"هنري كيسنجر" ثعلب الديبلوماسية وضبع السياسة 4

2024.01.18 | 06:57 دمشق

"هنري كيسنجر" ثعلب الديبلوماسية وضبع السياسة 4
+A
حجم الخط
-A

قبل وفاته بشهور تم تكريم كيسنجر مراراً، في أيار/مايو 2023، بمناسبة عيد ميلاده المئة. فقد أصبح الديبلوماسي الجمهوري، خصوصاً مع بداية القرن الجديد، صديقاً للديمقراطيين والجمهوريين على السواء، وللعديد من المشاهير حتى يوم وفاته. ستصفه هيلاري كلينتون بالصديق الذي "اعتمدت على مشورته" أثناء عملها في إدارة الرئيس أوباما، وهذا أمر معروف. لكن كان لافتاً أن الديمقراطية سامانثا باور التي عملت كسفيرة لإدارة أوباما لدى الأمم المتحدة، وكانت قد بنت كامل سمعتها ومسيرتها المهنية على الدفاع عن حقوق الإنسان، هي أيضاً أصبحت صديقة للرجل الأشهر في دعم انتهاكات حقوق الإنسان.

على الضفة الأخرى، في 11 أيلول/ سبتمبر من السنة ذاتها، بمناسبة الذكرى الخمسين لانقلاب بينوشيه في تشيلي، دعا بيتر كورنبلوه (مدير مشروع توثيق تشيلي في أرشيف الأمن القومي الأميركي) إدارة بايدن إلى الإفراج عن جميع الوثائق الأميركية المتبقية حول الانقلاب وعواقبه "إن الذكرى توفّر الفرصة النهائية لتعلم الدروس حول قدسية العملية الديمقراطية في مواجهة مخاطر الاستبداد. دروس لا تخص التشيليين وحدهم، بل المجتمع العالمي"، مشيراً إلى أن الهدف من أرشفة مثل تلك الوثائق هو استخدامها لإثراء الحاضر والمستقبل. وتساءل كورنبلوه "إن لم يكن الآن، في الذكرى الخمسين، فمتى؟".

في أول محادثة بينهما بعد انقلاب تشيلي، بحسب وثيقة لمجلس الأمن القومي بتاريخ 16 أيلول/سبتمبر 1973. سأل نيكسون عن ردود الفعل السلبية في الصحافة، وعما إذا كانت "يد الولايات المتحدة ستظهر في الإعلام"، سيجيب كيسنجر "لقد ساعدناهم قدر الإمكان، مما خلق ظروفاً رائعة". ثم راح الاثنان يتعاطفان بسخريةٍ، مع ما يصفه كيسنجر بالصحافة الليبرالية "الثرثارة"، مضيفاً "لو فعلنا هذا في فترة أيزنهاور، لاعتبرونا أبطالاً". فيؤكد له نيكسون أن الناس سيقدّرون لهما ما فعَلاه "دعني أقل لك إنهم لن يشتروا هذا الهراء من الليبراليين في هذه القضية".

الأفضل بالنسبة لمصلحة الولايات المتحدة هو المعيار الوحيد ولو كان على حساب أرواح آلاف البشر

بعد أسابيع من الانقلاب، وخلال إبلاغه من نوّابهِ عن حالات القتل الجماعي لآلاف من التشيليين، وعن الفظائع التي ارتُكبت في مجال حقوق الإنسان على يد الانقلابيين العسكريين، سيجيب كيسنجر إجابة تنطوي على برودٍ إجرامي لم يكن مستغرباً من شخص يحمل تركيبته المعقدة "أعتقد أنكم يجب أن تفهموا سياستنا، وهي أنه مهما كانت تصرفاتهم غير سارّة، فإن هذه الحكومة أفضل بالنسبة لنا مما كان عليه الليندي". أي أن الأفضل بالنسبة لمصلحة الولايات المتحدة هو المعيار الوحيد ولو كان على حساب أرواح آلاف البشر.

في كتاب مذكراته، حاول كيسنجر إعادة إنتاج وتحسين صورة دوره في تشيلي. من خلال عرضه للوثائق بطريقة انتقائية، عملَ بمساعدة محاميه، على إخفاء الأدلة الخاصة بدعمه للانقلاب ولبينوشيه شخصياً. لكن الإفراج عن كثير من الوثائق التي حاول كيسنجر الاحتفاظ بها لنفسه، قوّض كامل روايته عن تشيلي، مما ألقى بظلال الشك على كل ما ورد في الكتاب. أوردَ في مذكراته أنه عندما التقى بينوشيه عام 1976 وبّخه وضغط عليه بما يخص قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن سرعان ما ظهرت وثيقة المحادثة التي رُفعت عنها السرية بين الاثنين. وثيقةٌ لا تتوافق إطلاقاً مع ما أورده في الكتاب، لدرجة أن أصبح الأمر موضع تندّر إعلامي.

يتذكر شعب تشيلي استهانة كيسنجر بهم، بالعبارة المهينة التي رددها خلال الانتخابات، وقبل أن يصبح الليندي رئيساً "لا أفهم لماذا يتعين علينا أن نقف مكتوفي الأيدي، ونراقب بلداً يتحول إلى الاشتراكية بسبب عدم مسؤولية شعبه". ولكن الأدهى كان ما قاله لبينوشيه خلال الاجتماع الخاص بينهما في حزيران/يونيو 1976 في سانتياغو بعد نحو ثلاث سنوات من الانقلاب وما خلّفه من جرائم وانتهاكات.

