icon
التغطية الحية

"مولانا".. رقصٌ منفرد على إنشاد جماعي

2023.05.04 | 12:00 دمشق

مسرح
نوار بلبل في مسرحية مولانا (تلفزيون سوريا)
محمود الطويل - تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

إذا كان "ثيسبيس" الإغريقي أولَ من نقل العرض المسرحي من الطقس الديني إلى الدنيوي وبذَرَ للمونودراما تُربة الممثل الواحد، فإن "نوّار بلبل" أعاد الاشتباك بين الديني والدنيوي بالمسرحية الانفرادية "مولانا"، التي يحملها على ظهره كصخرة سيزيف ويدوْر بها مسارح البلاد ليقول: "نحن الفُرادى".

قصة عابد

في إحدى ليالي البرد الذي ينخر العظام ويقصُّ المسامير، كان الجوع قد عجن مَعِدَ الناس وأمعاءَهم، حتى وقفوا صفًا طويلًا كأنهم رملُ صحراء لا تنتهي، ينتظرون حصّتهم أمام قِدْر يملأ لهم منه الشيخ زين العابدين ما يسدّ رمقهم؛ وبجانبه ابنُه الفتى عابد الذي يروي لنا قصته قبل أن يتهموه بالجنون؛ لم يمضِ على صفّ الجياعِ وقتٌ طويلٌ حتى نادى الشيخ بصوت يأكله العجز: "لا تواخذونا يا خلايق.. ما بقي أكل"، وحين بدأ الناس ينفضون خائبين سمع عابد عجوزًا يقول بتصبّر ورجفة: "ملحوقة يا ابني.. ما مناكل اليوم مناكل بكرا"، سارع الفتى إلى المنزل يحضر ما تيسّر من الطعام للعجوز وبعد بحثٍ وبحثٍ عنه وجدَه في زاويةِ طريق معتمة يلاعب قطة بطنُها يخرخر جوعًا، مثله، أعطاه عابد "السفرطاس" فَرِحًا بإطعامه فإذا بالعجوز يعطي أول لقمة للقطة، فيندهش عابد، ثم اللقمة الثانية أيضًا، فيتدخل عابد قائلًا له: "كول أنت بعدين طعميها يا حجي معقول اللي عم تعمله!" فأجابه العجوز باسمًا مستحضرًا روح الشيخ الصوفي الأكبر: "هيك علمنا شيخنا الشيخ ابن عربي.. كل المخلوقات متلنا بتجوع وبتزعل وبتفرح".

بلبل
نوار بلبل في مسرحية مولانا (تلفزيون سوريا)

في واحد من أكثر أحياء دمشق مزاجيّةً واختلاطًا وشعبيّةً، حي الشيخ محيي الدين، كان عابد يحاول صناعة طقسه الخاص للتواصل مع نفسه ومع ربّه، منذ نشأ ما بين نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثانية، ابنًا لشيخٍ أصولي متعصّب يعد كل مخالفة لما يعتقده غير جائزة وحرام، غليظُ الطباع شديد المراس والراس، يسعى ليستلم ابنه مكانه في جامع الشيخ محيي الدين من بعده، عن طريق إلزامه بالتعلّم في معاهد الأسد لتحفيظ القرآن والتزام الصراط المستقيم الذي لا يلتقي حتمًا مع طريق المتصوفة المبتدعين، وبرغم شدته وقسوته فإنه ذو ثقة عند المتصدّقين المتبرّكين بضريح الشيخ الأكبر ابن عربي، فقد كان موكلًا بإيصال تبرعاتهم للفقراء.

يراقب عابد من كثبٍ نفاق المجتمع المنتمي إليه، ولا يستطيع فهم احتيال التجار على الناس ثم وقوفهم بين يدي الله في الصلاة كأنهم لم يفعلوا ما نهاهم عنه وحرّمه، وكذلك كذب التائبين المستشفعين بالشيخ محيي الدين عن ذنبٍ ما ثم عودتهم إليه مرارًا، ما خلق حالة رفض تعاظمت في نفس عابد، وحين حاول أن يتخلّص من أردان الدنيا وقسوتها بالحضرة الصوفية وقع بين يدي شيخ بذيء اللسان طويل اليد للأذى لا للخير، يعاقب على أقل هفوة أو سهوة، وتضيق نفسه بأصغر سؤال.

أما الملجأ الوحيد لعابد فكان مرسم عمران، حيث تجتاحه الألوانُ فيصير مزيجَها من دون أن يفهم معنى أية لوحة، وحين رسمه صديقه في "بورتريه" فرح باللوحة كطفل صباحَ العيد، وانطلق ليضعها في إطار ثم يعلّقها في غرفته ويقول للجميع: "هي من عمرانو.. رفيقي عمرانو" متباهيًا بصديقه المثقف الرسّام، لكن المفاجأة حين حطّمها له أبوه برجليه ومنعه من العودة إلى صديقه المنحرف الذي "طلعت ريحته" ثم أخذته المخابرات.

