وسوم المعلم التحقيرية في تراثنا العربي والإسلامي

2019.10.10 | 18:38 دمشق

_108668793_gettyimages-1166067421.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل خمسة أيام، وفي يوم عيد المعلم العالمي بالضبط، أعلن مجلس نقابة المعلمين في الأردن إنهاء إضراب المعلمين الذي استمر شهراً للمطالبة بزيادة في الراتب تعادل 50 % منه بعد أن نزلت الحكومة على حكم النقابة وانصاعت مجبرةً مكرهة على تقديم زيادة تتراوح ما بين 35% إلى 65 % مع استحداث رتبة جديدة دعيت (المعلم القائد) وصلت زيادتها إلى 75%.

وخلال هذه المدة جرّبت السلطة التنفيذية جميع أنواع تهديد المعلمين، والضغط عليهم، وحتى إهانتهم إهانة مباشرة، حيث أوقفت بعضهم في مراكز الاحتجاز الأمنية، وأجبرتهم على خلع ملابسهم، وذكر معلم أنّه ظل مدة عشرين دقيقة عارياً عرياً كاملاً.

وحقيقةً خلال رحلتي في عالم الأفكار والأشخاص والكتب التي تساءلت السؤال الذي افتتحنا به عصرنا العربي الحديث: (لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم) لم أجد من أشار إلى أن العلة في مكانة (المعلم) المنحطّة في تراثنا، على الرغم من تواتر دعوات ضرورة البحث في أساليب التعليم وإصلاح مناهجه وخططه، بدءاً من العلامة الطهطاوي ومروراً بالإمام محمد عبده ومن تلاه من المفكرين والكتّاب! غير أنني أزعم ههنا أن المشكلة لم تكن في مناهج التعليم وأساليبه فحسب، وإنّما في مكانة المعلم نفسه، هذه المكانة التي سنصعق عندما نحاول أن نميط اللثام عنها في تراثنا العربي والإسلامي.

والمفارقة الهائلة التي تطالعنا دائماً وأبداً هي ذلك الانزياح الهائل ما بين النص الديني الرائع الداعي إلى طلب العلم وتوقير المعلم، وما بين التطبيق المريع المهين، فلو افتتحنا كتاب الإمام أبي حامد الغزالي (إحياء علوم الدين)، وهو من أهم دواوين الإسلام فإننا سنراه قد قسّم كتابه إلى أربعة أرباع: ربع العبادات. ربع العادات. ربع المهلكات. ربع المنجيات. وسنرى أنه افتتح ربع العبادات بكتاب العلم، فالعلم أسّ العبادة، وشرطها وركنها في الوقت ذاته، وفي هذا الكتاب (كتاب العلم) ينهل الإمام من النص الإسلامي فيحدثنا في أبوابه عن:

ــ فضيلة العلم.

ــ فضيلة التعلم.

ــ فضيلة التعليم.

ويعقد فصلاً عن آداب المتعلم والمعلم، وفصلاً آخر عن آداب المرشد المعلم، وسوف نقع

يقسم التراث العربي المعلمين إلى ثلاث طبقات: الطبقة التي تعلم أولاد العامة، والطبقة التي ارتفعت عن تعليم أولاد العامة إلى تعليم أولاد الخاصة، والطبقة التي ارتفعت عن تعليم أولاد الخاصة إلى تعليم أولاد الملوك أنفسهم المرشحين للخلافة

على صورة لا تدانيها صورة تراثية أخرى في إشراقها ونصاعتها وعظمتها ورقيها، وفي مقابل هذه الصورة التنظيرية سنرى صورة أخرى تطبيقية ملطخة ومعتمة ومرسومة بفراشي الغمض والاحتقار والازدراء

يقسم التراث العربي المعلمين إلى ثلاث طبقات: الطبقة التي تعلم أولاد العامة، والطبقة التي ارتفعت عن تعليم أولاد العامة إلى تعليم أولاد الخاصة، والطبقة التي ارتفعت عن تعليم أولاد الخاصة إلى تعليم أولاد الملوك أنفسهم المرشحين للخلافة. دعي أرباب الطبقة الأولى بـ (معلمي الصبيان)، ودعي أرباب الطبقتين الأخريين بـ (المؤدبين).

