مع انخفاض وتيرة القتال في سوريا واتساع المناطق "الآمنة" بعد سبع سنوات ونيّف من الحرب والتدمير والقتل التي أعادت ساعة التنمية للاقتصاد السوري عقوداً إلى الوراء، ينتظر الجميع اللحظة التي يدعو لها المجتمع الدولي لبدء عملية إعادة الإعمار بعد بلورة العملية السياسية بتوافق الجميع.
في هذه الأثناء تحاول دول وشركات ومستثمرون حجز مكان في هذا المعترك المليء بالفرص الاستثمارية والمشاريع الكبرى مع توقع عوائد مرتفعة وفترة عمل طويلة. ومن المؤكد أن لبنان سيكون معنياً بهذه العملية بشكل كبير بغض النظر عمّن سيحكم سوريا في المرحلة المقبلة، مستفيداً من القرب الجغرافي واللغة المشتركة فضلا عن الرابط العائلي والإنساني وأخيراً المنفعة المتبادلة بين البلدين من انطلاق هذه العملية على اقتصاديهما. فكيف يسعى لبنان للانخراط بإعادة إعمار سوريا في المرحلة المقبلة؟
لبنان منصة لإعمار سوريا
لم تمنع ظروف القتال وعدم الاستقرار المسؤولين والمستثمرين اللبنانيين من إظهار رغبتهم في المشاركة بإعادة الإعمار وتأسيس الشركات والمشاركة في المعارض المقامة في دمشق وعقد الاتفاقيات بين البلدين. ليحتل اللبنانيون المرتبة الأولى بين من أسس شركات من غير السوريين في سوريا، إذ بلغ عدد المستثمرين اللبنانيين المشاركين في تأسيس شركات بسورية 13 من أصل 23 معظمها في مجال الإعمار والمقاولات، كان آخرها تصديق وزارة التجارة التابعة للنظام السوري على تأسيس شركة مقاولات تعود ملكيتها للمستثمرين اللبنانيين، أنطونيو فرنجية، ورشيد شقرا، بنسب 47.46% و47.48% على التوالي بينما يملك السوري خليل العليوي حصة 5% من الشركة المسماة "أي إف للمقاولات" والتي من المقرر أن تنشط في إنشاء وتوسيع وهدم المباني بأنواعها وأعمال الطرق والجسور والسكك بالإضافة إلى أعمال تركيب محطات الضخ وتوليد الكهرباء والأبراج واستيراد جميع مواد البناء والسلع.
تأسيس هذه الشركات يأتي بعد تحسن ملحوظ في حجم التبادل التجاري بين البلدين عن الأعوام الفائتة فضلا عن العلاقات الاقتصادية الأخرى؛ إذ بلغ التبادل التجاري حتى مطلع تشرين الأول 2017 نحو 345 مليون دولار بحسب تصريح لوزير الاقتصاد والتجارة الخارجية للنظام محمد سامر الخليل، مرتفعاً عن 217 مليون يورو (253 مليون دولار) في 2016 و245 مليون يورو (285 مليون دولار) في 2015. وجاءت لبنان في المرتبة الثانية كأكبر شريك تجاري لسورية خلال العام 2016 حيث بلغت قيمة التجارة بين البلدين في ذلك العام 6.3% من إجمالي التجارة الخارجية السورية.
وعلى صعيد الاتفاقيات بين البلدين فقد وقع البلدان في أيلول 2017 عبر وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك السورية ووزارة الزراعة اللبنانية على اتفاق يقضي بتسهيل انسياب الحيوانات الحية ومشتقاتها من اللحوم والبيض ومستلزمات الدواجن من آلات ولقاحات وأدوية بيطرية، واتفاق على إلغاء جميع العوائق التي تعترض حركة مرور الترانزيت في كلا البلدين وتسهيل إجازات الاستيراد للسلع النباتية والحيوانية أمام التبادل التجاري. وتم العمل على إعادة تفعيل معبر "جوسية" بين سوريا ولبنان في منطقة القصير في تموز 2017 بعد توقف دام لأربع سنوات، وبعدها بشهر وقَّع وزير المالية اللبناني علي حسن خليل اتفاقية مع حكومة النظام لتزويد لبنان بالكهرباء بـ 300 ميغاوات وبكلفة بلغت 265 مليون دولار.
