في كل يوم أرغم نفسي على متابعة الحلقة الجديدة من مسلسل "السنونو" لأحاول فهم العمل الفني الذي أعاد ياسر العظمة إلى الدراما التلفزيونية بعد انقطاع دام لأكثر من ثمانية أعوام. تمر كل حلقة ببرود منقطع النظير، دون أن تحتوي على أي حدث درامي.. أستمع لثرثرة فارغة بعدة لغات قبل أن تأتي شارة النهاية لتنقذ الموقف وتضع حداً للملل.
إن البرومو الترويجي للمسلسل، الذي صدر قبيل شهر رمضان الماضي، كان يوحي بأننا ننتظر عملاً سطحياً ورديئاً، بسبب ما ورد فيه من (إفيهات) مبتذلة ومستهلكة؛ لكن عدداً كبيراً من السوريين كانوا ينتظرون المسلسل الذي تأجل موعد عرضه عدة مرات بفارغ الصبر، بسبب المكانة الشعبية التي يتمتع بها ياسر العظمة من جهة، ولأن العظمة اختار شخصية "عوني الناكش" من إحدى لوحات "مرايا 97" ليعيد إحياءها في مسلسله الجديد؛ ليتهافت على المسلسل فور عرضه الجمهور الغارق بالنوستالجية ويصابون بخيبة أمل، لأن شخصية "عوني الناكش" التي يعيد تجسيدها ياسر العظمة بعد 24 سنة لا تحمل من سمات الشخصية ذاتها في اللوحة الأصلية سوى اسمها؛ فـ"عوني الناكش" في "السنونو" لم يعد تلك الشخصية الحشرية المزعجة التي تتدخل بشؤون الآخرين وتنهال عليهم بسيل من المعلومات والإرشادات الغريبة، التي سرعان ما سندرك صحتها؛ بل على العكس من ذلك، نجده في "السنونو" شخصية مملة ومتزنة، تدرك الحدود التي يجب أن تلتزم بها مع الآخرين.
فعلياً، إن الأمر الفعل الوحيد الذي تمارسه شخصيتا "عوني الناكش" في "مرايا" و"السنونو" هو التحدث باللغة الإنكليزية برداءة تولّد الإضحاك؛ وهي سمة ثانوية لا ترتقي لأن تدخل في تركيب الشخصية.
إذا ما تجاوزنا المقارنات بين "السنونو" و"مرايا"، وحاولنا أن ننظر لشخصية "عوني الناكش" التي يقدمها ياسر العظمة على أنها شخصية جديدة، فإننا سنجد أنفسنا أمام لوحة فارغة، يمكن أن نسميها بدراما اللا شيء، فهي أنتجت على غرار اللوحات باهظة الثمن، التي لا تحتوي سوى على لون واحد أو خط واحد، لكن قيمتها التسويقية تصل إلى أسعار خيالية بسبب قيمة الفنان الذي يبيعها.
هكذا هو الحال في مسلسل "السنونو"، إنه اللوحة الفارغة التي قدمها ياسر العظمة، والتي تمكن من بيعها بسبب اسمه وبفضل بعض الأسماء المشاركة في صناعة العمل معه، كـ عابد فهد وبشار إسماعيل والمخرج خيري بشارة. لكن الفارق بين اللوحات الفارغة التي تباع بمعارض الرسم ومسلسل "السنونو" أن اللوحات ستشاهدها بلحظات ولن تضيع كل هذا الوقت على متابعتها؛ فاليوم بعد أن وصل المسلسل إلى منتصف طريقه ندرك تماماً أن متابعته هي مضيعة للوقت.
إن مدة الحلقة الواحدة لا تتجاوز العشرين دقيقة فقط، ومع ذلك ستشعر أن الوقت فيها يمر بثقل كبير، رغم محاولة خيري بشارة الاعتماد على اللقطات القصيرة والمتقطعة التي تضفي على العرض حركية غير موجودة في النص. حقيقةً إن العمل الذي قام به خيري بشارة لا يحسد عليه إطلاقاً، فهو أخرج مسلسلاً يفتقد لكل مكونات العمل الدرامي التي من المفترض أن يوفرها النص الدرامي، من رسم الشخصيات والحبكة والصراع. إذ إن النص الذي قام ياسر العظمة بكتابته بنفسه لا يصلح لأن يكون سكتش قصير في سلسلة "مرايا" وقد تم تمديده وشده ليتحول إلى مسلسل من ثلاثين حلقة.
