من يُعيد السوريين إلى منازلهم؟

2022.03.02 | 05:31 دمشق

11.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يتردد على مسامع الدول الأوروبية أو الإقليمية مصطلح الحل السياسي في سوريا، إلا ويُلحق بملف إعادة اللاجئين، وهذا له ضماناته القانونية بطبيعة الحال، وفق قرار مجلس الأمن 2254 القاضي بعودة المهجرين واللاجئين، وبعبارة أدق عودتهم إلى "مناطقهم الأصلية" وفقاً للقانون الدولي، وهنا التساؤل.. كيف سيعودون إلى مناطق سكنهم الأصيلة؟ 

ثلاثة ملايين سوري في تركيا، ومليونان بين لبنان والأردن، ومثلهم في أوروبا، وملايين النازحين داخلياً، هرباً من بطش النظام، ونسأل هنا فقط: ماذا حل بالممتلكات العقارية لهؤلاء السوريين والسوريات؟ وكيف يديرون أملاكهم بعد أن أصدر النظام السوري سلسلة من القرارات تمنعهم من التصرف بها؟ 

أعتقد جازماً أن انتهاك حقوق ملكية السوريين لا تتسع له مقالات أو أبحاث بل وحتى مجلدات، وهنا لا نتحدث فقط عن الأثر المالي لهذه الانتهاكات، إنما ارتباطها بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والقانونية للسوريين والسوريات، إذ بدأت هذه الانتهاكات عام 1958 إبان الوحدة مع مصر وما تبعها من سياسات التأميم والإصلاح الزراعي، وترسّخت مع انقلاب حزب البعث عام 1963 وتطبيق السياسات الاشتراكية، وما رافقها من فرض حالة الطوارئ التي تبيح للحاكم العرفي الاستيلاء على العقارات والمنقولات.

بعد عقود من عملية التحول الاشتراكي، قامت السلطة عملياً بنقل قسم كبير من الثروة من أصحابها، إلى طبقة مرتبطة بها، مستغلة منظومة القمع والفساد، وتذهب لاحقاً إلى مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي، حيث أصبح المقربون من السلطة هم المتحكمون بالاقتصاد.  

نتج عن الحل الأمني والعسكري الذي انتهجه النظام بحق الشعب السوري إبان الثورة السورية مطلع عام 2011، اقتلاع أكثر من نصف السوريين من ممتلكاتهم وتهجيرهم بطريقة ممنهجة تارة عبر العصا الأمنية والخوف، وتارة عبر اتفاقيات المصالحة وعمليات التهجير القسري، لتبدأ عملية اللجوء عبر الحدود.

الحرمان من الملكية عقوبة الأسد لمعارضيه

استخدم النظام السوري التهجير القسري كأداة لمعاقبة معارضيه، وتفكيك البنى المجتمعية المعارضة، وخلق سوريا المتجانسة التي تحدث عنها رأس النظام. وترافق التهجير القسري مع انتهاكات لحق الملكية، بنيّة المعاقبة ومنع العودة إضافة إلى مكافأة أجهزته، حيث بدأت الانتهاكات بتسليط يد أجهزة النظام والميليشيات المتعاونة معه لنهب ممتلكات المهجرين بما عرف بـ "حملات التعفيش" إذ سُرق كل ما له ثمن، وجرّدت المنازل من جميع المقتنيات. كما أدى القصف الممنهج بالبراميل والقذائف إلى تدمير نسبة عالية من المساكن، واستكمل هذا التدمير بعد إخلاء المناطق من سكانها.

ترافقت هذه الإجراءات الميدانية، مع إجراءات تشريعية بدءاً من المرسوم 66 لعام 2021، مروراً بسلسلة من القوانين كان أشهرها القانون رقم 10 لعام 2018، والتي لم تراع غياب المهجرين عن مناطق سكناهم، وفرضت إجراءات إدارية وقانونية تمنع المهجرين من الدفاع عن ممتلكاتهم، مثل الموافقة الأمنية التي تحرم أصحاب الممتلكات من الدفاع عن حقوق الملكية، كما تمنع عنهم حق التقاضي الذي صانه الدستور. وتزامنت مع قوانين سالبة للملكية مثل قانون محكمة الإرهاب الذي يتيح مصادرة الممتلكات، وقانون خدمة العلم الذي يوقع الحجز التنفيذي على أموال المكلفين بالالتحاق في جيش النظام. 

ومن نافلة القول أن هذه القوانين مخالفة للدستور الذي صان الملكية ومنع المصادرة العامة، لكن يبقى الحديث عن الدستور في ظل هذا النظام هو نوع من الترف الفكري. وترافق كل ذلك، مع منع النظام من عودة المهجرين إلى مساكنهم، بل للانتقام من العائدين، وفق ما وثقته منظمة العفو الدولية بتقريرها تحت عنوان "أنت ذاهب إلى الموت".