أما دهشة عابد الأولى والأخيرة فكانت كمعظم أبناء جيله حين تلصص على جارته، لكنها لم تكن جارة اعتيادية، ماري فتاة فرنسية سكنت مع صديقاتها بيتًا مجاورًا له، وهم من الذين قصدوا دمشق لتعلّم العربية حينئذ، كانت ماري شقراء بيضاء كمواصفات فتاة أحلام معظم الشباب العربي، وبمشهد لا يحلم أن يراه عابد لا حقيقةً ولا منامًا، فقد تلصص عليها حين كانت تداعب أقدامُها ماءَ البحيرة الصغيرة في باحة البيت، وتكشِفُ عنها أكثر مما تستر، فانتشى، وصارت موسيقاها تحتل وعيه ولاوعيه.

استطاع نوّار بلبل بتمكّنه من أدواته التمثيلية ملء فراغات المونودراما، المعتمدة على شخصية واحدة في العرض، فقدّم عدة شخصيات بآنٍ معًا، برغم أنها تُستعرض من وجهة ذاكرة الشخصية الرئيسة "عابد" فقط

استطاع عابد أن يحفظ نصف القرآن كما أراد له أبوه ولكنه في جلسة التسميع غاب عن الوعي، وبدأ بالهذيان؛ حاول أن يهرب إلى نفسه أو إلى عمران، كعادته، ولكن الأوان قد فات، صار يهلوس في طرقات الحي ويشردُ بعيدًا عن كل جماعة ومجتمع حتى "طلعت ريحته" ونبذه الجميع، فهرب أخيرًا إلى الشيخ الأكبر، الغائب في ضريحه الحاضر في وجدانه، محيي الدين ابن عربي.

مريد بلا طريق ولا طريقة

برغم غياب العبارة الصوفية الشهيرة "الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق" عن الموروث المعرفي لشخصية عابد، إلا أنه استطاع إعادة خلقها بذاته، أو خلق ذاتها بها، فقد ضلّ عابد عن الطريق الذي قرر أبوه، الشيخ زين العابدين، أنه واضحٌ جدًا ووحيدٌ وموصلٌ إلى مرضاة الله، واستلام الجامع من بعده، هذا هو الطريق الذي لا بد منه ولو بالإكراه.

ثم دارَ عابد أيضًا خارج فَلَك شيخ الطريقة، عبد القدوس، الذي يرى في التصوف الطاعة التامة للشيخ والطريقة فقط، فهي الوحيدة الموصلة إلى الله بذكرها وحركاتها وسكناتها، ولا بد من الالتزام بتعاليمها الجماعية بصرامة، فلا خروج عن السرب، لكن عابد قرر رقص المولوية منفردًا فهذا ما تتوق له روحه الوثّابة للانعتاق ثم الاتحاد بعمق العشق الإلهي.

كذلك وقفَ عابد على حافة غضبى من المجتمع الذي ينافق ويكذب على الله وعلى نفسه في كل شيء ابتداءً بالبيع وانتهاءً بالتوبة والعبادة، وقطع مسيرته في معاهد الأسد لتحفيظ القرآن في منتصفها، معلنًا لنفسه وللجميع أن طريقه ليس من هنا، وطريقته أنه يبقى منفردًا، قائلًا في وضوح السالكين: "أنا عابد مالي عبدو"، حينها أقر أنه لا إكراه في الله ولا احتكار في الوصول إليه.

بالنهاية لم يغِب عابد في أحد الكواليس، ولم يبقَ حتى تُطفأ عليه الأضواء، بل تسرّب بحالة حلول سَرَيانِيٍّ حتى صار إلى وحدةِ وجودٍ مع ضريح ترجمان الأشواق محيي الدين ابن عربي.

الزمِ البابَ إنْ عشقتَ الجمالَ

واهجرِ النومَ إن أردتَّ الوصالَ

وتذللْ..

ولازِمِ الذِّكرَ حتى تسمعِ الردَّ:

"يا متيّمْ.. تعالَ"

