحكومة الواحدة للعالم أجمع، وأقول الحكومة الواحدة ليس انطلاقاً من نظرية المؤامرة بل من واقع اتحاد العالم أجمع ضد حرية شعب طالب بحريته حيث يتناغم الإعلام العالمي مع السياسات العالمية بصورة لا مثيل لها في التاريخ.

بعد تفجر ثورات الربيع العربي وما رافقه من مواقف لا أخلاقية من الحكومات العالمية التي تدعي الحرية والأخلاق، صار من الواجب إعادة النظر بالكثير من المصطلحات والمفاهيم حتى بأطر العمل. هذه مهمة يتصدى لها أولاً رجالات الفكر والعقل العلمي، مهمة تناط بالنخب الثقافية التي تسعى إلى التغيير نحو الأفضل، وثمة الكثير مما يجب أن نثور عليه أولاً في دواخلنا، قد لا تكون وظيفة الرئيس هي الأولى لكنها حسبما أعتقد تأتي ضمن الأولويات، فالمنظمات الحزبية والثقافية تستطيع بكل يسر وبساطة الاستغناء عنه، ليتقاسم أعضاء مجلس الإدارة مهامه. صحيح أن هذا المصطلح راسخ في الذهنية الجمعية ويتم التعامل معه بمنتهى التسليم، والتفكير بالتخلص منه قد يشكل صدمة لكن بعض الجهد العقلي كفيل بإزالة العوالق الصعبة، فالأوساخ المتراكمة عبر الزمن تحتاج لمنظفات أقوى من المعتاد.

قد يتساءل أحدكم: ما الذي يضيرك في وجود رئيس؟ وهل تريد محو تراث إنساني عام لم ينكره دين ولا فلسفة؟

أثبتت التجارب التاريخية أن أي أيديولوجيا (يمينية أو يسارية) تنشب مخالبها في الحكم ستنتهي إلى حالة استبداد

لقد أثبتت التجارب التاريخية أن أي أيديولوجيا (يمينية أو يسارية) تنشب مخالبها في الحكم ستنتهي إلى حالة استبداد، إذ لا يمكن لها الاستمرار بدونه وقد أدرك الكثير من رؤساء دول العالم الثالث هذه الحقيقة، فاتخذوا من الاستبداد ديناً، واستعاروا من أنساقهم الثقافية وتراثهم التاريخي عبارات القداسة أو التبجيل أو الأبوّة، فصار الرئيس خليفة أو أميراً أو معلماً أو أباً، وصار من حقه تطويع المارقين ورافضي البيعة وفرض الطاعة على التلاميذ والأبناء، يعينه على ذلك دستور مفصل على مقاسه ومنظومة قوانين تخدم تطلعاته وتحقق أمانيه في الديمومة وطاغية العصر بشار الأسد مثال حي صارخ على ذلك مثلما كان أبوه من قبل.

أما على صعيد الثقافة فيكفينا دلالةً تأبيدُ على عقلة عرسان في رئاسة اتحاد الكتاب العرب لأكثر من عقدين، وفي هذه الدلالة ما يشير إلى رسوخ مفاهيم الزعامة والأبوة حتى في ضمائر الكتاب والمبدعين الذين يُفترض أنهم أحرار في دواخلهم، أصحاب عين ثالثة ترى مالا يراه عامة الناس، ويُفترض أنهم في صفوف المعارضة حتى لو كانوا في الجنة، أما أن يستقر هذا المفهوم في ذهنيتهم كبدهية فهذا من علامات التكلس وصدأ الأدمغة، ولذلك لم يكن مستغرباً تطوع عدد ممن يعدون أنفسهم من صفوة النخب الثقافية بشن معركة دفاعاً عن رئيس هو أقل منهم شأنا بكثير على صعيد التحصيل العلمي الأكاديمي، وليس مستغرباً أن تجد أستاذا جامعياً يفرغ وقته لمثل هذه المعركة بدلاً من تفريغ الوقت لبحوثه الجامعية. وهنا يمكننا التساؤل: إلى أي مدى يمكن لكاتب أو مبدع أن يسمح لنفسه بهذا الانسحاق أمام سطوة معنى (الرئيس)؟

لقد عمدت السلطات السياسية سابقاً إلى شراء الذمم الثقافية ليس عن طريق البازار المباشر والتفاوض، وإنما عن طريق التوظيف والترقيات الوظيفية ثم بعد ذلك خلق هاجس الخوف من فقدان هذه الوظيفة. تُرى أليس هذا ما يحدث في معظم عالمنا المتخلف إلى اليوم؟ ويحدث في الجامعات كما يحدث مع وسائل الإعلام، مع المنظمات التي تدعي أنها إنسانية، مع المؤسسات الثقافية، والمؤسسات الدينية؟ في ظل غياب تام أو حضور مشوش لمفاهيم الحرية.

طوبى لإنسان حافظ على جذوة الحرية في داخله. طوبى للأحرار.

كلمات مفتاحية