هل يعيش كادر المنظمات الخيرية على آلام وأوجاع الناس؟

2022.02.27 | 05:23 دمشق

120996503_338492157362379_5631110196772614904_n_9382270169.jpg
+A
حجم الخط
-A

لقد تراجعتُ في اللحظة الأخيرة، رغم أنّ كل شيء بات جاهزًا ولم يتبقّ سوى نقرة زر صغيرة، لكني توقفتُ؛ لأنني خفتُ على مشاعر المتبرعين الذين سيفتحون هواتفهم ويرون الصورة، فتتصدع قلوبهم من هول الألم. حدث هذا عندما وصلتني حالة لطفلة اسمها نور، تعاني من مشكلات جلدية، وقد أرسل لي قسم الحالات الطبية صورة تظهر فيها معاناة الطفلة، وطلبوا مني إرسالها مع قصتها كبريد إلكتروني للقائمة البريدية للمتبرعين، ليتمّ تأمينها بسرعة، وذلك لحاجتها للمساعدة الفورية.

وعندما تباطأتُ هكذا، شعر مسؤول الحالات الطبيّة بعدم رغبتي في إرسال هذه الحالة، وقال لي: إذا لم توافق على إرسال تلك الحالة، سأرسل لك حالة أخرى، فهي أيضاً مستعجلة. وبالفعل، أرسل لي حالة أخرى كان عنوانها "مافي علاج لابنك، رح يضل عايش بهالمرض طول عمره!"

نظرتُ للصورة المرفقة مع وصف الحالة وإذ هي لطفل اسمه حمزة، يعاني من مرض يدعى داء السمك، فأجبته فورًا ودون تفكير: ما هذا؟ ليردّ عليّ برسالة يقول فيها: معاناتي تزيد والحالات عقّدتني.

جوابه العفوي جعلني أفكّر به وبنفسي، فقبل دقائق كنت أفكّر فقط بمشاعر المتبرّعين والأشخاص الذي سيشاهدون الصورة، ولم أفكر بمشاعري أبداً. في تلك اللحظة، انتبهتُ أنني قررتُ ألّا يتألم لمشاهدة الصورة سواي، وهذا يعني أنّني تألّمت فعلاً من دون أن أشعر، بل ورفضت أن أقوم بعملي المعتاد الذي يجب عليّ القيام به؛ لأن الصورة آلمتني.

إذ إنّ الصور المرفقة سواء للحالة الأولى أو الثانية، هي صور مناسبة للتأثير بالمتبرعين وجمع التبرعات، وهذه إحدى مهماتي الأساسية، والتي من بينها جمع التبرعات للحالات الأكثر حاجة، وبالتأكيد؛ أنا أتقاضى مقابل مهماتي مرتّبًا شهريًّا كحال كل العاملين والمتفرّغين في المجال الإغاثي، الذي أدفع من خلاله إيجار منزلي وفواتير المياه والكهرباء، وأؤمن الطعام لأسرتي الصغيرة.

لحظة! هل هذا يعني أنّني أتقاضى راتبًا عندما يعاني الناس وتنتشر معاناتهم؟

بكل أمانة، لم يكن يراودني هذا التفكير المزعج من قبل، والذي قد يكون غير منطقيًا بالنسبة لك كقارئ، ولكن بالنسبة لي كعامل في المجال الخيري؛ يهمّني أن أؤدي عملي على أكمل وجه، وأن أفكّر بكل كبيرة وصغيرة خوفًا من الوقوع بأي خطأ، وقد بدأتُ أفكر بذلك عندما رأيتُ منذ مدة تعليقًا على صفحة الفيس بوك، كتب فيه أحد المتابعين متّهمًا إيّانا بالسرقة وأضاف "أنتم تعيشون على أوجاع وآلام الناس في المخيّمات، ولولا معاناتهم لما كنتم الآن موظفين وتتقاضون الرواتب".