ولأن روسيا من تمتلك زمام المبادرة والحل في سوريا فقد سعت حكومة لبنان للتأكيد على استعداد لبنان ومستثمريه لأن يكون محطة ومنصة لإعادة إعمار سوريا، إذ أبدى وزير الصناعة اللبناني حسين الحاج حسن خلال زيارته لروسيا في نيسان 2017 رغبة بلاده في التعاون مع موسكو في مشاريع إعادة الإعمار في سوريا، وسبقه تصريح لرئيس نقابة مقاولي الأشغال العامة والبناء اللبنانية مارون الحلو أن لبنان يتطلع للشراكة مع الشركات الروسية كونها شركات كبرى وتمتلك اختصاصاً تقنياً خاصة في مشاريع البنى التحتية والكهرباء وفي موضوع السدود والمياه. ومرة أخرى عبر وزير الاقتصاد والتجارة رائد الخوري في تصريحات أن لبنان يتطلع لإقامة مناطق اقتصادية حرة تكون منصة للمستثمرين اللبنانيين والأجانب وخاصة لرجال الأعمال الروس من أجل التسويق من خلالها لكي تكون ممراً لإعادة إعمار سوريا. وفي آخر زيارة لرئيس الحكومة سعد الحريري إلى روسيا في أيلول 2017 ذكر الحريري فيما يتعلق بإعادة إعمار سوريا أن لبنان يمكن أن يشكل محطة لهذا الموضوع فهناك مرفأ طرابلس وخطة للسكك الحديد ومطارات يمكن إنشاؤها وإلى أن ينتهي الحل السياسي في سوريا عندها قد يكون لبنان محطة لإعادة إعمار سوريا.
كيف سيستفيد لبنان من إعادة إعمار سوريا؟
يعد لبنان من أكثر الدول تضرراً من الأزمة السورية والتي انعكست آثاراً بالغة السوء على مؤشراته الاقتصادية كالتجارة الخارجية، والسياحة، والاستثمار، والبطالة. إذ قُدرت خسارة الاقتصاد اللبناني بـ18 مليار دولار خلال 7 سنوات – يرجعها المسؤولون اللبنانيون إلى استضافة نحو مليون ونصف لاجئ سوري- وبحسب أرقام البنك الدولي فقد ارتفعت نسبة البطالة من 11% إلى 35% عام 2017.
تضرر لبنان من إغلاق المعابر الحدودية مع سوريا وهي التي تعد شرياناً للاقتصاد اللبناني يصدّر سلعه وخدماته إلى الأسواق العربية، فمجموع صادرات لبنان إلى الأسواق الخليجية بلغت 65% وبعد توقف الخط التجاري الذي يربط لبنان بسوريا ثم الأردن، انخفضت الصادرات بنسبة 50%.
انتهاء القتال والإيذان ببدء عملية إعادة الإعمار في سوريا سيعطي دفعة قوية لتحريك عجلة الاقتصاد اللبناني، فبسبب حجم الضرر الذي لحق بالبنى التحتية في سوريا وحاجة المستثمرين والشركات الماسة إلى التمركز في مكان مستقر يوفر كل أنواع المرافق والخدمات اللوجستية والمصرفية، سيبرز لبنان كبديل ليمثل منصة لوجستية لانطلاق استثمارات وعمليات بناء في سوريا بحكم موقعها القريب، وبفضل منافذ لبنان البحرية على المتوسط والمطارات والموانئ والسكك الحديدية إضافة إلى البنوك والصناعة المالية المتوافرة في لبنان، وهو ما سيعود على البنية الخدماتية اللبنانية بالفائدة في جميع المناحي.
تعد الطاقة البشرية من أبرز الخسائر التي تعرضت لها سوريا، فبعد سبع سنوات؛ تسبب النظام السوري بمقتل نحو نصف مليون قتيل ومئات آلاف الجرحى فضلا عن تهجير وتشريد أكثر من نصف السكان داخل وخارج البلد، وهو ما سيجعل من الصعب على السوق السورية توفير الموارد البشرية اللازمة للعمل في المرحلة المقبلة وبالأخص ذوي الكفاءات، وهو ما قد يرفع الطلب على العمالة اللبنانية ويؤمن فرص عمل لها تسهم في تخفيض معدلات البطالة. وعلى المستوى المؤسسي فالشركات اللبنانية ستكون حاضرة في مجالات الإعمار والبناء بحكم خبرتها في هذا المجال بفضل تجربتها بعد نهاية الحرب الأهلية في الثمانينيات، وستشكل أسعار العقارات والأصول المنخفضة في سوريا فرصة جيدة للمستثمرين اللبنانين للاستثمار في سوريا باستثمارات مباشرة.
كما من شأن عودة الخط التجاري الرابط بين لبنان وسوريا إلى إنعاش التبادل التجاري بين البلدين، وبين لبنان والأسواق العربية، وسينسحب هذا على وضع السياحة التي تردت بسبب ظروف الأزمة حيث تراجعت نسبة إشغال الغرف الفندقية في بيروت في العام 2014 بنسبة 17.99% وحصل انخفاض في الإيرادات المحققة عن كل غرفة بنسبة 24.9% لتسجل ثالث أدنى نسبة إشغال فنادق بين عواصم المنطقة.
أخيراً، يبدو الاهتمام الواضح من قبل الحكومة اللبنانية والمستثمرين بالمرحلة المقبلة انطلاقا مما قد توفره لهم من فرص للخروج من نفق الأزمات الاقتصادية والركود، فسعوا لتأسيس شركات بشكل مبكر إضافة إلى إعادة وهج العلاقات مع النظام السوري عبر توقيع الاتفاقيات وفتح المعابر ومن ثم التودد لدى الروس لإشراكهم في العملية بالمرحلة المقبلة.