icon
التغطية الحية

من "كليلة ودمنة" إلى "الغابة البرتقالية".. حين تحمل الحيوانات أصوات البشر

2023.09.16 | 22:51 دمشق

كليلة
منمنمة من كليلة ودمنة
+A
حجم الخط
-A

لطالما كانت فكرة الحكايات الخرافية التي تعتمد وضع أفكار البشر على ألسنة الحيوانات، وجعل فضاء الغابة كناية عن العالم الإنساني مغرية ومحفزة للكثيرين.

ففي تراثنا العربي يقف كتاب "كليلة ودمنة" للفيلسوف الهندي (بيدبا) الذي نقله ابن المقفع إلى العربية في المقدمة، ومن بعده ترد مؤلفات أخرى مثل "الحيوان" للجاحظ، و"الفهرست" لابن النديم، الذي أفرد مقالة خاصة بعنوان "في الأسمار والخرافات والعزائم والسحر والشعوذة"، وكتاب "النمر والثعلب" لسهل بن هارون، ورسائل "الصاهل والشاحج" للمعري، ورسالة "محاكمة الحيوان للإنسان أمام الجان" لإخوان الصفا.

وعلى الصعيد الإنساني تأتي أقوال لقمان الحكيم، وحكايات إيسوب اليوناني، ولافونتين الفرنسي، وأيضاً خرافات ليسينغ الألماني، وحكايا مواطنيه الأخوين غريم، مروراً برواية جورج أورويل الشهيرة "مزرعة الحيوان".

ومن بين المعاصرين لا يمكن العبور دون اهتمام بكتاب عميد الأدب العربي طه حسين "جنة الحيوان" وكتاب توفيق الحكيم "حمار الحكيم"!

في أغلب الكتب السابقة يجد القارئ دائماً ما يمتعه ويسليه في فرضيات قصصية وضعها مؤلفوها، ولكنه في الوقت ذات يعرف مسبقاً بأن المحاكاة التي تُبنى عليها هذه القصص، تتعلق أصلاً بوجهات نظرهم، وأن تورياتها الافتراضية كانت منذ البداية مفضوحة أمام جميع من قرأ هذه الحكايات. وبالتالي فإن من يتجرأ على كشف الواقع بهذا الشكل سيكون بدوره مكشوفاً أمام الجميع بما فيهم السلطة التي يحاول الاحتيال على رقابتها وموانعها وزواجرها، وقد يدفع ثمن ما فعله.

في زمننا الحالي حيث تسود في مواقع التواصل الاجتماعي التدوينات السريعة الخاطفة تذهب الكتابة الراهنة نحو تحطيم صفات البطولة والقوة عند الأفراد، وتميل نحو السخرية من كل الكائنات والأشياء

يعرف القارئ أن ابن المقفع لقي مصيراً شنيعاً قوامه القتل حرقاً وتقطيعاً بسبب ما يقال عن سخريته من قاتله، وربما لا يغيب مصيره عند مراجعة واقعنا الراهن، إذ ثمة أمثلة حاضرة تتشابه مع هذه الواقعة، فهناك دائماً سلطة ما، تخاف من أن تُفضح ممارساتها أمام العامة، وهي مستعدة لأن ترتكب جرائم فظيعة في سبيل ذلك، وما قتل كاتب أو صحفي إلا مسألة بسيطة في أعرافها، فهي ببساطة تنتقل من القانون الإنساني الذي تعتمده إلى قانون الغاب أو شريعته في انتقامها من كل من ينتقدها، أو يؤشر إلى جرائمها، وهي بذلك لا تبتعد عن صورتها التي يرسمها لها المؤلفون الذين يعتمدون مثل هذا الأسلوب في كتاباتهم.

