هل انتهت العولمة؟

2023.03.22 | 06:35 دمشق

هل انتهت العولمة؟
+A
حجم الخط
-A

لا يكاد المرء يتصفح مجلة علمية أميركية أو صحيفة أوروبية إلا ويطالعه تحليل أو مقال يحتفي فيه كاتبه بنهاية عصر العولمة أو تراجعه، وغالبا ما تصاغ تلك التقارير بنبرة فيها الكثير من الاحتفال والتبشير، والتوكيد على أن هذا الافتراض حتمي أو خلاصة جاءت بعد كثير من التمحيص والتدقيق، ويُدعم ذلك الافتراض عادة بالأحداث العالمية حتى ينتهي الكاتب إلى قناعة مؤكدة أن قطار النظام العالمي يتهيأ للانطلاق من محطة العولمة.

المعنى المقصود بالعولمة في تلك التقارير والمقالات المشار إليها هو تلك الحركة التي بدأت في التسعينيات من القرن الماضي، والتي تجلت في مجموعة من الأحداث كانفتاح الصين على الاقتصاد العالمي، وانهيار المعسكر الاشتراكي، وتوسع السوق الأوروبية وقيام الاتحاد الأوروبي، وما خلفته تلك التحولات الجيواستيراتيجية من اتفاقيات سعت نحو التقليل من العوائق التي تحول دون حرية انتقال البضائع وروؤس الأموال. فالعولمة التي يحتفى بموتها الوشيك هي حركة رؤوس الأموال والبضائع والأشخاص بين الدول، وما وفره ظهور  شبكة الإنترنت من فرصة العيش في عالم لا يعرف الحدود الجغرافية.

تلجأ تلك التقارير ، عادة، إلى دعم حججها بكثير من الأحداث والوقائع، ولاسيما الأزمة المالية العالمية في عام 2008م، والتي أدت إلى تباطؤ المسار التصاعدي للعولمة عما كان عليه من قبل، والحرب التجارية الصينية الأميركية التي لا يُعرف المآلات التي ستصل إليها، والحرب الروسية على أوكرانيا، وكذلك وباء كورونا الذي عادت في أثناء انتشاره السياسات الحمائية، فحظرت، مثلا،  كثير من الدول تصدير الأدوات الطبية والصحية، وما نتج عن هذا الوباء من توقف للمصانع، وهو ما أظهر المخاطر العالية المرتبطة بعولمة سلاسل التوريد والتكامل الاقتصادي العالمي.

الاقتصاد العالمي أصبح مترابطا إلى الدرجة التي يصعب بل يكاد يكون مستحيلا فصله مجددا والعودة إلى السياسات السابقة

هذه اللغة التبشيرية التي نطالعها في الأوراق العلمية، وفي تقارير مراكز الأبحاث، وفي مقالات الرأي، والتي تتشفى بالعولمة وتراجعها، تتجاهل أن الاقتصاد العالمي أصبح مترابطا إلى الدرجة التي يصعب بل يكاد يكون مستحيلا فصله مجددا والعودة إلى السياسات السابقة، وأهمها فرض قيود على الواردات. لكن الأهم من ذلك أنها نسخة مناقضة كليا للغة نفسها التي ظهرت إبان التبشير بالعولمة والترويج لها، بوصفها علامة على انتصار النظام الرأسمالي، وتسيده على الاقتصاد العالمي. والمفارقة أن الترويج للعولة بدأ أميركيا وأوروبيا، ولكن المدافعين عن العولمة الآن هم مثقفو دول الجنوب أو الدول النامية، في حين أن مناهضيها هم أنفسم الذين روجوا لها سابقا.