رغم نصيحة السفير الأميركي في تشيلي بتوجيه رسالة صارمة ومباشرة إلى بينوشيه بشأن حقوق الإنسان، إلا أن الوثيقة ستثبت ليس فقط تواطؤ الوزير مع الديكتاتور، إنما تشجيعه على المضيّ قدماً، مع دعمٍ أميركي مفتوح: "تقييمي هو أنك ضحية للجماعات اليسارية في جميع أرجاء العالم. خطيئتك الكبرى بالنسبة لهم أنك أطحت بحكومة كانت تتجه إلى الشيوعية.. إننا نريد مساعدتك، وليس تقويضك.. لقد قدمتم خدمة جليلة للغرب بإسقاط الليندي".

بعد هذا اللقاء بأيام، قرأ كيسنجر مقالاً في صحيفة واشنطن بوست يوردُ تصريحات أدلى بها روبرت وايت، عضو وفد وزارة الخارجية إلى مؤتمر منظمة الدول الأميركية. انتقد وايت نظام بينوشيه لرفضه تقرير منظمة الدول الأميركية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة في تشيلي. انتاب كيسنجر الغضب لأن مسؤولاً أميركياً تحدّث عن بينوشيه علناً بشأن سجله في مجال حقوق الإنسان. سيعلّق كيسنجر "ليس من شأن هذه المؤسسة (الخارجية الأميركية) إذلال التشيليين". ثم ليطلبَ على الفور من مسؤول وزارة الخارجية لشؤون أميركا اللاتينية إقالة وايت.

رغم أنه من الممكن اعتبار تشيلي تمثل نقطة الضعف الأهم في إرث كيسنجر والعار الذي لاحقه خلال جميع مراحل حياته، وعلى الأرجح أنه سيتابع ملاحقته حتى بعد موته، إلا أنه تم تأثيمه في العديد من الفظائع في عدة بلدان أخرى. كانت المفارقة أنه في كامل تصريحاته، لم تصدر عنه أية عبارة تدل على شيء من الندم حول سياساته التي أدت إلى ارتكاب كثيرٍ من المجازر. وعندما سئل في إحدى المقابلات عن انتهاكات حقوق الإنسان من طرف أنظمة كانت الولايات المتحدة، خلال وجوده في الإدارة، تدعمها. علّق ببرود إجرامي "حسناً، كما تعلمون، لم تكن حقوق الإنسان مشكلة في تلك الأيام".

اعترفَ أنه مغرور، لكن كانت مشكلته أبعد من ذلك بكثير. في كثير من النواحي، كان عالقاً في سن الرابعة عشرة. وكانت انتهازيته لا حدود لها

عدا تشيلي التي تثير غضب منتقديه، فمن أهم المحطات التي يطيب لهم الحديث عنها شامتين، استقالة اثنين من أعضاء لجنة جائزة نوبل للسلام، حين مُنحت له مناصفة مع الفيتنامي "لو دوك ثو" من أجل المفاوضات السرّية التي أدت إلى اتفاق باريس لوقف إطلاق النار عام 1973. ثو رفض الجائزة على الفور، لأن المفاوضات لم تنهِ الحرب، وهذا صحيح فالحرب انتهت فعلاً بهزيمة أميركا وسقوط سايغون عام 1975. أما كيسنجر، فإضافة إلى فضيحة استقالة أعضاء اللجنة، امتنع عن السفر إلى أوسلو لتسلم الجائزة شخصياً خوفاً من المظاهرات المعادية المتوقعة. وبحسب المتابعين لتاريخ نوبل، كانت تلك الجائزة الأكثر إثارة للجدل.

ختاماً لهذه المادة المطوّلة عن تلك الشخصية التي غالباً ما تمّت الإشادة بذكائها وعبقريتها، لا بد من المرور على جانب ذاتي مفاجئ، على الأقل بالنسبة لي، في شخصية هذا الديبلوماسي والسياسي الذي امتلك أكثر من وجه. فالرجل بحسب كارولين أيزنبرغ صاحبة كتاب "النار والمطر: نيكسون وكيسنجر"، وكانت أمضت عقداً من الزمن تقرأ نصوصه الهاتفية وتستمع إلى أشرطة محادثاته "يتمتع بشخصية مضطربة، وهو مراهق بشكل لا يصدق. اعترفَ أنه مغرور، لكن كانت مشكلته أبعد من ذلك بكثير. في كثير من النواحي، كان عالقاً في سن الرابعة عشرة. وكانت انتهازيته لا حدود لها. وحاجته إلى أن يكون مهماً هائلة".

من الواضح أن أيزنبرغ كانت تلمِّح إلى عقدة الاضطهاد الذي عانى منه كيسنجر كيهودي في تلك السن، خلال الحقبة النازية، قبل أن يغادر ألمانيا مع عائلته. سيصفه العديد ممن عرفوه في الجيش الأميركي والحياة الأكاديمية والحكومة أنه شغوف بإرضاء الجميع، بهدف تلقي الثناء والاعتراف بأهميته. يؤكد كثيرون أن هذا الجانب من شخصيته كان مُستمَّداً "من رغبة المنبوذ في القبول". وسوف يعلّق صديقه فريتز كريمر "الدكتور كيسنجر رجل قوي، لكن النازيين تمكّنوا من تدمير روحه".