كيف يؤثر الحرمان من الملكية على عودة المهجرين واللاجئين؟

في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة اليوم التالي حول اللاجئين السوريين في تركيا، وشمل نحو ألفي لاجئ، أبدى %74 من المشاركين رغبتهم في العودة إلى سوريا في وقتٍ ما من المستقبل، اشترط %71 منهم أن تكون عودتهم إلى مناطقهم الأصلية التي خرجوا منها. وهذا يقودنا إلى أن حق الملكية والسكن، ليس فقط حقاً مالياً، أو تعويضات مالية عن خسائر الممتلكات، وإنما يرتبط بحق الإنسان في العودة إلى بيئته ومجتمعه، لذا فإن الحرمان من هذا الحق يعني تدمير النسيج المجتمعي السوري وتفكيك روابطه، لصالح خلق بيئة مجتمعية أخرى وفق محددات وعوامل سياسية وأمنية. 

لذلك فقرار المهجر أو اللاجئ بالعودة يرتبط بشكل أساسي في قدرته على العودة إلى ممتلكاته، وخاصة مسكنه، لذا فإن حرمان المهجرين من حق الملكية، سيكون له تداعيات تؤثر على قرار العودة، وهذا ما أكده البنك الدولي في إحدى دراساته التي ذكرت أن من مثبطات العودة انعدام الأمن بما يشمل الاحتجاز التعسفي والتجنيد الإجباري، وغيره من انتهاكات حقوق الإنسان والملكية.

التجارب والتشريعات الدولية في حقوق ملكية المهجرين

إذا ما أردنا البحث في التجارب الدولية فيما يتعلق بالتهجير القسري وحقوق الملكية والسكن فإن تجربة الحرب في البوسنة والهرسك هي أقرب لما حدث في سوريا (الانتهاكات بسوريا أكبر) إلا أن أطراف الصراع عندما بدأت في اتفاقيات السلام، راعوا بشكل أساسي ضمان عودة المهجرين إلى ممتلكاتهم، كأحد العوامل الأساسية في بناء السلام المستدام، فقد تضمنت اتفاقية دايتون للسلام في البوسنة والهرسك ملحقاً خاصاً باللاجئين والمهجرين، ونصت المادة الأولى منه:

"جميع اللاجئين والمهجرين لهم الحق في العودة إلى ديارهم الأصلية، والحق في استعادة ممتلكاتهم التي حرموا منها خلال الصراع منذ عام 1991، وتعويضهم عن كلّ الممتلكات التي لا يمكن استعادتها، تعدّ عودة اللاجئين في أقرب وقت ممكن عنصراً بالغ الأهمية في إنهاء الصراع في البوسنة والهرسك. وقد وافق جميع الأطراف على السماح للاجئين الذين تركوا أماكن سكنهم بالعودة، بما يشمل الأشخاص الذين منحوا حماية مؤقتة من الدول الأخرى".

أما في التشريعات الدولية فقد نصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "لكل  فرد حق التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، ولا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً" ومن جهة أخرى، اعتبر القانون الدولي التهجير القسري جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، وفق سياق حدوثها. كما نص على وجوب السماح للمهجرين بالعودة إلى مساكنهم حال انتهاء الأعمال العسكرية.

ووفقًا لمبادئ بينيرو التي تبنتها اللجنة الفرعية لحماية وتعزيز حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عام 2005، فإن الحق في استعادة الملكيات التي فُقدت تعسفًا حق مصون. "يحقّ لجميع اللاجئين والمشردين أن يستعيدوا أي مساكن أو أراض أو ممتلكات حُرموا منها، بصورة تعسفية أو غير قانونية، أو أن يحصلوا على تعويض عن أي مساكن أو أراض أو ممتلكات يتعذر عملياً إعادتها إليهم، حسبما تخلص إليه محكمة مستقلة محايدة" وغيرها ومن التشريعات الأخرى. لكن هل يمكن للنظام السوري أن تردعه أي من هذه التشريعات؟

ملخص القول، إن أي حل سياسي في سوريا يهدف لبناء سلام عادل ومستدام، يجب أن يضمن عودة النازحين واللاجئين إلى مناطق سكناهم وممتلكاتهم -عودة آمنة طوعية كريمة- وأي حل سياسي لا يضمن حقوق الملكية، لن يسهم في عودة المهجرين إلى ممتلكاتهم وأماكن سكناهم، لذا فلن يحقق السلام العادل والمستدام، كما أن أي إجراءات لإعادة الإعمار من دون معالجة إرث انتهاكات الملكية، سيكون انتهاكاً جديداً على أنقاض حقوق السوريين والسوريات.