إذًا، نحن نتألّم عندما نزور الحالة المحتاجة ونرى وضعها، ونتألّم عند تجهيز النص والصورة لإرسالها للمتبرعين، ونتألّم عندما نُتّهم بأننا نعيش على معاناة الناس، فهل العمل الخيري الذي نفتخر بأن الله استخدمنا به، أصبح يُنظر له بهذه الطريقة، وهل ينطبق المثل القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد" على ذلك؟

من دون أدنى شكّ، فإن استخدامنا في العمل الخيري -في حال كنّا متقنين للعمل- هو فائدة لنا في الدنيا والآخرة وعلى جميع المستويات، ولكنّه غير مبني على مصائبهم، حيث إنّنا لم نتسبّب بحدوثها، وإنّما نسعى وبكل ما أوتينا لتخفيفها، بل ومنع حدوثها إن أمكن. والجدير بالذكر، والتذكير في آن واحد، أنّ المتسبب الأول والأخير هو ظالم تسبّب في تهجيرهم ومعاناتهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم، وما عملنا إلّا للتخفيف عنهم ومن أوجاعهم التي تكاد لا تنتهي.

فكّرت أن أسأل الطبيب الذي -وبحسب النظرية أعلاه- يعيش على معاناة المرضى، فهل يفرح طبيب الأورام عندما تزوره طفلة عمرها ستّ سنوات أثبتت التحاليل إصابتها بسرطان في الدماغ؟ وهل يُنهي الصيدلي صلاته بالدعاء لله أن يمرض الناس في مدينته؛ ليبيع مزيدا من الدواء، ويربح مزيدا من الأموال؟

إنّ طبيب الأورام لم يكن المتسبب بكل تأكيد، وفي حال نجح بعلاج الحالة فإنه يفخر بنفسه، ويُشكر من مدير المشفى وذوي الطفلة، وإن تلقّى كامل أجره، بينما يجب على العاملين في المجال الخيري أن يشعروا بأنّهم يستغلّون آلام الناس، حتى وإن كانوا هم من قاموا ببناء المشفى ومن يتكفلون بالأجر الشهري لطبيب الأورام.

لقد كُتب علينا أن نحزن عند اشتعال حريق في مخيّم، وأن نفرح بعدها بساعات عند تأمين الدعم اللازم وجمع التبرعات لإغاثة أهل المخيّم، وأن نموت قهرًا في اليوم التالي عند رؤيتنا لوضع العائلات بعد الحريق في المخيم في أثناء توزيع المساعدات، إلّا أنّنا نرمّم أنفسنا ونواسي بعضنا، ثم نعود لنستجيب لمخيّم غرق نتيجة الأمطار وكأنها أول استجابة لنا، فالعاملون في المجال الخيري يطوفون بين الخيام في أكثر الأماكن خطورة في العالم للتخفيف من آلامهم، لا للعيش من ورائها.

إنّ التعليق الذي أثّر بي ودفعني لكتابة هذا، قد يكون منسيًا بالنسبة لصاحبه، لكنه أرّقني ودفعني للتأمل بما نفعله ومبرراته وأسبابه. لقد وضعتُ نفسي مكان الآلاف الذين ساعدناهم، وحاولتُ التفكير بمنطق صاحب التعليق فزاد انزعاجي وأرقي، إنّ الفكرة بذاتها مُهينة، أن يصنع أحد من معاناة شخص ما، باب رزقٍ له! لكني هدأتُ وأنا أتأمل بسمات أطفالٍ تغيّرت حياتهم، وتعابير أمهات غادرن خيامهنّ نحو منازل كريمة، وأنا أصرّ على أن أقول "كريمة" في كل مرة، فما نفعله هدفه أولًا وأخيرًا هو حفظ كرامة أهالينا المهجّرين، ومنحهم سبل العيش التي لا تضطرهم لسؤال الناس، ولا حتى لذرف دمعة واحدة.