مقارنات غير عادلة!

2024.05.19 | 06:10 دمشق

درعا
+A
حجم الخط
-A

عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، ومع استثناءات بسيطة ربما في مصر والمغرب، لم يكن هناك دولٌ تقريبًا في الخارطة العربية، فإما ولايات تتبع الإمبراطورية العثمانية كما في الشرق، وإما ولايات سابقة خضعت لاحتلال فرنسي أو بريطاني أو إيطالي، وإما قبائل متناثرة في صحراء الخليج العربي تكاد تشكّل بعضُها سلطات أمرٍ واقعٍ لم ترق يومًا إلى مستوى الدولة. لم تتشكل الدول العربية وفق منطق التطور الداخلي لمجتمعاتها فقط، بل ربّما لم يكن لهذا العامل كبير تأثير في تلك العمليّة، إنما خضعت أكثر لمنطق الاحتكاك العنيف مع الحضارة الغربية التي جاءت بشكل استعمارٍ مباشرٍ ليزيح نمطًا ساد قرونًا طوالًا ويأتي بنمطٍ جديد كليًّا. انهارت أربع إمبراطوريات عظيمة نهاية تلك الحرب، تشكّلت إثرها دولٌ واندثرت أخرى، وكان من نصيب منطقتنا تكريس مشروع قومي تركي وآخر إيراني، لحقهما مع نهاية الحرب العالمية الثانية مشروع صهيوني إسرائيلي، وقد تمّ ذلك ضمن حدود دولٍ بقيت متحرّكة فترة من الزمن، وبعضها كما في حال إسرائيل لم يثبت حتى اللحظة. بالمقابل كان ثمّة تحطيمٌ لمشروع قومي عربي ظلّ حبيس أقفاص التقسيم، لكنّه كان أيضًا في كلّ فؤاد وعلى كل لسان ردحًا طويلًا من الزمن.

للمقارنة البسيطة، تشكلت دولة سوريا المستقلة عام 1946 مع جلاء آخر الجنود الفرنسيين، فورثت هياكل ومؤسساتٍ جاهزةٍ ذات نمطٍ مركزي تعتمد العاصمة منطلقًا لإدارة كل صغيرة وكبيرة في أبعد نقطة من البلاد، ما ساعد لاحقًا في تمتين أسس الديكتاتورية. بينما تشكلت دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، وقد ورثت أيضًا مؤسسات الحكم البريطاني، لكنها أضافت عليها مؤسسة قويّة جدًا تكاد تكون هي العماد الرئيس للدولة، أي الجيش. لقد كانت إسرائيل من الدول الفريدة التي تقوم على تحوّل عصابات إرهابية إلى جيش نظامي يُنشئ بدوره مؤسسات حكم مدنية لاحقًا. على الطرف الآخر من المقارنة السريعة تأسست المملكة العربية السعودية عام 1932، أي قبل سنوات قليلة من استقلال سوريا ومن زرع إسرائيل، لكنّ المملكة لم تنل حظّها من إرثٍ مؤسساتي متطوّر تركه لها العثمانيون، فقد كانت تلك المناطق على اتساعها بعيدة نوعًا ما عن التماسّ مع المنجزات الغربية في الإدارة والحوكمة، وهذا بدوره خلق فجوة زمنية كبيرة بينها وبين أقرانها مثل العراق وسوريا ومصر، لكنّ الحال تبدّل جذريًا بعد حين.

تلقّت إسرائيل دعمًا غربيًا هائلًا، وأثّر هذا على سرعة نموّها وتصلّب عودها وتمرّس مؤسسات الحكم فيها. ورغم أنّ عماد الدولة الاستيطانية كان الجيش، ورغم أنّ الغالبية الساحقة من قياداتها كانت من خلفيات عسكرية، إلّا أنّ الحكم فيها كان مدنيًا. تطوّرت مؤسسات البرلمان والحكومة والمحكمة العليا في إسرائيل لتحاكي النمط الغربي المتقدّم، ورغم أنّ هذه الديمقراطية، التي يتغنّى أصحابها بأنها الوحيدة في صحراء الديكتاتوريات الشرق أوسطية، هي ديمقراطية عرجاء تمييزية عنصرية، لأنها تستثني أهل البلاد الأصليين، إلا أنها نجحت في نقل المجتمع الإسرائيلي إلى مصافّ متقدمة جدًا على كثيرٍ من الصُعد، وليس أدلّ على ذلك من قدراتها التكنولوجية الكبيرة وتصنيعها المدني والعسكري وتميّز مراكز البحوث فيها حتى باتت محجًا لكبريات الشركات العالمية.

