"نيران صديقة" أميركا وإيران كوميديا الفشل المتبادل 1

2023.03.30 | 06:30 دمشق

"نيران صديقة" أميركا وإيران كوميديا الفشل المتبادل 1
+A
حجم الخط
-A

فشلت عملية مخلب النسر "Eagle Claw". أرادت إدارة الرئيس الأميركي الديموقراطي جيمي كارتر تنفيذ العملية العسكرية، بهدف إنقاذ 53 ديبلوماسياً وموظفاً أميركياً احتجزهم موالون لنظام آية الله خميني في السفارة الأميركية في طهران قبل شهور، تحديداً منذ الرابع من تشرين ثاني/نوفمبر عام 1979. انكسر المخلب الأميركي، بسبب سوء التخطيط وسوء اختيار أفراد العملية والأدوات والمعدات العسكرية، حيث استخدمت طائرات مروحية من طراز غير ملائم للطيران بعيد المدى في المناطق الصحراوية. هذا ما جاء في تحقيقات عسكرية أميركية موسعة، بعد فشل العملية التي خلّفت خمس طائرات معطوبة في الصحراء الإيرانية، مع ثماني جثث لضباط وجنود أميركيين قتلى لم يتم إخلاؤهم، إضافة إلى خمسة جنود مصابين بحروق شديدة. وقعت كل تلك الخسائر دون أية مواجهة مباشرة مع الإيرانيين.

إيران التي كانت قد بدأت منذ فترة الهتاف الشهير، والمستمر حتى اليوم "الموت لأميركا"، لم تكتشف العملية إلا بعد فشلها وانسحاب أفراد القوة الأميركية، يوم 25 نيسان 1980! ولولا سوء التخطيط، والفشل الذاتي الأميركي، لما اكتشفتها إلا بعد نجاحها. قبل أيام، كان عشرات من أفراد وكالة المخابرات المركزية الأميركية، دخلوا إيران لجمع المعلومات وتأمين "اللوجستيات". جهزوا مهبط الطائرات في الصحراء بإضاءة مخفية، وقاموا بكل ما يلزم لنجاح العملية. بعد الإخفاق، انسحب هؤلاء بهدوء وسلام دون لفت النظر، ودون أن يعلم الإيرانيون بوجودهم بين ظهرانيهم، في شوارع طهران.

بعد عشرة أيام، تحديداً يوم 5 أيار/مايو، وكانت طائرات سلاح الجو الإيراني تراقب منذ يومين، في دوريات منتظمة، منطقة هبوط الطائرات الأميركية، لاحظ الطيارون حركة كثيفة لأفرادٍ حول الطائرات المعطلة. ولسبب ما، ظنوا أن الطائرات على وشك الإقلاع، فقاموا بقصفها، رغم أن هناك قراراً اتخذ في اليوم السابق، بالاحتفاظ بالطائرات وعدم تدميرها. كانت نتيجة القصف مقتل العديد من أفراد الحرس الثوري الإيراني، المُشكَّل حديثاً، وكان في رأس قائمة القتلى "محمد منتظر القائم" قائد الحرس الثوري في محافظة "يزد"، الذي كان يعاين ويتفقد موقع هبوط الطائرات الأميركية. أيضاً هنا قتل عسكريون إيرانيون بنيران صديقة، دون أية مواجهة مباشرة مع الجيش الأميركي.

انفرجت أزمة الرهائن، إثر مفاوضات انتهت إلى ما يعرف باتفاقية الجزائر في 19 كانون ثاني/يناير عام 1981، تم بموجبها تحرير الرهائن، بعد يوم واحد من حفل تنصيب الرئيس الجمهوري رونالد ريغان

في خطاب له، بعد فشل المحاولة الأميركية سيقول الخميني "لسنا نحن من أسقطنا طائرات السيد كارتر. إن الرمال والرياح هي من فعلت، وهي من هزمت أميركا. كانوا وكلاء الله الذي نصر دولتنا الإسلامية". أما في الجانب الأميركي، فكان كارتر يعد لخطة عسكرية أخرى لم يحتج لتنفيذها. انفرجت أزمة الرهائن، إثر مفاوضات انتهت إلى ما يعرف باتفاقية الجزائر في 19 كانون ثاني/يناير عام 1981، تم بموجبها تحرير الرهائن، بعد يوم واحد من حفل تنصيب الرئيس الجمهوري رونالد ريغان الذي هزم كارتر في الانتخابات، بسبب فشل الأخير في حل أزمة الرهائن. بالمقابل حصلت إيران على تعهد أميركي برفع العقوبات والإفراج عن أرصدة مجمدة، وعلى وعد بطرد الشاه من أميركا.