الأساليب التي اعتمدها ياسر العظمة لحشو المسلسل متنوعة وغير مرضية للجمهور، أياً كان نوعه؛ فإلى جانب الحكايات المتداخلة التي لا يرتقي أياً منها إلى حد صناعة ذروة درامية واحدة، نجد العديد من الدقائق تضيع بالأغاني السخيفة والشعر الثقيل الذي يلقيه العظمة بنفسه.
إذ يبدو أن العظمة لسبب ما يعتقد بأنه رجل حكيم، قادر على سحر الناس بإلقاء الشعر المثقل بالحكم والتنظيرات المتعجرفة؛ ربما ذلك يتماشى مع ثيمة (السكتش) الذي قدمه في "مرايا 97"، لكن الفارق الرئيسي بين العملين أن النسخة القديمة القصيرة كانت تحتوي على ملامح شخصية كوميدية ضاعت بـ"السنونو" وفيها حكاية بسيطة ولحظة ذروة درامية يمكن معايشتها والتماهي معها؛ في حين تبدو أشعاره وحكمه التي يلقيها في "السنونو" كجرعة إضافية من التعذيب، يلقيها على الجمهور بعض عرض مسلسل لا يمكن وصفه سوى بأنه إعلان طويل لعظمة دولة الإمارات، التي منحته جنسيتها قبل أشهر.
إن الصدمة التي نشعر بها لا تتعلق بفشل المسلسل وسذاجة الشخصية التي يقدمها ياسر العظمة وادعاء الفصاحة في كل حركة يقوم بها
أحداث مسلسل السنونو
الحلقات الثلاثة الأولى تمر بأحاديث فارغة عن عظمة السفينة وهيكليتها الإدراية لنصل إلى لحظة إقلاعها، وبعدها ستمر أربعة حلقات دون أي حدث، لا يحركها سوى حلم سخيف عن غرق السفينة.
هكذا نصل إلى الحلقة الثامنة التي تحتوي على أول حدث، لكنه يتم بمفعول رجعي، حيث يبدأ من نهايته، عندما يقتحم ياسر العظمة الحكاية الهامشية التي كانت تدور دون أي إثارة ليكشف للجميع أن إحدى ركاب السفينة هي نصابة ويعيد لكل ذي حق حقه في سياق استعراضي يحاول فيه العظمة أن يظهر بمظهر الرجل الذكي الذي يملك وعياً ومعرفة يتفوق بهما على الجميع.
فعلياً لا يمكن أن تمر هذه الحكاية دون الشعور بالصدمة؛ هذه الحكاية التي تنتهي وكأنها لم تبدأ أبداً، تفضح سطحية ياسر العظمة وضيق أفقه، حيث إن الأساليب التي اتبعها بحل القضية بغاية البلاهة والبدائية.
إن الصدمة التي نشعر بها لا تتعلق بفشل المسلسل وسذاجة الشخصية التي يقدمها ياسر العظمة وادعاء الفصاحة في كل حركة يقوم بها؛ وإنما تتعلق بالانتقادات التي كان العظمة يوجهها للمسلسلات الدرامية السخيفة عبر برنامجه على "يوتيوب" وعبر سكتشات "مرايا"؛ فمسلسله هو نموذج تنطبق عليه كل المعايير السخيفة التي كان ينتقدها، فهو مليء بـ"الشعر والمعر" كما كان يقول، وهو فارغ من المحتوى ويعتمد على العنصر النسائي والحكايات الخاطفة التي لا طائل منها، كما كان ينتقد، وهو غير هادف وغير ناضج ولا يعرف الجمهور الموجه إليه.
إن مسألة الجمهور المقصود من العرض تبدو بحد ذاتها قضية لا غنى من الحديث عنها، فكيف تقدم مشاهد كاملة باللغة الإنكليزية دون ترجمة؟ ومن هو الجمهور الذي سيعجب بهذا العرض السخيف الذي يضم فنانين متعددي الجنسيات من المحيط إلى الخليج؟ لقد تباهى ياسر العظمة بتصريحاته السابقة حول العمل بأنه صنع ظرفاً يجمع الشخصيات من جنسيات متعددة بسياق درامي منطقي، ولم يرتكب أخطاء الآخرين الذين ينسجون عائلات بألسنة مختلفة. ربما تحاشى العظمة هذا الخطأ الشائع في الدراما المشتركة، لكنه حقيقةً لم يخلق أي سياق درامي بديل.