ممرات آمنة..

2023.02.08 | 06:04 دمشق

ممرات آمنة..
+A
حجم الخط
-A

لم تمضِ سوى ساعات على مقابلة الفنان سوري "هاني شاهين"، قال فيها إنه بعد ستين عاماً من العمل هو الآن جائع، وأن طعامه منذ عشرين يوماً ليس إلا "زيت وزعتر"، وأوضح أن الزيت الذي يستعمله ليس زيت الزيتون بل هو زيت أرخص، حتى ظهر مرة أخرى ليعتذر عن جوعه أولاً، وليعتذر عن جرأته في قول الواقع الحقيقي الذي يعيشه ملايين السوريين ثانياً، وليتملق "نقابة" لم تكن يوما إلا وجها من أوجه الاستبداد ثالثا، وظهر الفنان إياه وهو يتلعثم مبررا ما فعله كما لو أنه ارتكب جريمة نكراء، وعليه أن يسرع بالاعتذار عنها قبل أن يحسب على المعارضة "الخائنة"، فالمعارضة وحدها من يرتكب خيانة الوطن بالحديث عما يحدث به.

في المسلسل السوري الشهير "ضيعة ضايعة"، وفي حلقة منه عنوانها "تملق"، تطلب سلطة عليا من سكان قرية "أم الطنافس الفوقا" التوقف عن التملق، وتطلب منهم أيضاً التعبير عن الرأي بحرية، ولأن سكان القرية عاشوا طوال حياتهم يخافون السلطة، ويتملقونها، ولم يعرفوا يوما معنى الرأي وحريته، فإنهم يرتبكون، وتنكسر رتابة حياتهم تحت وطأة خوفهم من أن يعيشوا حقيقيين، بوجوه صريحة، وبرأي معلن، ولا يطول الأمر حتى يكتشفوا أنهم عاجزون عن تنفيذ القرار العتيد، وهكذا يتوجهون جميعهم في نهاية الحلقة ليعلنوا عجزهم عن امتلاك الشجاعة، وعجزهم عن قول رأيهم، ولأنهم عجزوا عن تنفيذ ما أمرتهم به السلطة العليا، فقد كانوا سعداء حين تم زجهم كلهم في السجن، لأن سجنهم يعني أن الصيغة التي عاشوا عليها طوال حياتهم ستعود كما كانت.

لا أحد من الشعب البائس المرعوب يجرؤ على الفرح أو السعادة لموت الطاغية، وهكذا فإن الطاغية لا يموت، لأنه حي فيهم، وحاضر في كل تفاصيل الخوف الذي يلازمهم كظلهم

في روايته خريف البطريرك، والتي حازت على جائزة نوبل في الآداب (1982م) للروائي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز، يموت البطريرك الطاغية السفاح، ومع هذا فإن الرعب يظل رابضاً بكل ثقله مستبيحاً البلاد، لا أحد من الشعب البائس المرعوب يجرؤ على الفرح أو السعادة لموت الطاغية، وهكذا فإن الطاغية لا يموت، لأنه حي فيهم، وحاضر في كل تفاصيل الخوف الذي يلازمهم كظلهم.

بعد مقال كتبته عما يجري في السويداء، وقلت إنني أدعو كل من يعيشون في مناطق تديرها أجهزة النظام للاقتداء بما يفعله أهل السويداء، أرسل لي أحد ما ردا على دعوتي هذه قال فيه:  

(من قال لك إننا نريد الحرية التي تتحدثون عنها، وهل تصدق أننا سنضحي من أجلها، ثق أننا مستعدون لأن نضحي مئة مرة من أجل طغاتنا، ولسنا مستعدين للتضحية مرة واحدة من أجل تلك الحرية المزعومة، لا تقل لي إنه الرعب وحده هو من يقودنا، فالطاغية الذي أورثنا كل هذا الرعب مات، ونحن نعرف أنه مات، فقد خرجنا في جنازته، ونزور قبره، لكننا لن ندعه يموت، سنبقيه على قيد الحياة، سنخضع له في موته كما كنا نخضع له في حياته، وسنحمله في تفاصيلنا اليومية، ولن ندع أحداً يأخذه منا، ليس لأننا نحبه أو نكرهه، فالأمر ليس هكذا، نحن فقط أدمنّاه، أدمنّا حياتنا الممسوخة التي رسمها لنا كما يشاء، وأدمنّا عجزنا الذي نحمله على أنه الحقيقة الأهم في حياتنا، ولهذا فنحن نرفض حياتكم التي تحاولون فرضها علينا، ومجرد ذكرها يكسر إيقاع حياتنا ويفقدنا القدرة على النوم).