لم أكتب ما كتبته هنا بمثابة طرفة، أو لما يمكن وصفه بالكوميديا السوداء، عن الفشل الذريع للجانبين الأميركي والإيراني، وهو كذلك بالتأكيد. لكن لأنه يصلح أكثر، كأمثولة تاريخية متكررة عن السياسة الأميركية اتجاه إيران، وبالعكس عن سياسة إيران اتجاه الشيطان الأكبر. دائماً كان هناك عملٌ كثيفٌ من الجانبين، وعلى الدوام إخفاق من الجانبين، وخسائر لكل طرفٍ، هي من صنع يديه غالباً. على الدوام، كان لكل من الطرفين نظرته الخاصة إلى الطرف الآخر. نظرة مبنية على تراكمات تاريخية.

رأى حكام إيران الجدد في الحكومة الأميركية، أنها المنتهك الأهم لسيادة الدول بهدف فرض سياساتها الخبيثة، وعلى نحوٍ خاص ضد إيران. تلك النظرة التي كانت في صميم دوافع الاستيلاء على السفارة الأميركية، لم تأتِ من فراغ. بل تعود إلى انقلاب عام 1953 ضد رئيس الوزراء الإيراني المنتخب محمد مصدق. الانقلاب الذي ساعدت أميركا وبريطانيا في هندسته. على الرغم من وجود مجموعات إيرانية كبيرة منخرطة بدعم الإطاحة بالرجل، لكن هذا لم يمنع من تنامي رؤية أميركا كمتلاعب بالسياسات الإيرانية الداخلية في الذاكرة الجماعية الإيرانية. مع الأخذ بعين الاعتبار، أن تلك الرؤيا ربما لم تكن لتتفاقم لو لم يتحول شاه إيران محمد رضا بهلوي، المستفيد الأول من الانقلاب، إلى حاكم استبدادي يجمع السلطات في يديه، إضافة لمفاقمته القمع والانتهاكات والفساد، خصوصاً مع الطفرة النفطية خلال السبعينيات. كل ذلك بدعمٍ أميركي كما يرى الإيرانيون.

كان لقرار الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون الاعتماد على إيران، كحاجز ضد التمدد السوفييتي في منطقة الخليج، تأثير مباشر على سياسات الشاه بعد الانقلاب على مصدَّق

على الرغم من أن علاقة الشاه مع رعاته الأميركيين من أيزنهاور إلى نيكسون كانت معقدة، فإن الكثير من المعارضين السياسيين الإيرانيين، بدؤوا يرون أن الولايات المتحدة ليست فقط متسامحة مع تجاوزاته، بل شجعته على حساب مصالح وحياة الشعب الإيراني. بدأ الاستياء الشعبي الجماعي في النمو بحلول منتصف الستينيات، لا سيما بعد القمع العنيف للمظاهرات التي أعقبت التنديد العلني بالشاه، من قبل رجل الدين الناشئ آية الله الخميني الذي اعتقله الشاه عام 1963، ونفاه لاحقاً إلى العراق. كان من بين أهم الانتقادات التي أوردها الخميني، اتهامه للشاه ونظامه بالخضوع إلى النفوذ الخارجي (الأميركي).

كان لقرار الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون الاعتماد على إيران، كحاجز ضد التمدد السوفييتي في منطقة الخليج، تأثير مباشر على سياسات الشاه بعد الانقلاب على مصدَّق. فقد أزال ذلك القرار، أي ضغط شعر به الشاه من الإدارات السابقة لدفع البلاد نحو إصلاح داخلي ذي مغزى. صدرت تعليمات لمسؤولي السفارة الأميركية بتجنب الأنشطة التي قد تؤدي إلى الضغط على الشاه، بما في ذلك تحذيرات لموظفي السفارة من إجراء أي تواصل مع المعارضة. مما حدَّ من معرفة السفارة بعمق العداء الشعبي ضد النظام. الطريف أنه عام 1978، بعد سنة من تولي كارتر منصبه، سوف يشيد بإيران باعتبارها "جزيرة استقرار، في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطراباً". جاء هذا  التصريح (الرؤيوي) الثاقب حين كانت البلاد على وشك الثورة، وإنهاء حقبة الشاه صديق أميركا.