وسنرى في مرآة الجاحظ المصقولة صورة معلمي الصبيان، كما كانت على أرض الواقع حينئذ، وسوف تتظهّر الصورة بشكل أفدح كلما امتد الزمن وجرى بنا نحو العصور اللاحقة وصولاً إلى عصور الانحطاط التي ما غدت كذلك إلا لسوء مكانة المعلم واحتقاره.

وسنجد، في هذا التراث، تسالماً على هذا الاحتقار عند عامة الناس وخاصتهم وفقهائهم وعلمائهم وحكمائهم، فالعامة تقول: (أحمق من معلّم كتّاب)، وتقول: (الحمق في الحاكة والمعلمين والغزّالين)، والشاعر يتساءل عن إمكانيات المعلم العقلية:

وكيف يرجّى الرأي والعقل عند من..... يروح على أنثى ويغدو على طفل؟

والحكيم ينصح: (لا تستشيروا معلماً ولا راعي غنم ولا كثير قعود مع النساء).

وأمام هذه النصيحة يستنفر الجاحظ وتأخذه الحمية فيدافع عن رعاة الغنم فيقول: "وأما استحماق رعاة الغنم في الجملة فكيف سيكون ذلك صواباً، وقد رعى الغنم عدة من جملة الأنبياء"، ولكن لا يحظى معلمو الصبيان بفرصة دعم أو انتصار، وإنما يُنتصر للمؤدّبين ممن يعلّمون أبناء الخلفاء والخاصة من أمثال الكسائي وقطرب وأضرابهما.

ويفتتح الجاحظ، في هذا التراث، باباً من أبواب ذكر مثالب

لم يقصّر الفقهاء في تحقير المعلم، فهذا الفقيه التابعي قاضي الكوفة ابن شبرمة (ت: 144 هــ) لا يقبل شهادة المعلمين

المعلمين على سبيل الطرفة والتندر، ولكنه يكشف لنا في الوقت نفسه عن مكانة المعلم الحقيقية، التي أزرت به، وأثّرت على شخصيته فجعلتها مضطربةً مريضة.

قال الجاحظ: من أعجب ما رأيت معلماً بالكوفة وهو شيخ جالس ناحية من الصبيان يبكي، فقلت له: يا عم ممَّ تبكي! قال: سرق الصبيان خبزي!

ويحدثنا كذلك عن معلم ضرب غلاماً، فقيل له: لم تضربه؟ فقال: إنما أضربه قبل أن يذنب لئلا يذنب.

ولم يقصّر الفقهاء في تحقير المعلم، فهذا الفقيه التابعي قاضي الكوفة ابن شبرمة (ت: 144 هــ) لا يقبل شهادة المعلمين، وابن شبرمة كما هو واضح من سنة وفاته من أوائل الفقهاء ومؤصليه جنباً إلى جنب مع الإمام أبي حنيفة. ويذكر لنا الجاحظ أن بعض الفقهاء كان يقول: النساء أعدل شهادةً من معلم، وفي العصر الحديث أراد بعض الباحثين أن يجمّل هذا الرأي فاخترع له تبريراً وقال: "ولا يجوز للمعلم أن يترك عمله للصلاة على الجنازة أو السير فيها أو عيادة المريض أو حضور شهادة البيع والنكاح، وربما من هنا جاءت فكرة عدم قبول شهادة معلم الصبيان لا لنقص فيه، ولكن لأنه منهيٌّ عن الانشغال عن التعليم وهو واجبه بأعمال أخرى".

