icon
التغطية الحية

ياسر العظمة ونظراؤه.. أكانوا مجرد "تنفيس" أم أكثر من ذلك؟

2021.06.08 | 06:39 دمشق

maxresdefault.jpg
إسطنبول - إياد الجعفري
+A
حجم الخط
-A

حينما أعلن الفنان السوري ياسر العظمة، عبر صفحته الشخصية على "فيس بوك"، نيله الجنسية الإماراتية قبل أيام، مرفقاً إياها بعبارات مديح للدولة الإماراتية وشكرٍ لسلطاتها، انهالت عليه تعليقات كثيرة من ناشطين معارضين، دانت خطوته تلك، ووصمته بالعار، لموقفه الرمادي من المقتلة التي جرت في بلاده طوال عقدٍ من الزمن. وعبّرت معظم تلك التعليقات عن الرأي التقليدي حيال دور ياسر العظمة في ظل نظام الأسد، المماثل لدور دريد لحام، وغيرهما من الفنانين والكتاب، الذين خدموا أجندات تطيل عمر النظام واستقرار سلطته، باستخدام استراتيجية "التنفيس"، عبر العمل الكوميدي الناقد، المضبوط والموجّه من جانب السلطة.

لكن الحملة التي نالت من ياسر العظمة، وهي ليست الأولى من نوعها، كتلك التي نالت من دريد لحام، رغم الفارق النوعي بين مواقف الرجلين، إذ أيّد لحام النظام بشكل مباشر وصارخ، في حين التزم العظمة الصمت والرمادية.. تلك الحملة على الرجلين تكشف مفارقة قد تضعف النظرية الرائجة بأن دورهما كان تنفيسياً فقط. وقد تدعم نظرية أخرى، غير رائجة، مفادها أن الفن الناقد المضبوط، يعمل باتجاهين معاً، تعزيز آلية التحكم الخاصة بالنظام من جهة، وتفتيت تلك الآلية من جهة أخرى.

فحملة المعارضين على رمادية ياسر العظمة، وموالاة دريد لحام، تؤشر إلى أن معظم الجمهور كان ينتظر منهما مواقفَ أكثر جرأة وقرباً من الشارع، عشية انتفاضه، قبل عقدٍ من الزمن. الأمر الذي يحيلنا إلى نتيجة مفادها، أن الكوميديا الناقدة التي كان يقدمها دريد لحام عبر مسرحياته – التي كتبها محمد الماغوط-، أو ياسر العظمة عبر سلسلة "مرايا"، أو حتى بعدها، مسلسل "بقعة ضوء"، أو غيره من المسلسلات والأفلام والمسرحيات الناقدة للنظام، كانت تنتج أثرين متناقضين في آن. لذا، كان معظم جمهور الثورة يتوقع من نجوم تلك الأعمال الراسخة في ذاكرة أجيال من السوريين، أن يكونوا نموذجاً لما قدموه، من معارضة ونقد، ولو محدوداً، للنظام.

في كتابها، "السيطرة الغامضة – السياسة، الخطاب، والرموز في سوريا المعاصرة"، أفردت الأكاديمية الأميركية، ليزا وادين، فصلاً كاملاً تحت عنوان "علامات التجاوز"، تستعرض فيه سلسلة من الأعمال الفنية، من بينها الكوميدية كمسرحيات دريد لحام ومسلسلات ياسر العظمة، التي كانت تُنتج في ظل سلطة نظام الأسد، والتي مثلت في رأي وادين، شكلاً من أشكال "الممارسات التجاوزية"، التي يمكن أن تُتنج وتديم تصرفات جماعية، بصورة يمكن أن تتطور إلى تحديات واعية على نطاق واسع للنظام السياسي.

نظام الأسد، الذي رسّخ منذ الثمانينيات، ظاهرة تقديس الحاكم، كان يراهن على الطاعة الاختيارية الواعية، من جانب الناس، وعلى امتثالهم له

وإن كانت وادين تقرّ بأن تلك الأعمال الفنية كانت تخرج للجمهور بوعي من السلطة، وبغايات التنفيس، إذ تنظر إليها سلطات النظام كصمام أمان، يسمح للناس بأن ينفسوا عن إحباطهم، وأن يخرجوا التوتر الكامن في أنفسهم، كي لا يجد تعبيراً له في فعل سياسي. إلا أن الأكاديمية الأميركية، تؤكد من جانب آخر، بأنّ لتلك الأعمال أثراً معاكساً للغاية منها، في نفس الوقت، الذي تنتج فيه الأثر المرغوب من جانب السلطة. فنظام الأسد، الذي رسّخ منذ الثمانينيات، ظاهرة تقديس الحاكم، كان يراهن على الطاعة الاختيارية الواعية، من جانب الناس، وعلى امتثالهم له، عبر الاحتفالات والمهرجانات، وغيرها من مناسبات تقديم الولاء للنظام. ووفق تلك الاستراتيجية، يراهن النظام على استخدام تلك الطاعة الاختيارية الواعية ليكون لها أثر تفتيتي بين الناس. فالجميع ينظرون لبعضهم بعضاً من منظار التظاهر العام. فالسوريون اعتادوا النفاق لصالح السلطة، حرصاً على أمنهم من غضبة مخابراتها، وفي نفس الوقت، تزلفاً للحصول على منافع في بعض الحالات. هذا الجو العام من التظاهر والنفاق، يعطي أثراً تفتيتياً للمجتمع، إذ يفقد الجميع الثقة بعضهم بعض، مما يحبط أي نشاط يحوي شيئاً من التمرد، ولو الرمزي، ضد السلطة.

