icon
التغطية الحية

من الأندلس إلى الشام.. من يكمل "طوق الحمامة"؟

2024.06.07 | 15:35 دمشق

564444
+A
حجم الخط
-A

أمرُّ باسمكِ إذ أخلو إلى نفسي      كما يمرُّ دمشقيٌّ بأندلسِ

بيت شعر قاله محمود درويش معبّراً عن انصهار ثقافي ووجداني بين الشام والأندلس. حتى إن المقري في مقدمة كتابه "نفح الطيب" ذكر أن داعيه لتأليف كتابه هو العلاقة الروحية بين أهل الشام وبلاد الأندلس، فقال متحدثا عن الكتاب:

"وقد كنت أولاً سميته بعرف الطيب، في التعريف بالوزير ابن الخطيب، ثم وسمته حين ألحقت أخبار الأندلس بنفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب. وله بالشام تعلق من وجوه عديدة، هادية متأملها إلى الطرق السديدة؛ أولها أن الداعي لتأليفه أهل الشام -أبقى الله مآثرهم وجعلها على مر الزمان مديدة. ثانيها أن الفاتحين للأندلس هم أهل الشام ذوو الشوكة الحديدة. ثالثها أن غالب أهل الأندلس من عرب الشام الذين اتخذوا بالأندلس وطناً مستأنفاً وحضرة جديدة. ورابعها أن غرناطة نزل بها أهل دمشق، وسموها باسمها لشبهها بها في القصر والنهر، والدوح والزهر، والغوطة الفيحاء، وهذه مناسبة قوية العرى شديدة".

فبعد وصول الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الملقب بـ "الداخل" إلى الأندلس، حرص منذ نشوء دولته (138هـ) على تجديد حضارة بني أمية في الغرب بعد اندثار حكمهم في المشرق، ناقلاً التجربة الدمشقية إلى البلاد الأندلسية على مستوى النظم الإدارية والنمط العمراني وكذلك الزراعي من نخل وكباد وزهور، الياسمين منها خاصة.

الطبيعة الشامية تسبق الداخل إلى الأندلس

في عام 92هـ/ 710م بدأ الفتح الإسلامي للأندلس على يد طارق بن زياد وموسى بن نصير. لم تمض سنتان حتى وصلت جيوش الفتح إلى أقصى الشمال الإسباني، وبدأ الفاتحون يكاثرون أهل البلاد ويختلطون بهم. إلا أن الحدث الذي صبغ الأندلس بطبيعة الشام تمثّل في دخول طليعة بلج بن بشر عام 123هـ/ 740م إلى الأندلس بعد أن تمكن من قمع ثورة الخوارج في المغرب العربي في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وكان عماد جيش بشر من الشاميين، أهل دمشق وحمص والأردن وغيرها، ولما جذبتهم الطبيعة الأندلسية الخلابة قرروا الإقامة في البلد الجديد، فنزل أهل دمشق في غرناطة وأهل حمص في إشبيلية وأهل قنسرين في جيان وأهل الأردن في قرطبة... وهكذا، ولم يكن اختيارهم لمكان الإقامة الجديد بشكل عبثي بل اختار كل أهل بلد المكان الذي يشبه منطقته في بلاد الشام.

ولأن الحروب مع مرارتها جزء من البناء الثقافي والتلاقح الفكري في المجتمعات، ساهمت الحروب القيسية - اليمانية التي اندلعت في الأندلس قبيل وصول عبد الرحمن الداخل في إسالة القريحة الأدبية للشعراء؛ فما شهده المشرق سابقاً من الحروب القبلية في فترة حكم عبد الملك بن مروان (65– 86ه)، شهدته الأندلس بعد استقرار الشاميين فيها، وساهمت هذه الحروب بإعادة إنتاج نسخ الهجاء والمديح والفخر والرثاء وغيرها من الألوان الأدبية التي كانت منتشرة في عهد بني أمية في المشرق.