وسنقع في كتب الفقه على فتوى غريبة تتكرر في أكثر من كتاب! سنراها عند الرافعي والنووي والحصني والزيلعي وغيرهم وهذا نصّها: (ولو قال معلم الصبيان: اليهود خيرٌ من المسلمين بكثير، لأنهم يقضون حقوق معلمي صبيانهم، كَفَر)، ولا يهمنا ههنا مناقشة هذه الفتوى بمقدار ما يهمنا البحث في فحواها ومغزاها ودلالاتها، فهي تقول لنا: إنّ المسلمين كانوا لا ينصفون المعلمين ولا يحترمونهم ولا يوفون باتفاقاتهم معهم إلى درجة تلجئ المعلمين إلى المقارنة بينهم وبين اليهود، وتفضيلهم معاملة اليهود لمعلمي صبيانهم على معاملة المسلمين إياهم، ولو أن فقهياً واحداً كان ذا بصيرة في تعامله مع هذه الفتوى لكفّر المماطل المخلف ولشدّد له الوعيد والتحذير بل والتكفير بدلاً من أن يوجّه هذه الفتوى للمعلم المسكين المستكين، ولحسم هذا القول من أساسه ولما جعل المعلم يحتاج إلى هذه المقارنة التي تلحف القلب لا لشيء سوى أنّها تخبر عن وضعه المزري الذي يتلبّسه ويحيق به، وفي هذا السياق نقرأ القصة الآتية التي تُساق للطرفة، لكنها تحكي عدم وفاء الآباء مع المعلمين، وانتقام المعلمين منهم: (مررت بمعلّم وقد كتب لغلام {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه، يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك، فيكيدوا لك كيداً وأكيد كيداً فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً} فقلت له: ويحك فقد أدخلت سورة في سورة، قال: نعم. إذا كان أبوه يدخل شهراً في شهر، فأنا أيضاً أدخل سورة في سورة فلا آخذ شيئاً ولا ابنه يتعلم شيئاً).

ويتلقف التوحيدي ذلك الإرث التندّري على المعلمين من شيخه الجاحظ، ويتحفنا بفكاهات وطرف تثبّت صورتهم المضروبة، وتعمّق وسمهم المهزوز، وأذكر من ذلك على سبيل المثال:

"كان معلّم يُقعد أبناء المياسير في الظل وأبناء الفقراء في الشمس، ويقول: يا أهل الجنة ابزقوا على أهل النار"، و"جاءت امرأة إلى معلم تشكو ابنها، وكانت جميلة، فقال المعلم للصبي: مثل هذه الأم يوحشها إنسان فيؤذيها؟ كان يجب عليك لو كان لك عقل أن تلحس خراها كل يوم طلباً لرضاها".

أما الأنكى من ذلك فصنيع الإمام ابن الجوزي الذي كتب في جملة ما كتب مؤلفَين شديدي الطرافة والإمتاع، الأول بعنوان: (الأذكياء)، والثاني بعنوان: (أخبار الحمقى والمغفّلين).

والمجحف في عمله أنّه عقد فصلاً في كتابه الثاني بعنوان: (في ذكر المغفلين من المعلمين)، وأمسك عن ذكرهم في كتابه الأول الذي طفح بذكر قصص أذكياء السلاطين والأمراء والوزراء والعلماء والشعراء والعبّاد والزّهاد والنساء المتفطنات وصولاً إلى عقلاء المجانين، غير أنّه لم يجد متسعاً ضمن كل هذه الأبواب ليذكر المعلمين فيما يعلي من شأنهم مقدار قلامة، ويسهم في رفع خسيستهم قيد أنملة.

إنّ ما تقوله لنا هذه الإشارات المكثفة التي أتينا على ذكرها للتوّ: لا تنفعك الخاصة إذا أضررت بالعامة، ولا ينفع تعليم (المؤدبين/ المدارس الخاصة الدولية) مهما كان متقدماً متطوراً راقياً، إذا كان تعليم العامة ضعيفاً ومتخلفاً ومتهالكاً.