اتجاهٌ وبُعْدٌ واحدٌ للشخوص

استطاع نوّار بلبل بتمكّنه من أدواته التمثيلية ملء فراغات المونودراما، المعتمدة على شخصية واحدة في العرض، فقدّم عدة شخصيات بآنٍ معًا، برغم أنها تُستعرض من وجهة ذاكرة الشخصية الرئيسة "عابد" فقط، كما كانت تلك الشخصيات نمطيةً بزيادة -كما يُقال-، أبٌ: شيخٌ أصوليٌّ متسلّط كارهٌ ورافض لكل شيء ولكل توجّه عدا توجهه يستخدم مكانته الاجتماعية لفرض الطاعة، وشيخٌ صوفيٌ: قاسٍ منفّرٌ بذيء اليد واللسان يستخدم مكانته الدينية لفرض الطاعة، مع أن الصوفية تمتاز بعكس ذلك من الرقة واللطف، إضافة إلى مجتمعٍ يضمُ تجّارًا محتالين على الناس وعلى الله يتسترون بالدين لتزكية أنفسهم وبضاعتهم، وتوّابين منافقين ومتصدقين متشاوفين، أما الناجي الوحيد من كل الشرور والمتوازن التام فهو الرسام الذي يفتح مرسمه وقلبه لعابد كي يرقص أو يؤذن حين يشرب المثقف عمران العرق، هو منفتحٌ ومتقبل للاختلاف حدّ أنه يحضُر حفلة ختم صديقه عابد لنصف القرآن مع معارضته لذهابه إلى معاهد التحفيظ، علاوة على أنه معارض للسلطة وطويل اللسان ضدها ما أدى لاعتقاله، فهو المتوازن الوحيد جامع المجد من أطرافه.

في أوقات الاستقطاب، ربما من الأفضل لنا أن نعترف في أعمالنا الفنية أننا "لسنا ملائكة وأن الشر ليس من اختصاص الآخرين".

مونودراما الدين والمجتمع في دمشق

أصدر الكاتب والمخرج السوري فارس الذهبي مسرحيته "مولانا" عام 2008 عن دار ممدوح عدوان، وقدّم لها في الطبعة الأولى المفكر المصري نصر حامد أبو زيد الذي تمنى في مقدمته أن يحضر أول عرضٍ لها، لكنه توفي قبل أن يرى هذا النص نور المسرح عام 2011 من إخراج غزوان قهوجي في مهرجان بغداد،

مسرح

تتالت بعدها العروض وتنوع مخرجوها ومؤدوها، حتى بداية عام 2018 حين أخرج ومثّل هذا العمل نوّار بلبل بالتعاون مع منصة لاسين، مترجمًا للفرنسية والإنكليزية، وبدأ الخال أبو النور، كما يُحب أن يُنادى، يجوب به المسارح والمهرجانات في عدة مدن أوروبية ليقدّم أصواتًا دمشقية في أكثر مناطق الشام اكتظاظًا وتنوّعًا ضمن تجربة مميزة في النص والأداء والحالة المسرحية التي تعالج فكرة الانفراد والانعتاق في زمن القطيع والتبعية، اجتماعيًّا ودينيًا، باستخدام تقنية ضيقة وصعبة، لكنها تناسب روح العمل وفكرته، تقنية الأداء المسرحي المنفرد "مونودراما".

في مطلع أيلول عام 2018 قدّم نوّار عرضه في إسطنبول لأول مرة، بصالة مقهى لالي كود، حينها كان الحضور متوسط العدد، واشتعل النقاش بعد العرض حدَّ أن سيدةً انسحبت منه لما رأت أنه تجاوزٌ على الدين والمعتقدات، ثم عاد نوّار إلى المدينة الشاسعة في 2 و3 من أيار عام 2023 ليقدّم العرضَ بجماهيرية أوسع على مسرح زبيدة هانم، وهو على اسم والدة أتاتورك، بدعوة من منتدى حرمون الثقافي، وصادف أن إحدى السيدات ذكرتْ أمامي نيّتها في الانسحاب من هذا العرض لأنها شعرت بازدراء للدين في بعض مشاهده.

أخيرًا.. صوتُ الفُرادى

ربما يرى بعض من حضروا العرض أن المشكلاتِ المطروحةَ ومقولةَ العرضِ لم تعد هي الأساسية للسوريين، خاصةً فيما بعد السنوات الأولى للثورة، وتحديدًا لمن خرجوا من سوريا، فقد صار تجاوزهم للمألوف والمعتاد والموروث أسهلَ ولا يُواجَهُ بضغوط ضخمة كما سبق، إضافةً إلى أن العرض يُقدَّم في بلاد اللجوء فهو يخاطبهم بالتحديد، وما استرجاع تلك الحالة إلا نوعًا من الوقوع في صراعاتٍ أقربَ إلى النوستالجيّة منها إلى الواقعيّة.

وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هذه الرؤية لكنها لا تقلل بحالٍ من أهمية العرض المقدم نصًا وأداءً وحالةً فنية إنسانيّة، ولا تبخس أهميتَه بالتحريض على عروض وأعمال فنية سوريّةٍ أخرى تعيد الاشتباك مع الموروث المجتمعي والفكري، وتقدّم أصواتًا وأراءً متنوعة تقول لكل متسلّط: "للفُرادى أحلامهم وطرقهم أيضًا.. فلا تُضيّقوا واسعًا يرحمكم الله".