وتقرّ وادين في كتابها، أن النظام استخدم الفن الناقد لخدمة تلك الاستراتيجية، فحينما يشاهد السوريّ مقولات السلطة ذاتها، التي ينافق لها، يتم النيل منها، عبر مشاهد معروضة في التلفزيون أو على المسرح، ويضحك منها، يكون في هذه الحالة، يعيش وعياً ذاتياً بأنه ينافق السلطة، ويتجاوب مع مقولاتها ذاتها، المثيرة للسخرية. أي يشعر السوريّ بأنه يمثّل الطاعة للحاكم، وأنه "منافق". وهو ما يريده النظام تحديداً. أن تكون طاعة الأفراد، واعية واختيارية، لأنها في تلك الحالة، تفقد الفرد احترامه لذاته، ولمجتمعه. وتفقده أيضاً ثقته بالآخرين في مجتمعه، الذين ينافقون جميعاً، مثله. هذا الأثر التفتيتي، يتسبب في ديمومة النظام واستقرار سلطته.

لكن وادين، تعقب بأن الأعمال الكوميدية الناقدة ذاتها التي يستخدمها النظام لهذه الغاية، تعطي، في الوقت نفسه، أثراً معاكساً، لا يحبذه النظام. خاصة في أوساط جمهور المسرحيات الساخرة، حيث يسمع الجميع بعضهم، وهم يضحكون على مقولات السلطة ذاتها، التي يظهرون الاقتناع بها نفاقاً، خارج قاعة المسرح. وبذلك، يزول الأثر التفتيتي لآلية النظام في السيطرة، ويشعر الحاضرون أنهم يتفقون في لا معقولية مقولات السلطة وتفاهتها المثيرة للضحك.

تقدّم أكاديمية أميركية أخرى، هي ميريام كوك، قراءة تشابه قراءة ليزا وادين، المشار إليها آنفاً، وذلك في كتابها "سوريا الأخرى، وصناعة الفن المعارض". وتتفق كوك، كما وادين، مع الدور التنفيسي للأعمال الكوميدية الناقدة، التي يسمح النظام بعرضها للجمهور السوريّ. لكنها تتفق كذلك مع وادين، أن كتّاباً وممثلين سوريين، أتقنوا ببراعة تقمص خطاب النظام، والكشف عن فراغاته، ونقاط ضعفه، في الوقت نفسه.

وتذهب كوك أبعد من ذلك، لتصف كتاباً وسينمائيين وأكاديميين وغيرهم من المثقفين المبدعين، بأنهم كانوا شجعاناً، فهم ناضلوا لإحداث التغيير، وفق قواعد اللعبة المتاحة. وهو ما أشارت إليه وادين أيضاً، أن الأعمال الكوميدية المسموح بها كانت تسبر حدود الممكن، بطرق متعددة.

دراسة الأعمال الكوميدية الناقدة في عهد نظام الأسد، وتفاعل الجمهور معها، تظهر كيف يتأقلم الناس بأشكال شجاعة وساخرة

بطبيعة الحال، لا يعني ما سبق، تبرئة ممثل أو فنان محدد، من تهمة خدمة مصالح النظام، بشكل واعٍ ومقصود. ولا يستهدف هذا المقال، تصنيف ممثلين أو فنانين، بقدر ما يستهدف سبر أغوار ظاهرة قد تتطلب مزيدا من البحث، حول تحديد أثر العمل الفني الناقد، الذي تسمح به السلطة، على الجمهور. ذلك أن رهان جمهور الثورة في بداياتها، على مواقف متناغمة معهم من فنانين عُرفوا بأعمال نقدية ضد النظام، لا تظهر بأن النظام كان قد حقق كل مُراده من تلك الأعمال، بل على العكس، يبدو بأن جانباً من أثر تلك الأعمال، كان يسير في الاتجاه المعاكس، وإن كانت النتائج لم تكن لحظية. وهو ما تخلص إليه وادين حينما تقول إن دراسة الأعمال الكوميدية الناقدة في عهد نظام الأسد، وتفاعل الجمهور معها، تظهر كيف يتأقلم الناس بأشكال شجاعة وساخرة. وتظهر أيضاً أن أنظمة السيطرة غير كاملة، وأن نظام الأسد لم يكن يُحكم سيطرته بالفعل، على جمهور السوريين، إلا لأنهم تعاملوا معه على أنه قويّ. وهو ما أكدته أحداث الثورة عام 2011، في بداياتها، حين كان انفجار المظاهرات الأولى، والعدوى التي تسببت بها بين القرى والبلدات والمدن السورية، أمراً مفاجئاً للسوريين أنفسهم، ولسلطة النظام الذي رسّخ لعقود، آليات تحكم ظن أنها تعمل بالشكل المأمول، قبل أن يتضح لديه، أنها يمكن أن تعمل بالاتجاه المعاكس.

وفي حين يحاول نظام الأسد، اليوم، إعادة ترميم آليات سيطرته على السوريين في المناطق الخاضعة له، يتطلب الأمر إعادة التذكير بأن تلك الآليات ليست مطلقة الأثر، ولا ينفي ذلك نجاعتها، شريطة قبول السوريين الخضوع الكامل لها. أي أن نجاعة آليات السيطرة، ومن بينها الفن الناقد، تتوقف على مدى خضوع الجمهور المستهدف. فحينما ينتفض ذلك الجمهور، يكون لا وعيه قد اختزن عشرات الصور الناقدة لمقولات السلطة، من الأعمال الكوميدية ذاتها، التي كانت السلطة تقدمها للجمهور بغرض إخضاعه عبر استراتيجية التنفيس. وحينئذ تعمل تلك الأعمال بالاتجاه المعاكس، لذاك الذي أراده النظام.