 تسألني من نحن..؟

نحن الذين أمسكنا بشاب يهرب من دورية مخابرات وسلمناه إلى الدورية، هل تظن أننا صدقنا عناصر الدورية الذين صرخوا بنا أن نمسك به لأنه "حرامي"، نحن نعرف أنهم هم "الحرامية"، وأنه حين قال لنا ونحن نحاصره: "أنا شيوعي وسياسي ولست لصا"، كنا نعرف أنه يقول الحقيقة، لكننا أمسكنا به، وسلمناه لهم، كنا نريد أن نمنح أنفسنا لمرة واحدة شعور امتلاك السلطة، أو مشاركتها، هكذا، بلا أي معنى وبكل هذا العبث، لا بل إن أحدنا تجرأ وقال لعناصر المخابرات: ألا يحق لكل منا سندويشة مقابل مساعدتنا لكم، فشتمه أحدهم، وعندما ابتعدوا ضحكنا لمنظر الشاب الذي كانوا يواصلون ضربه، ولم نخجل من أنفسنا، لكننا شتمنا دورية اللصوص التي تنهبنا وتنهب البلد لكنها لم تشتر لكل منا سندويشة.

نحن الذين نخاف كل شيء، نخاف أن نفكر فيما تقوله لنا دورية المخابرات الفاجرة، فنصدقه بلا تردد، نخاف إن صرخنا من الجوع أن يفهموا صراخنا معارضة فنعلن ولاءنا قبل أن نصرخ، ونهتف بحياة القائد قبل أن نتسول رغيف الخبز، نطلق أسماء لا نحبها على أبنائنا ونعتقد أننا نحميهم بها من طاغية ما، نتقن الكذب كي لا نموت، ونخاف من الجنون، فلعلنا في جنوننا نقول بعض الحقيقة وندفع ثمنها، هكذا نحن.. مستمرون وباقون حيث نحن.

تسألني إلى متى..؟

ممرات آمنة لكي نعبر من الكذبة التي نعيشها إلى عري حقيقتنا، ممرات آمنة لكي نقول بلا خوف أننا جوعى، وأننا مقهورون

هل تتذكر الحديث عن الممرات الآمنة في سنوات الثورة الأولى، عندما كانت قوات النظام تحاصر مدنا أو تجمعات لمواطنين سوريين، يومها كان مجرد محاولة السوري كي ينجو تؤدي به إلى الموت، لذلك كانت الممرات الآمنة مطلباً ملحاً، والممرات الآمنة هي منطقة خالية من الوجود العسكري، يقوم طرف ثالث بحمايتها ويكون هذا الطرف خارج النزاع القائم، سنظل هكذا حتى تتوفر ممرات آمنة، ولا تنسى أن الطرف الثالث هو الأهم!!

ممرات آمنة لمن، ومن أين، وإلى أين؟!.

ممرات آمنة لكي نعبر من الكذبة التي نعيشها إلى عري حقيقتنا، ممرات آمنة لكي نقول بلا خوف أننا جوعى، وأننا مقهورون، ممرات آمنة لكي نقول الحقيقة بأن الطاغية الذي ينام في قبره عار علينا، ممرات آمنة لكي نبصق في وجه دورية المخابرات، ولكي نحمي الشاب الذي يحاولون اعتقاله، ونقول لهم بكل وضوح أنتم اللصوص، ممرات آمنة لكي نسمي أولادنا كما نحب، ولكي نحمي أولادنا من الخوف والتملق، ممرات آمنة من أجل أن نكون بعض ما نشتهي أن نكون، ممرات آمنة لكي نصرخ، لكي نبكي أو نغني أو ننتحر، فقط لكي نفعل ما نريد.