وجه بوتين ورقة صفراء في كتاب تاريخ قبيح

2022.02.24 | 05:35 دمشق

putin.jpg
+A
حجم الخط
-A

للروائي الفرنسي لوكليزيو الحائز على جائزة نوبل للآداب نص مذهل بعنوان "الحرب"، كنت قد قرأته قبل زمن طويل، في مجلة (جسور العربية الأميركية)، التي كانت مشروعاً مهماً أداره الكاتب والمفكر منير العكش في واشنطن، ثم توقفت.

الترجمة الجميلة لأميرة الزين تحبب التفاصيل، التي يرويها كاتب لطالما تميز باقترابه من عوالمنا الشرقية في كثير من أعماله، لكنها -وهذا جزء من أهميتها - تغرز القارئ دون إرادته، وسط الكارثة التي تصنعها الفاجعة، ليس بالبشر وعوالمهم فقط، بل بكل الكائنات الحية، والأشياء المادية، فلا تبقي سوى الخراب.

دفعتني الحاجة منذ فترة قصيرة للبحث عن النسخة الفرنسية من هذا النص، لكنني صدمت حين اكتشفت أن ما كنت أظنه نصاً مكتملاً، كان جزءاً من كتاب كامل وكبير، يحمل ذات العنوان "الحرب"!

دفعتني الحاجة منذ فترة قصيرة للبحث عن النسخة الفرنسية من هذا النص، لكنني صدمت حين اكتشفت أن ما كنت أظنه نصاً مكتملاً، كان جزءاً من كتاب كامل وكبير، يحمل ذات العنوان "الحرب"!

وجرياً على تنقيبي الدائم عن الكتب في أسواق الكتب المستعملة، وخاصة تلك التي خطها كتاب وصحفيون، وكذلك سينمائيون صنعوا أشياء أثرت بي في وقت ما، سأكتشف قبل أيام أن للسيناريست الفرنسي جان كلود كاريير كتاباً اسمه "السلام"، لم يترجم للعربية، مثله مثل غالبية أعمال الرجل الذي لا يمكن تجاهل مشاركاته في صناعة أهم الأفلام السينمائية الفرنسية، طيلة النصف الثاني من القرن الماضي، وبالتأكيد لا يمكن لنا العبور السريع على تحويله ملحمة المهابهاراتا الهندية إلى نص مسرحي، قدمه على الخشبة عبقري المسرح البريطاني بيتر بروك، وترجمه الراحل ممدوح عدوان للعربية، ونشر في مجلة (الحياة المسرحية).

ورغم استغراقي مع الجميع في رصد المجريات التي ستؤدي إلى واحد من الخيارين المتاحين بُعيد التصعيد الروسي تجاه أوكرانيا، أي الحرب أو السلام، لم أنتبه سوى البارحة، إلى أن الكتابين اللذين لم يبارحا طاولتي منذ أكثر من أسبوعين، يحملان هذين العنوانين، اللذين إذا اجتمعا، سينتج عنهما عنوان ثالث لرواية شهيرة كتبها مؤلف عظيم، هي "الحرب والسلام" للروسي ليو تولستوي، كان موضوعها هو التحولات المادية والنفسية لبعض العائلات، في زمن الغزو الفرنسي بقيادة نابليون لروسيا!

بالتأكيد، أنا لا أملك هنا شيئاً جديداً أبهر به القارئ، يختص بالكلمات والألفاظ، فالمقابل الطبيعي للحرب هو السلام، وهما يستخدمان معاً بشكل طبيعي في الأخبار، وفي الأدب والثقافة وفي التاريخ.

وكل المؤلفين والمبدعين الذين ذكرتهم أعلاه، كانوا مهووسين باستعادة مضامين النصوص الأدبية والتاريخية، من أجل الدفاع عن السلام، وعلى الأقل توضيح عواقب غيابه، لأنهم يعرفون المعنى الفعلي للحرب، وإذا كان للكتابة الإبداعية من قيمة، فإنها تتأتى من قدرة أصحابها على تمثيل التفاصيل المادية، لعوالم الدمار والموت، من خلال الكلمات والحبكات والسرد.

ثمة ما يستحق التوقف عنده الآن، وهو ذلك النزوع الإجرامي لدى الطغاة نحو صناعة الحرب

غير أنه في المقابل، ثمة ما يستحق التوقف عنده الآن، وهو ذلك النزوع الإجرامي لدى الطغاة نحو صناعة الحرب! والذي يجعل حيواتنا مشدودة إلى أقصى قدراتها على التمدد، إلى الخوف من حدوث كارثة أممية ثالثة، تفتك بعشرات الملايين من البشر، كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية!

لقد بدا فلاديمير بوتين في كلمته الموجهة إلى العالم والتي أعلن من خلالها اعترافه باستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين عن أوكرانيا متمكناً من سردية تاريخية خاصة به، تبرر له أن يفعل ما يفعله حالياً، وأظن أنه بثقافة كهذه، لا بد قد عرف، وإن من باب الاطلاع، أن الحروب التي خاضها الروس في مواجهة غزاة أرضهم، ونتج عنها دمارٌ لم تر البشرية مثله من قبل، كانت موحية ليس فقط لكتاب روس كتبوا أعظم الروايات حيالها، بل لكتاب عالميين كجول فيرن الذي دوّن روايته الشهيرة "ميشيل ستروغوف" بالاستناد إلى غزو التتار لبعض أرجاء البلاد القيصرية.

ولكن، هل تكفي معرفة التاريخ وبعض الثقافة والأدب، لتشكيل ردع من نوع ما، يمنع القتلة والمجرمين، ومنهم على وجه الخصوص، أولئك الذين يعملون رؤساء لبلدانهم في النهار، وزعماء للمافيا المحلية في الليل، من أن ينساقوا نحو صناعة الموت؟!

نموذج شخصية بوتين وأفعالها، ولا سيما المجازر التي ارتكبها منذ وصوله إلى الحكم، في الشيشان وجورجيا وسوريا وأوكرانيا وغيرها، لا يجعلك تنتظر منه أن يتحلى برقة مفترضة لا يمتلكها سوى قارئ الأدب، لكنك ستنتظر منه أن يكون عارفاً بالتاريخ ووقائعه التي تنوس بين حافتي السلام والحرب، ليس من أجل أن يلقي على ضحاياه، بمن فيهم الشعب الروسي ذاته محاضرات في "مظلومية" بلده أمام "الفجور الأوكراني"، بل من أجل أن يوفر على نفسه وعلى بلاده الخوض في التجارب، التي مر بها أسلافه، ولاسيما الهزيمة التي تنتهي إليها كل سياسة قاتلة وباطشة!

هنا هل يجوز لنا، وعلى هامش تفكيرنا بالبديهيات، أن نسأل: من قال إن الثقافة الإنسانية تُوزع على عقول الطغاة، بالقدر ذاته، الذي يوزعها القدر على عقول البشر الطبيعيين؟