حاولت سوريا الاعتماد على الذات، لكنها تعرّضت لانتكاسات متتالية كانت أولها حرب فلسطين التي سُميت بالنكبة، ثم جاءها أول انقلاب عسكري عام 1949 مع حسني الزعيم، واستمرّت في مسيرتها المتقلقلة بين العسكر والمدنيين إلى عام 1963حيث استقرّت تحت حكم العسكر ثم تحت حكم الديكتاتور الفرد منذ العام 1970 وحتى يوم 18 آذار 2011. في هذا اليوم بدأت سوريا تتغيّر جذريًا، وربّما لن تعود ثانية كما ألفناها منذ آخر اقتطاع لأراضيها عام 1967 باحتلال الجولان. خلال أعوامها التي قاربت الثمانين راكمت الدولة السورية خليطًا مشوهًا ممسوخًا من التجربة الإدارية والبناء المؤسسي، فلا البرلمان منتخبٌ حقًا ولا هو بقادرٍ على التعبير عن إرادة السكان، ولا القضاء حرّ ومستقل وحيادي وبالتالي عادل، ولا الحكومة مؤهّلةٌ فنيًا للقيام بمهامها، فهي لا تملك من أمرها شيئًا سوى تنفيذ سياسة الحاكم بأمره.

في السعوديّة لعبت الثروة دورًا حاسمًا في نقل البلاد من الهامش السياسي والاقتصادي إلى عمق مركز الحضور العربي، فكانت مسيرة حكم الأسرة المالكة ضرورية لتثبيت أركان الدولة الوليدة، وها هي الآن، بعد أن اقتربت من مئوية التأسيس، تشكّل رقمًا كبيرًا في معادلات الشرق الأوسط، بل ويُحسب لها وزنها في معادلات التنافس العالمي. لم تكن الثروة وحدها بالطبع ما أسس لهذا الحضور السعودي، لكن لولاها ما كان لتلك المنطقة أن تُلحظ على الخارطة الدولية مثلها مثل كثير من الدول الهامشية في العالم، وكانت على الأرجح ستبقى نائية في مجاهل التاريخ غارقة في عبثيات الصراع بين القبائل المتناحرة على الماء والكلأ.

صنع الدعم الغربي اللامتناهي إسرائيل، وأنتجت الثروة وبعض البصيرة النافذة للملك المؤسس عبد العزيز السعودية، بينما أوقف حكم العسكر تطوّر سوريا، وحجّمها الديكتاتور الأب ودمّرها الديكتاتور الوريث. جاءت الثورة عام 2011 نتيجة حتميّة لتراكم الفساد والتسلّط، جاءت محاولة شعبيّة لوقف الانهيار والانحدار في سلّم الوجود البشري إلى درك العصور الوسطى، لكنها فشلت في إحداث التغيير، فلا استطاع الثائرون إسقاط نظام الحكم ولا استطاعوا بناء النموذج البديل، ليس سياسيًا فحسب بل على صعيد الإدارة والحوكمة وأكثر من ذلك أخلاقيًا حتى، فأين الأخلاق فيما نراه من انتهاكاتٍ ترتكبها سلطات الأمر الواقع على طول البلاد وعرضها؟ مع التأكيد على أنّ الناس لا يتحملون وزر السقوط الأخلاقي لأمراء الحرب وتجّار السياسة.

لو ذهبنا غربًا باتجاه مصر الكنانة لأصابنا العجب، فدولة كان لها قبل نصف قرن أو أكثر حضورٌ عالمي على مستوى إنشاء كتلة ثالثة بين عملاقين تقاسما سياسة العالم على مدار سبعة عقود، هي حركة عدم الانحياز، وكان لها حضور أفريقي لدرجة أنها استطاعت أن تلعب أدوارًا كبيرة في القارة، وكان لها حضور قومي عربي لدرجة أنها ألهبت مشاعر الملايين وحملت راية العروبة، سواء أنجحت بحملها أم لا، هي الآن لا تكاد تقوى على حماية مياه النيل فيها التي هي هبته كما يحلو لأهلها تسميتها! مصر التي ما عدم شعبها ولا جيشها حيلة ولا وسيلة خلال حرب الاستنزاف بين نكسة 67 وحرب تشرين 73 لإقلاق العدّو، هي ذاتها اليوم التي تبني الأسوار وتهدم الأنفاق إمعانًا في حصار غزّة التي كانت يومًا ما تتبع للإدارة المصرية بموجب الوثائق العثمانية والمصرية وغيرها مما استخدمها المفاوضون في معارك طابا القضائية!

تلك المقارنات غير عادلة، لكنها واردة وتخطر في البال، وقد يحلمُ المرء بيومٍ تعود فيه مصر إلى مكانتها، وتتعافى فيه سوريا من مرضها، وتنتقل فيه السعودية إلى مشاركة شعبية أوسع في الشؤون السياسية، علّنا نستطيع مواجهة المشاريع الثلاثة التي تتناهبنا وتأكل أرواحنا.