 لا يمكن تتبع أسباب هذا التحول من دون معرفة المسار الذي اتخذته العولمة، فقد كان  الظن بأن تكون مرابح الدول الكبرى من العولمة أكثر من مرابح الدول النامية أو  متوسطة النمو، وهو ما يفسر  الحركة المحمومة على صعيد التنظير والكتابة والنشر  عن مزايا العولمة وفوائدها، في حين كان الخوف في دول الجنوب أو الدول النامية خوفا مضاعفا، فمن ناحية كان الكلام على الفروق الثقافية بين المجتمعات الغربية ومجتمعات دول الجنوب، وهي الفروق التي ستكتسحها العولمة التي تروج للنموذج الغربي، ومن ناحية ثانية، كان الكلام على عجز دول الجنوب عن منافسة الدول الصناعية، ولكن ما حدث أن الدول النامية كسبت كثيرا من خلال توطين الصناعة لديها، ونقل التكنولوجيا، وزيادة معدلات النمو. وكل هذه العوامل كانت على حساب المركز الرأسمالي العالمي الذي فقد الكثير من ميزاته، وفي مقدمتها احتكار المعرفة التي تدفقت على الدول الفقيرة والنامية بفعل انتقال الصناعات إليها. الأمر الذي أسهم في تراجع بريق العولمة في الدول الغنية، وخصوصا لدى الطبقات العمالية قليلة المهارات في أميركا وأوروبا، فانخفض مناصرو العولمة وحرية التجارة في الدول الغربية.

معنى كل ما تقدم أن النكوص عن العولمة جاء استنادا إلى ما خلفته العولمة نفسها في المركز الرأسمالي العالمي، إذ انتقلت الكثير من الشركات إلى الدول النامية للاستفادة من العمالة الرخيصة، وأدت هجرة الشركات إلى زيادة العبء على الطبقات العاملة، وإلى ارتفاع حدة عدم المساواة داخل المجتمعات الغربية، وتجلى ذلك عبر فقدان الوظائف والركود الاقتصادي، الأمر الذي حصر منافع العولمة بفئة قليلة، ونتج عن هذا الإخفاق في توزيع المنافع الكفر بالعولمة، لأنها أصبحت من زاوية نظر تلك الفئات غير مقيدة باهتمامات الناخب أو المواطن في الدول الديمقراطية، وهو ما خلق شعورا "وطنيا" مناهضا لها، رأينا تجلياته في انتخاب دونالد ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وظهور اليمين المتطرف.

قللت العولمة من تكاليف الإنتاج، ووفرت سلعا رخيصة للمستهلكين، وساهمت في نقل المعرفة والتقنية إلى الدول الفقيرة أو دول العالم الثالث

على خلاف هذا المسار، يأتي الدفاع عن العولمة في دول الجنوب بسبب ما حققته لتلك الدول من فوائد على مدى العقود الثلاثة الماضية، فالعولمة بعيدة جدا من أن تكون نظاما مثاليا، ولكن تكلفة العودة عن مسار العولمة كبيرة، إذ قدرت منظمة التجارة العالمية أن تحول العالم إلى مناطق تجارية منغلقة على ذواتها سيتسبب  بخسارة ما يعادل 5 بالمائة من الناتج العالمي، أي ما يعادل كامل اقتصاد اليابان. هذا بالإضافة إلى زيادة الصراعات والتوترات بين الدول، أما العودة إلى السياسات الحمائية فستكون أولى نتائجه تراجع النمو وزيادة معدلات الفقر، لأن العولمة أخرجت أكثر من مليار شخص من ربقة الفقر، ليس في الصين وحدها كما يشاع، وإن كان غالبية هؤلاء منها، بل في كل أرجاء العالم.

لقد قللت العولمة من تكاليف الإنتاج، ووفرت سلعا رخيصة للمستهلكين، وساهمت في نقل المعرفة والتقنية إلى الدول الفقيرة أو دول العالم الثالث، كذلك خلقت فرص عمل جديدة في الدول المصدرة، مثلما عملت أيضا على زيادة معدلات السياحة العالمية على نحو غير مسبوق. وعلى سبيل المثال فقد عانى الاقتصاد العالمي في أثناء جائحة الكورونا لأن قطاع السياحة أصبح قطاعا حيويا في كثير من الدول التي تعتمد في دخلها الوطني عليه.

قارن كارل ماركس في منتصف القرن التاسع عشر بين رأسمالية أميركا ورأسمالية بريطانيا، و أعطى للأولى في ذلك الوقت دورا تقدميا في مقابل تحول الرأسمالية البريطانية إلى المحافظة والرجعية، مستندا إلى تفوق "الربح" الأميركي على "الفائدة" البريطانية.

يبدو أن دفاعنا عن العولمة يأتي في سياق تحول مركز الاقتصاد العالمي من أوروبا وأميركا إلى دول الجنوب، أي من رجعية الرأسمالية الغربية إلى تقدمية العولمة العالمثالثية.