ليست مسألة طريفة أن صناع الحكايات يعيدون الكرة رغم معرفتهم بتبعاتها وخطورتها على حيواتهم، فهذا مؤشر حقيقي عن غياب الديموقراطية، وتسيد الرقابات، والتي جعلت المبدعين يمارسون على أنفسهم رقابتهم الذاتية خشية تهديدات الديكتاتوريات، لكن في المقابل يجب الإلتفات إلى أن هؤلاء يفعلون ذلك، وهم يستمتعون في صناعة المشهدية الذكية، وخلق المفارقة التي تفضي إلى الضحك، وفق تكنيك بسيط يقوم على استغلال ما يكتنفه عقل القارئ أو المشاهد أو المستمع ضمن الصورة النمطية للحيوان، وتحميلها سلوكيات بشرية يريدون لها أن تظهر.

وإذا كان هؤلاء يمتلكون من الجرأة ما يكفي فإن هذه السلوكيات ستكون حكماً منقولة من عالم الشخصية التي يريدون هجاء أفعالها، وبذلك فإنهم يضعون فوق طبقة الصفات السيئة المعلومة مسبقاً عن الحيوانات، طبقة أخرى هي الأمزجة الإنسانية المستهجنة، وبالتالي فإن اللجوء إلى هذا النوع الفني لا يأتي فقط من دواعي الخوف، بل يأتي أيضاً من الرغبة في زيادة الهجاء درجات إضافية،  ودفع السخرية إلى مرتبة أعلى، تُضحك الجمهور، وتُرسخ الحقيقة التي تحاول السلطة تغييبها في ذاكرته ومدوناته.

في زمننا الحالي، حيث تسود في مواقع التواصل الاجتماعي التدوينات السريعة الخاطفة، تذهب الكتابة الراهنة نحو تحطيم صفات البطولة والقوة عند الأفراد، وتميل نحو السخرية من كل الكائنات والأشياء، فيحول قانون مورفي الشهير حيواتنا إلى مادة للضحك الاستثنائي، فيختلط الواقع بمحددات الصدفة والضرورة، وبدلاً من اللجوء إلى التصريح كما فعل كتاب كثيرون، يحاول البعض إعادة إنشاء خرافات حيوانية تتناسب مع الواقع الراهن، وبما يحتويه من فظائع وفجائع.

وفي هذا السياق يأتي كتاب "الغابة البرتقالية" لمؤلفه أبو سفيان الحوتي، والذي يضم في صفحاته 7000 تدوينة ومضية، تشرح واقع حال الغابة التي بدأت حكايتها "في لقاء خاص، لقاء جمع بين الأسد العجوز والشبل الباحث عن الحكمة"، و"بدأت بحكم أسد طموح يحاول السيطرة على مملكة من غابة كبيرة، وانتهت بعناد وغرور نفس الأسد".

برتقالية

في لقطات سردية مثيرة يلخصها الحكيم (نوب) وهو يتنهد أمام للشبل (سروان) ويقول: "جاء التحول الكبير، عندما اكتشفت بعض حيوانات الغابة البرتقال! فاكهة عجيبة تحمل اسمها في لونها، تنمو بأرض الغابة بسرعة خرافية! من الممكن أن تتابع بعينيك خلال دقائق نموها السريع وتكاثرها المذهل، من المؤكد أن البرتقال فاكهة سحرية! بعض الحيوانات اتخذت البرتقال طعاماً، البعض الآخر استغله كعلف للحيوانات التي هي طعامه! البعض استخدمه في الزينة، والبعض الآخر قام بتخزينه للمستقبل".

يتبع المؤلف في هذا الكتاب الخطوات المعتادة في طقوس الكناية الحياتية في الواقع العربي المرير، وربما يتعدى الأمرُ العالم الممتد من المحيط إلى الخليج لينفتح على الكوكب كله. إذ إن الصراعات والحروب والمؤامرات وقد أمست أحداثاً متكررة في كل جهات الأرض، تحتاج لمن يعبر عنها بعيداً عن اللغة الإخبارية، وعن اللغة الأدبية في الرواية والقصة والشعر والتي تنزع نحو الخيال، وتحتاج أيضاً إلى التكنيك المناسب، الذي يسمح بتداول غير محدود لها، وفي هذا يمكن العثور على تدوينات "الغابة البرتقالية" في كل ما يمكن توقعه أو ارتياده، من فيس بوك وحتى تيك توك،

أبو سفيان الحوتي وبحسب ما يعرف به نفسه على صفحته في موقع X (تويتر سابقاً) مهندس استشاري معماري، فنان تشكيلي، مدرب تطوير قيادي، مؤلف كتاب (مقاعد العمل الثمانية)، مجموعة قصصية (بوفيه مفتوح)!

برتقالية

وبين تدويناته الكثيرة يعثر كل قارئ على أعدائه الشخصيين، وقد تم التنكيل بصفاتهم وممارساتهم على يد حيوانات الغابة ذاتها، ولعل القيمة الكبرى في صفحات الكتاب إنما تأتي من النقد اللاذع لسلطة ما، لا يصرح المؤلف بهويتها، بل يترك للقراء هذه المهمة، وما أسهلها من مهمة لدى المقهورين والمنفيين والناقمين الغاضبين على حكام الأوطان المنهوبة!

 في صفحات الكتاب نقرأ:

  • "أسوأ ما يمكن متابعته: حمار يدافع عن قضية عادلة أمام ثعلب ظالم!"...
  • "في جمهوريات الموز، يزداد القرود تطاولاً على الشجرة!"
  • "في كل يوم، تستيقظ الخراف كي تسأل سؤالا واحدا مكررا: هل مات الذئب؟"...
  • "يمامة عاجزة عن الطيران، وتدعي أنها الصقر!"...
  • "عندما يسترسل الحمار المخمور في الحديث، تكاد الثعالب المجبرة على الاستماع والإعجاب أن تنفجر غيظاً! فيظهر التصفيق الهستيري! وبداخلها (ليته صمت)!"...
  • "في لحظة مواجهتي مع الفريسة، تعثرت خطواتي! فافترستني!"...
  • "تتنافس الأسود على لقب ملك الغابة، في النهاية يفوز ضبع متنكر يحمل لقب الأسد!"...
  • "إذا قابلت الفيل، وسألت الفيل، (هل أنت فيل؟)، فسوف يتأكد الفيل أنك حمار!"...
  • "تختلف أسباب ثقة الحمار عن، الثقة في الحمار!"...
  • "كل ما يمكنك فعله للفوز بالفريسة؛ هو كل ما يجب عليك فعله!"....
  • "أسوأ الكلاب: (المتطوع) بالنباح."...
  • "ليست الصدمة في اكتشاف أن (الملاك) البريء كان ثعلباً ماكراً خبيثاً! الصدمة في الحيوانات التي خُدعت! والحيوانات التي دافعت عن براءته باستماتة!"...
  • "لا جدوى من النقاش مع ببغاوات!"...
  • "يعتقد الحمار أن إنكار الاعتراف بالمشكلة يحلها!"...
  • "في كل يوم، تكشف لنا الغابة عن حيوان جديد!"...
  • "الاعتراض على الحمار لا يعني القبول بأي جحش!"...
  • "ذنبي من الطيران سوف أنكره، لعل الأرض تستأنس بخطواتي!"... من حديث الصقر…
  • "لا ينكرها أحد، إنجازات الخنزير المُصاب بالإسهال في كل مكان!"...
  • "لا يخذل البغل توقعاتنا فيه أبدا!"...
  • "عند كل الجحاش، الحمار مُلْهَم ومُلْهِم!"...
  • "ألقى الذئب على البغال نكتة تسخر من البغال! ضحكت البغال إلا واحداً! ليس انتصاراً لكرامته أو رفضاً للنفاق! لكنه لم يفهم!"...
  • "حرائق الغابات تهدد جميع حيواناتها، لكن الحمير لا تدري!"...

*الغابة البرتقالية
أبو سفيان الحوتي، 2023

256 صفحة

كتوبيا للنشر والتوزيع