دمشق بعيون أندلسية

لم يكن فرار الأمير عبد الرحمن الداخل من سيوف العباسيين إلى المغرب العربي مجرد إعادة إحياء ملك آبائه المندثر وإنما إعادة إحياء الروح الشامية في البلاد الجديدة بكل تفاصيلها بدءاً من الورود والأشجار وليس انتهاء بالنمط العمراني، حيث بنى الأمير الجديد مدينة في ضواحي قرطبة سماها "الرصافة" وجلب إليها أول نخلة سميت نخلة الداخل، وفيها قال:

تبدّت لنا وسط الرصافةِ نخلةٌ     تناءت بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ

فقلتُ شبيهي بالتغرّبِ والنوى        وطول التنائي عن بني وعن أهلي

نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبة ٌ     فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

أورث الداخل بنيه هذه الغصة المشرقية فلاحقتهم أمراءَ وخلفاء قرابة 300 عام، يحاولون ما استطاعوا تخفيف أثرها بتحويل الأندلس إلى صورة مطابقة عن دمشق؛ ففي العمران كان التشابه واضحاً جلياً بين مساجد الأندلس والشام، مثال مسجد قرطبة ومحاكاته للجامع الأموي بدمشق من حيث شكل المآذن والزخرفات والنقوش. أما البيوت، فتكاد لا تخلو من الياسمين والنوافير، والطلاء الأبيض لجدران البيوت الخارجية، مع الإفراط في تنظيم الأسواق وتقسيم الأزقة والتفنن في أنماط الحياة اليومية أو ما يعرف بـ "الإتكيت".

كل ذلك انعكس على نفسية الأدباء والمغنين فرقت ألفاظهم وعذبت عباراتهم وفاضت معاني مفرداتهم. وكما تألق نهر بردى في غوطة دمشق، كذلك كان نهر الوادي الكبير في قرطبة.

يقول الشاعر الأندلسي ابن زيدون مخاطباً محبوبته ولادة بنت المستكفي:

إِنّي ذَكَرتُكِ بِالزَّهْراءَ مُشتاقاً  وَالأُفقُ طَلقٌ وَمَرأى الأَرضِ قَد راقا

وَلِلنَسيمِ اِعتِلالٌ في أَصائِلِهِ  كَأَنَّهُ رَقَّ لي فَاعتَلَّ إِشفاقا

وَالرَوضُ عَن مائِهِ الفِضِيِّ مُبتَسِمٌ  كَما شَقَقتَ عَنِ اللَبّاتِ أَطواقا

نَلهو بِما يَستَميلُ العَينَ مِن زَهَرٍ  جالَ النَدى فيهِ حَتّى مالَ أَعناقا

الحزن الأندلسي يخيم على دمشق

يبدو أن الأندلس التي تشربت الشام أرادت لنهايتها المأساوية أن تكون إرثاً عاطفياً وجدانياً لما يعانيه أهل الشام اليوم، فما أشبه اليوم بالأمس، عندما بكى الشعراء والأمراء والمترفون مدناً سقطت واحدة تلو الأخرى على يد القشتاليين منذ سقوط طليلطة في يدهم (1085م) حتى سقوط غرناطة (1492م) في فترة ما أطلق عليها "حروب الاسترداد"، وكان الأندلسيون في نزوح مستمر من مدينة إلى أخرى يحملون معهم ذاكرة مليئة بصور البلاد، وجرحهم نازف أصابه رهاب حروب الاسترداد.

خيم هذا الحزن الأندلسي على سوريا بعد عدة قرون؛ مقاومةً ثم نزوحاً ثم ضياعاً إلا من ذاكرة البلاد، فبكى شعراؤها وكتابها ومترفوها وفقراؤها كما بكت نسختها الأندلسية، وكأن مرثية "أبي البقاء الرندي" تتكرر كل يوم، وبألسنة سوريّة هذه المرة، وكأن طوق الحمامة الذي خطّه ابن حزم الأندلسي أبقاه مفتوحاً ليكمله السوريون بإضافة نوع آخر من الحب والشوق، والفجيعة.

***

من مرثية "الرندي" في ضياع الأندلس:

لكل شيء إذا ما تم نقصان    فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول    من سره زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تبقي على أحد    ولا يدوم على حال لها شان

يمزق الدهر حتما كل سابغة    إذا نبت مشرفيات وخرصان

وينتضي كل سيف للفناء ولو    كان ابن ذي يزن والغمد غمدان

أين الملوك ذوو التيجان من يمن    وأين منهم أكاليل وتيجان

وأين ما شاده شداد في إرم    وأين ما ساسه في الفرس ساسان

وأين ما حازه قارون من ذهب    وأين عاد وشداد وقحطان

أتى على الكل أمر لا مرد له    حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا...